23 ديسمبر، 2024 8:54 م

الثورة الحسينية – قراءات متجددة

الثورة الحسينية – قراءات متجددة

تمثل احداث التاريخ ــ لاسيما المهمة منها ــ بالنسبة للأجيال اللاحقة دروسا لا يمكن الاستغناء عنها , خصوصا اذا عرفنا بأن الانسان يمتد في تكوينه النفسي والبيولوجي عبر مسارين : يمتد الى الماضي بوصفه مكونا مهما من مكونات شخصيته الثقافية وارثه الحضاري , ويمتد الى المستقبل بوصفه معبرا عن فلسفته للحياة وطريقة سلوكياته الحياتية , اما الحاضر فإنه يمثل تجسيدا لكلا الامتدادين بوصفه محطة وسطى بين الارتكاز الى الماضي والتطلع الى المستقبل , ولذلك فإنه لامجال لإنكار دور الاحداث التاريخية في صياغة حياة الافراد والشعوب , اذ ان الحاجة الى النماذج القدوات او الحاجة الى التجارب التي اثبتت صحتها تاريخيا تعد من اهم ما يصبو اليه الانسان لا سيما اذا توافر الشعور بأهمية مجابهة الواقع المعاش او تصحيحه من خلال استثمار دروس الماضي , ولا يكون ذلك الا في ساعات تنامي الوعي وتنامي ادراك سلبيات الحاضر , ممثلا بإنحرافات الفعل السياسي او وطأة الضنك الاقتصادي او ارتباك الوضع الاجتماعي , لتكون نتيجة ذلك الوعي او الشعور الايجابي تصب في هدف اساس يتمثل في فعل المواجهة : مواجهة ما هو زائف ومخطوء .
وفي تاريخنا الاسلامي تعتبر الثورة التي قام بها الامام الحسين حدثا استثنائيا بكل المقاييس ابتداءا من شخصية الامام ونسبه وعلاقته بنبي الاسلام وما تمثله هذه الشخصية في نفوس المسلمين من ثقل مقدس , ومرورا بالهدف المعلن من خروج الامام على حاكم زمانه , وقد تجسد ذلك الهدف في تصحيح المسارت السياسة التي اخذت بالانحراف آنذاك , وانتهاءا بالطريقة التي جرت فيها احداث كربلاء وطابعها المأساوي والفجائعي وما ترتب عليها من تغير وتحول في موقف المسلمين بعد المعركة التي انتهت بالثورات المتتالية والتأسيس النظري لفقه الطائفة الشيعية والشعور بالإثم والندم على عدم نصرة الامام والمطالبة المستمرة بأخذ الثأر من كل من ارتضى بقتله او تخندق ضمن الطائفة الاخرى كل تلك الامور ادت بصورة مباشرة او غير مباشرة الى ديمومة الحدث الحسيني على كافة الصعد الشعبية والرسمية والثقافية والادبية الى درجة اصبح معها التقليل من دور شأن هذا الحدث يمثل مغالطة واضحة , حتى ان المستشرق الإنجليزي ادوار دبروان : ((وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء؟ وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها.))
لقد جسد الامام الحسين في كلماته وخطبه التي قالها في خروجه فلسفة الرفض الثوري لفساد السلطة السياسية ونقول : الرفض الثوري , لأن الامام لم يكن كما جاء في اكثر من قول له من طلاب الرئاسة او الجاه فقد كان في غنى عن هذه الامور فهو ابن فاطمة بنت الرسول  وابن علي رابع الخلفاء وابن عم الرسول لذلك فأن الامام لم يكن معارضا سياسيا وانما كان مسؤولا يستشعر المسؤولية من منطلقات انسانية واخلاقية , يقول الامام الحسين ((اللهم انك تعلم انه لم يكن منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من هول الحطام لكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك وتقام المعطلة من حدودك فيأمن المظلوم من عبادك )).
ومن هنا يمكن ان نفهم اعجاب الاجانب بهذه الروحية العالية للأمام الحسين فقد قال موريس دوكابري: ((يقال في مجالس العزاء أن الحسين ضحى بنفسه لصيانة شرف وأعراض الناس، ولحفظ حرمة الإسلام، ولم يرضخ لتسلط ونزوات يزيد، إذن تعالوا نتخذه لنا قدوة، لنتخلص من نير الاستعمار، وأن نفضل الموت الكريم على الحياة الذليلة. )) , فيما اكد الكاتب الإنجليزي برسي سايكوس ديكنز : ((لنفترض إن الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فإنني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن فالعقل يحكم أنه ضحى فقط لأجل الإسلام.))
ومن ثم فأن خروج الامام واعلانه الثورة بوجه السلطة الحاكمة آنذاك لا تعبر عن ترف سياسي  او تعبر عن موقف شخصي مثلما لا تعبر عن تجبر او طغيان , من هذا المنطلق يمكن ان نفهم مقولة الامام في يوم عاشوراء من محرم وهو يفلسف خروجه بطريقة تتماشى مع العقل اولا ومع الشرع الاسلامي ثانيا , يقول الامام :((اني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر… فمن قبلني بقبول الحق فالله أوْلى بالحق. ومن رد عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ))
وبذلك وضع الامام الحجة امام خصومه قبل ان يضعها امام مريديه , هذه الحجة التي تبرهن بأن الثورة الحسينية كانت ثورة اصلاحية اولا وان هدفها ليس مرحليا بل سيظل هدفا مستمرا باستمرار الخير والشر , وعليه يمكن ان نؤصل المقولة التي تردد دائما والقائلة : (كل ارض كربلاء وكل يوم عاشوراء) على انها تجسد الديمومة التي ارادها الحسين لثورته , مثلما اكتسبت شرعيتها من حديث النبي (( ان للحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تنطفئ ابداً )) . هذه الديمومة تعد من اهم ملامح الثورة الحسينية بدليل ان هذا الحدث طالما كان شعارا لكل ثائر او رافض للظلم والفساد ولكل مظلوم او مغبون .. يقول توماس ماساريك: ((على الرغم من أن القساوسة لدينا يؤثرون على مشاعر الناس عبر ذكر مصائب المسيح، إلا أنك لا تجد لدى أتباع المسيح ذلك الحماس والانفعال الذي تجده لدى أتباع الحسين (ع) لا تمثل إلا قشة أمام طود عظيم.)) 
وانطلاقا مما سبق قوله يمكن الاشارة الى فعالية الحدث الكربلائي ومطاوعته للقراءات المتجددة على مر الاعوام وكأن هذا الحدث يصلح للمقارنة في كل زمان وهذا ما نراه الان ونحن نعيش عصر التخصص السياسي والصراعات التنافسية على المكاسب السياسية وتغير المفاهيم السياسية بشكل جذري , وعلى الرغم من كل ذلك ما زالت اهداف ومرامي الثورة الحسينية تقرأ بأستمرار وبشكل متجدد وكأنها اهداف معاصرة تصلح لزمننا دون أي تعسف, وما اجمل قول انطوان بارا الكاتب المسيحي اللبناني حينما ذكر في كتابه : الحسين في الفكر المسيحي ان :((الثورة التي فجرها الحسين بن علي في أعماق الصدور المؤمنة والضمائر الحرة، هي حكاية الحرية الموءودة بسكين الظلم في كل زمان ومكان وجد بهما حاكم ظالم غشوم، لا يقيم وزناً لحرية إنسان، ولا يصون عهداً لقضية بشرية، وهي قضية الأحرار تحت أي لواء انضووا، وخلف أية عقيدة ساروا…)) ونجد مصداق هذا الكلام في مقولة غاندي محرر الهند الكبير حينما اكد قائلا : ((لقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء واتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلا بد لها من اقتفاء سيرة الحسين.)), وليس غاندي وحده الذي طالب بالالتزام بمبادئ الثورة الحسينية فهذا تاملاس توندون الزعيم الهندوسي والرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي يقول: ((هذه التضحيات الكبرى من قبيل شهادة الإمام الحسين رفعت مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد، وتذكر على الدوام.))
وعلى صعيد اخر فقد ترك صحابة الامام في معركة كربلاء اثرا محمودا في نفوس الناس لما جسدوه من اخلاص وتفان ومبدئية عالية قد لا نجد نظيرا لها , فليس فيهم من تراجع عن النصرة او تكاسل عن اداء واجب حتى فنوا جميعا , فهذا علي بن الحسين يقول متحديا : (( والله لا نبالي اذا وقعنا على الموت ام وقع علينا )) فيما يقول صحابي آخر: (( حب الحسين اجنني )) , وبذلك فإن هؤلاء الرجال اصبحوا مثالا للوفاء للأجيال اللاحقة , وكيف لا يكونون كذلك وهذا (جون) وهو عبد اسود من الموالي يجيب الامام بعد ان اباح له الانسحاب من المعركة قائلا : ((أنافي الرخاء الحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم؟! والله لا يكون ذلك أبداً)) , وقد سجل الامام الحسين موقفهم هذا ساعة المعركة بقوله : ((الله اني لم اجد اصحاباً ابر واخلص واوفى من اصحابي )) وكأن اولئك الرجال مصاديق جلية لقول الشاعر :
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا     يتهافتون على ذهاب الانفس
حتى ان  جورج جرداق ابدى تعجبه من هذه المبدئية العالية لهؤلاء الصحابة فقال :
((حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء، وكانوا يقولون: كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون لو أننا نقتل سبعين مرة، فإننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرة أخرى أيضاً.))
ولا بد من القول ان هذا النماء المستمر في البذرة الحسينية يعبر اوضح تعبير عن آمال وطموحات كبيرة في نفوس الاجيال المتعاقبة مثلما يعبر عن الرغبة في  تحريك الوعي لدى الجماهير بغية إقامة حكومات شعبية عادلة تأخذ على عاتقها التوزيع العادل للثروات , ومكافحة كل اشكال الاعوجاج السياسي والانحرافات الاجتماعية .. انها دعوة للتلاحم والتكاتف وعدم الانجرار وراء الدعوات التي تحرض على قتل الآخرين او إقصاءهم لاختلاف في المذهب او العقيدة او الدين او الجنس او العنصر… وبالتالي فإنها دعوة الى عدم الرضوخ والاستسلام والقبول بالهوان انطلاقا من صيحة الامام الحسين في يوم عشوراء(هيهات منا الذلة) , ودعوة الى الحرية ، فقد قال عنها الإمام الحسين (عليه السلام): (يا شيعة آل أبي سفيان ان لم يكن دين فكونوا احرار في دنياكم ).
ومن كل ما تقدم يمكن ان نفهم سر هذا التعاطف الوجداني والثوري والفكري مع الحدث الكربلائي
ويبدو ان ذلك كله كان مصداقا لخلود الحسين بوصفه مجسدا لأسمى مبدء انساني , يقول الصحفي الألماني (كونسلمان): ((أدى مصرع الحسين إلى ان تصير سلالة آل محمد وعلي في ضمير كثير من المسلمين.. إنهم أنبل جنس عاش على أرض الدولة الإسلامية، وصار مصرع الحسين في كربلاء أهم حدث في مجرى التاريخ وظل هذا الشهيد رمزا للمسلمين حتى يومنا هذا، وقد أحس يزيد أن الحسين ميتا لهو أخطر عليه من الحسين حي)) , وما اجمل ابيات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد التي تصور هذه الحقيقة , وهو يقول :
فَـيا سـيّدي يـا سَـنا كربلاء          يُـلألـيءُ في الـحَلَكِ الأقـتَمِ
تـَشعُّ مـَنائـرُهُ بالـضّيــاء             وتـَزفُـرُ بالـوَجَـعِ الـمُلـهَمِ
ويا عَـطَشاً كلُّ جَدْبِ العصور       سـَيَشـربُ من وِرْدِهِ الـزَّمـزَمِ
سأطبَعُ ثَغـري على مـَوطِئَيك        سـلامٌ لأرضـِكَ من مَـلْـثَمِ !