23 ديسمبر، 2024 12:54 م

الثورة الجزائرية في الشعر العربي بين الأيديولوجيا والشعرية

الثورة الجزائرية في الشعر العربي بين الأيديولوجيا والشعرية

1-شعراء العراق

من الثابت أن الثورة الجزائرية الكبرى (1954/1962) من أكبر وأشرس الثورات التحررية في القرن العشرين ،شغلت كل الأحرار في العالم وساندها ودعمها بالمال والسلاح والتظاهر والموقف السياسي وبالكتابة والسينما والرسم كثير جدا من أعلام القرن وكثير جدا من الشعوب المحبة للحرية الرافضة للاستغلال والهيمنة، وهي بالفعل معركة الإنسان من أجل الحرية والكرامة تحت سماء الوطن وشمسه . وليس بخاف على أحد جرائم الاستعمار وتجاوزاته الكبيرة في حق الإنسان الذي وصمه بكل نقيصة ولفق لخداع العالم رسالة التمدين والتحضير لشعوب العالم الثالث البربرية والهمجية فهي رسالة الأبيض نحو الآخر المختلف لونا وعرقا وانطلت تلك الخدعة على بعض المثقفين فبرروا الاستعمار وزكوه حتى أن فكنور هوجو لما سأل جنرالا فرنسيا عما يحدث في الجزائر رد الجنرال بأن الجيش الفرنسي يسعى لنشر رسالة الحضارة وصدق هوجو الفرية.
ما تعرضت له الجزائر (1830/1962)يختلف كثيرا وجذريا عما تعرضت له البلاد العربية فالاستعمار ليس هو الانتداب ولا الحماية إنه استعمار استيطاني يقصي المواطنين الذين يسميهم المستعمر بالأهالي أو السكان الأصليين من ممارسة حقوقهم المشروعة في أرضهم فيغتصب حقوقهم ويرجعهم عبيدا وسخرة للسادة الجدد ملاك الأراضي ويمعن فيهم تنكيلا وتعذيبا وتقتيلا وسجنا ونفيا حتى يكون القهر والرعب هو هاجس الإنسان فيلوذ بالصمت والرضا ولقد أفاض المناضل المارتنيكي فرانز فانون في عمله الكبير “معذبو الأرض” في تحليل الشخصية المستلبة والمقهورة والمطموسة الملامح .
ثورة كبرى اندلعت بعد مخاض عسير سبقتها مقاومة شرسة للاحتلال وهو يدنس أرض الوطن في 1830وثورات شعبية متعاقبة أثبتت للمستعمر أن فكرة تحضير وتمدين الشعب البربري لا تنطلي إلا على المتنفعين من عملائه ،غير أن قوة المستعمر وهمجيته أخمدت هذه الثورات ولجأ المستعمر إلى فصل الجزائر عن محيطها الطبيعي العربي والإسلامي بخطاب تضليلي كالادعاء أن الجزائريين هم أحفاد الأوروبيين وأن الجزائر أوروبية منذ التاريخ الغابر ،وهكذا مضى المستعمر في محاربة مقومات الشخصية الوطنية بتحريم وتجريم تعليم العربية وتحويل المساجد إلى كنائس والإمعان في التبشير وتزوير التاريخ والإمعان في نشر الأمية وتكريس الفقر والمرض حتى تخور جميع القوى ويستسلم الشعب إلى جلاده.
وتولت الحركة الوطنية إبراز مقومات الشخصية الوطنية وحقوق الشعب ومطالبه بعد تجاذبات عديدة وانكشاف فرية الإدماج والمساواة مع المستوطنين ليصل النضال السياسي إلى تفجير الثورة الكبرى والعارمة في 1954.
ثورة ألقى بها القادة إلى الشارع فاحتضنها الشعب كما قال الشهيد العربي بن مهيدي الذي كان شديد الإعجاب بالمناضل المكسيكي زاباتا وهكذا كانت هذه الثورة مثار تأييد العالم ووقوف الشعوب مع النضال الجزائري ،ثورة خطط لها القادة ونفذها الشعب وكان الفيلسوف الفرنسي ساتر وهو أحد المؤيدين للكفاح الجزائري قد وصف المناضل الكونغولي باتريس لوممبا بالثائر دون ثورة وهو وصف يظهر الشرخ بين عمل النخبة والقاعدة وهو ما تفادته ثورة الجزائر التي كانت ثورة الشعب برمته قادة ومواطنين أنهت بعد تضحيات جسام ليلا استعماريا طويلا قهر أعتى قوة في الحلف الأطلسي.
تعاطف الشعراء العرب مع هذه الثورة وساندوها من منطلق قومي وعقيدي ومن منطلق إنساني وتوالت النصوص الشعرية المتفاوتة القيمة دلاليا وبنائيا في فضح الاستعمار والإشادة بكفاح الشعب وصبره وشجاعته وتحميس الثوار لمزيد من الشراسة والفعل الثوري وكانت هذه القصائد من الكثرة بحيث تؤلف ديوانا كبيرا يمكن تسميته” ديوان الثورة الجزائرية”يحصي مئات القصائد في الشعر العمودي وشعر التفعيلة بل إن الثورة الجزائرية وجد فيها الشعراء ذريعة إلى الدعوة إلى الشعر الحديث وتجديد القصيدة العربية فما دامت الثورة حدثا جديدا واستثنائيا وفعلا خلاقا في التاريخ لا بد أن ترصده قصيدة حديثة بكرا واستثنائية في الإبداع وفي زمنية الشعر وفرادة الصورة والإيقاع أوليس الشعر صنو الحياة ؟ أوليست الحياة حركة وانطلاقا؟ أوليس الإبداع كذلك حركة وتجديدا ورفضا للمنوال والنمطي والتقليد؟ فلم لا يمضي الشعراء في الدعوة إلى الجديد ومواكبة الأفعال الخلاقة في التاريخ العربي وتجديد وجه القصيدة وخلاياها بدل حقن الهيكل يمعان ثورية مؤيدة للكفاح.
ولعل شعراء العراق كانوا من الكثرة في تأييد النضال الجزائري وفي إنتاج عدد لا بأس به من القصائد بحيث يؤلف إبداعهم لوحده ديوانا فخما وقصائد شعراء العراق تمتاز بشعرية كبيرة بأفقها الفني الجمالي ومنزعها الإنساني وباستعانتها بالرمز واستلهامها التراث العربي والإسلامي والأسطورة مما يكسب هذه النصوص مرونة وفاعلية وجمالية لا مطعن فيها تتخلص من آصار المباشرة والانفعالية والحماسية إلى أفق الإنسان والقيم وما هو جوهري في الخلق الفني وفي الفعل الإنساني كذلك.
إن “جميلة” الرمز والتي حولها الشعراء إلى أسطورة تخلصت من اللحم والدم ولبست إكسير البقاء والتجريد باندغامها في الفعل الثوري المجرد بالصبر والتضحية وقد أسرت هذه المرأة الرمز لب الشعراء بنضالها وصمودها والعرب عامة لأسباب أهمها وضع المرأة الذي وضعها فيه التاريخ الذكوري من آلة للإمتاع والإنجاب لتستعيد مكانتها الحقيقية في التاريخ وتغدو مقاومة ،ومنها فضح همجية الاستعمار الذي يدعي تمجيد الأنوثة والإعلاء من شأنها إذا به يعذب ويسجن أنثى، ومنها تلاحم النضال ووجود المرأة والرجل كليهما في خندق واحد وهكذا تتجلى الرسالة الإنسانية والحضارية لفعل إنساني واحد للرجل والمرأة فالحرية غايتهما معا والمصير واحد كذلك.
هاهو الشاعر العراقي شفيق الكمالي(1929/1984) يتخلص من أيديولوجيته لصالح الجوهري في الفن والفعل الإنساني ،شفيق المتحمس للبعث برعونة حتى إنه قال:

آمنت بالبعث ربا لا شريك له
وبالعروبة دينا ماله ثـــــــــان
ينتج نصا في جميلة متزنا يحيل على التاريخ وينطلق في أفق شعري رحب يتسم بالمرونة والتجريد:
هي لن تموت فخولة
لما تزل
تلوح في العتمه
ياقوتة خضراء بسامه
فجدتي تحكي لنا عنها
عن سيفها الذي تهابه الرقاب
وزندها الأسمر
وكيف كانت بالعصا تشتت الكفار
وأنقذت ضرار
لكن جدتي لا تسمع الأخبار
لم تدر أن خولة
عادت إلى الوجود بزندها الأسمر
لكنهم يدعونها جميلة
تعيش في قلب الثرى الأحمر
حمامة سجينة
ما أروع السجينة
ما أروع الصمود من جميلة
وهذا النص تحديدا عبر إيقاعه الداخلي وموسيقاه الخارجية ينفتح على شعرية كبيرة ويستلهم في ذات الوقت التاريخ الإسلامي وتأتي الألفاظ لنفتح على حقول دلالية تمزج الغابر بالراهن ليتصل التاريخ ويغدو واحدا، تاريخ الفتح والمقاومة والشهادة ويتحيز للجنوب في صراعه ضد الشمال الغاصب فالسمرة لها دلالة على الجنوب في دلالة مضادة لخطاب الأبيض المستعمر أو حضارة البشرة البيضاء .
وهكذا تتماهى خولة مع جميلة فالبطلة تستنسل ذاتها في تواصل فريد فهي الياقوتة الخضراء النادرة التي تحيا في ثرى مضمخ بدم الشهادة وتصمد إلى النهاية.
وفي نفس السياق يواصل الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي(1926/1999) شاعر المنافي وشاعر الإنسان وشاعر الفعل الخارق والنص الخارق المديد الذي لا يركع ولا يتكسب، يواصل هذا الشاعر اندغامه في النضال الجزائري ومتابعته عن كثب لأحداث الثورة وإنتاج نصوص إنسانية في المقام الأول وشعرية كبيرة في تخليد وتأييد كفاح الإنسان ضد الطغيان أوليس هو الشاعرالإنساني الذي تغنى بثورية لوركا وإنسانية أراغون وأشاد بهما.وقد أفاد البياتي كثيرا من مطالعته للنصوص الصوفية لكبار متصوفة الإسلام خاصة ابن عربي وأفاده ذلك في تخليص الشعر من آصار المباشرة والانفعالية والتهويل وخلص إلى جوهر الشعر.
كتب الشاعر نص “الموت في الظهيرة “في تمجيد نضال الشهيد العربي بن مهيدي وعبر العتبة الأولى وهي العنوان الذي يحيل على معنى اشتداد الحر وارتفاع الشمس إلى السمت ثم بدء انحدارها للمغيب فقد اشتد حر النضال وأزفت ساعة المستعمر ورحيله عن أرض الجزائر:
قمر أحمر في نافذة السجن
وحمامات وقٍرآن وطفل
سورة النصر وفل
من حقول النور من أفق جديد
قطفته يد قديس شهيد
ولدته في ليالي بعثها شمس الجزائر
ومن غير شك أن البطل العربي بن مهيدي الذي لاقى صنوفا من التنكيل وألوانا من التعذيب وتجرع غصصا وآلاما قد تجرد من شرطه الإنساني وقيود الزمان والمكان وانقلب أسطورة في الفداء والصبر والتضحية وأصبحت ابتسامته في وجه جلاديه شفرات تقطع أوردتهم وتسخر من جبروتهم الذي يلاقي شعبا أعزل بسيطا .
يتفاعل البياتي مع هذه التجربة الإنسانية ويقتنص اللحظة الشعرية باحترافية بعيدا عن المباشرة ويقبض على ما هو جوهري وخالد في حياة الإنسان ورسالة المقاومة في تكريس وضع أفضل للإنسان بعيدا عن الاستعباد والعسف فالقمر أحمر وللحمرة دلالة الثورة والحركة فهذا اللون كما هو لون العشق هو لون التضحية والعشق واحد عشق الوطن والمرأة فهما يهبان الحياة ومن أجلهما تهون التضحيات وللحمامة والقرآن دلالات تحرك الوجدان وترسل المعنى مكثفا وهذه هي قيمة الترميز والاستعانة بالأساطير والتراث الشعبي لأنها تقول ما تقوله مجلدات برمتها في جمل مكثفة مركزة شديدة الإيحاء فالحمامة ببياضها رمز للوداعة والتسامح وعدم الأذية وهي صفة العربي عامة والجزائري خاصة هنا، والقرآن يحيل على الشهادة والحياة التي يبتغيها الشهيد ،الحياة الباقية الخالدة في الفردوس (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون )وسورة النصر تحيل على اليقين بالنصر حين تطلع مواكب النور وتشرق شمس الجزائر وهنا يتخلص الشاعر من المباشرة فعبر عن الاستقلال بموكب النور وعن الحرية بالشمس .وأكسب النص إنسانية وشعرية وجمالية في ذات الوقت والبياتي في هذا فريد في المضمار الشعري.
ولا تتخلف الشاعرة العراقية نازك الملائكة(1923/2007) عن الركب المشيد بهذه الثورة ،هذه الشاعرة التي ركبت موجة الجديد وكانت عرابه واتخذت من الحزن وشاحا ومن صبر النخيل نسغا شربته فاكتسبت أشعارها رواء ونقاء ،هذه الشاعرة البديعة تفاعلت مع الثيمة المفضلة للشعراء في وقتها “جميلة” فهي تقول لها:
جميلة تبكين خلف المسافات خلف البلاد
وترخين شعرك،كفك ،دمعك فوق الوساد
أتبكين أنت؟أتبكين جميلة؟
أما منحوك اللحون السخيات والأغنيات؟
ولاشك أن الحزن يلف المرء بشئ من السكينة لذا تبتعد نازك الملائكة عن المباشرة والتهويل وتحلق في أفق شعري مدركة تماما جوهر الشعر وكنه الإبداع إلا أنها هنا اتسمت بسيماء السذاجة فبكاء جميلة لا يتناسب مع الموقف الإنساني المتسم بالصبر والثبات والسخرية من الجلاد ألم تغدو ابتسامة العربي بن مهيدي ثيمة لكثير من الشعراء والفنانين ؟ فهنا أضرت بالبطلة فالبكاء رمز للخوف وليس رمزا للثبات والقوة ولعل كون الملائكة في ذلك الوقت في بواكيرها الشعرية انحدرت هذا المنحدر في هذا النص الذي يتفوق عليه نص البياتي في العربي بن مهيدي كثيرا.
والسياب(1926/1964) لا يمكن أن يغيب عن هذا المشهد الشعري الحافل بالتضحية والبطولة وهو الشاعر الذي تغنى بالبعث وبتموز وأدونيس ، السياب اليساري المتطرف أولا والقومي مختتما المبشر بميلاد جديد وغد عربي أفضل تشرق فيه الشمس على الجميع وتتحقق النهضة المنشودة وينتهي الإقطاع والاستعباد ويتخلص من الرجعية ،شاعر المرأة والحب والحرمان وشاعر الأوطان الجريحة والقيم المستباحة كالحرية والعدالة والكرامة وشاعر التفاؤل كذلك تغنى بثورة الجزائر ورأى فيها مواكب النور وبشارة بغد عربي أفضل فقهر الاستعمار الفرنسي هو قهر للإمبريالية برمتها ووأد لها يتخذ في نص” رسالة من المقبرة” كرمز للموت والتفسخ والانحلال ومن كلمات محددة توحي بالتعفن والموت: الدود، الرمل الذي لا يفصح إلا عن الإقفار والريح العقيم والضريح الذي يحيل على الانتهاء والركود والسكون ومن هذه الألفاظ المفتوحة على أفق دلالي ليس فيه غير الموت والفناء والانتهاء إلى أفق جديد قوامه البعث والميلاد والحياة الجديدة التي يكرسها الشعب الجزائري بنضاله ومن ثمة توهب الحياة لجميع الأقطار العربية لأن الموت واحد بهمجية المستعمر:
من قاع قبري أصيح
حتى تئن القبور
من رجع صوتي وهو رمل وريح
من عالم في حفرتي يستريح
والدود نخار بها في ضريح
من عالم في قبري أصيح
لا تيأسوا من مولد أو نشور
وواضح الانفعالية عند السياب وحماسته الثورية التي تجلت في لوذه بقافية الحاء وما تحمله من شجن وتكراره للفظة الصياح ، وتعلقه الشديد بلعب دور النبي أو العراف الذي يأتي بالبشارة .
ولم يشذ الجواهري (1899/1997) شاعرالرفض والإباء عن رفاقه شعراء العراق فهو كذلك ملتزم بقضايا الأمة العربية وقضايا المظلومين حيثما كانوا وفي كل زمان وهذا هو الشاعر الحقيقي إنه شاعر الموقف وشاعر الإنسان وهو ذاته ظلم ونفي ومات منفيا وهكذا تماهت حياته مع رسالته الشعرية كأنهما اللحمة والسدا .
في نص بليغ كلاسيكي فخم يهيب بالكفاح الجزائري مقتبسا عن المتنبي وثبته وقوته وانطلاقته:
ردي يا تفس حياض الردى واتركي
حياض خوف الردى للشاء والنعـــم
يقول الجواهري:
ردي علقم الموت لا تجزعي
ولا ترهبي جمرة المصـــرع
فما سعرت جمرات الكفـــاح
لغير خليق بهــــــــــــا أروع
دعي شفرات سيوف الطـغاة
تطبق منك على المقطـــــــع
فأنشودة الموت وقعــــــــــت
على غير أوردة قطـــــــــــع
ولاشك أن قافية العين وما فيها من حدة وجلبة وفزع واختيار المتقارب بتفعيلة (فعولن) المتكررة كموج البحر في سرعة وخفة تحدث في نفس المتلقي انفعالا وتهز وجدانه ثم الألفاظ التي يتخيرها الجواهري من رصيده الفخم والشاسع حتى لكأنك تقرأ أبا تمام أو المتنبي بل الفرزدق وجرير.
تغلب العاطفة هنا الشاعر فينطلق معها ويشده الانفعال فتأتي لغته انفعالية كذلك والمباشرة ظاهرة هنا ولكنها لا تقدح في شاعرية الشاعر وأصالته كذلك .
2-شعراء سوريا
وشعراء سوريا هم أيضا يشكلون ديوان شعريا لوحدهم في الإشادة بالثورة الجزائرية وفي تمجيد صناعها سواء أكانوا شعراء عموديين أم تفعيليين وواحد منهم قومي المنزع اتخذ من ثورة الجزائر رسالته الشعرية والحياتية معا ولاغرو فالقومية لا تفرق بين الأوطان العربية وحيثما ينتفض شعب عربي يكون الشاعر القومي في نفس الخندق ولو بالكلمة والرسالة الفنية ولقد أحس الشاعر سليمان العيسى(1921/2013) بقصوره في مواكبة الحدث الثوري وكأن الكلمة لا تكفي فاعتذر للجزائر عن ذلك :
ألف عذر يا ساحة المجد يـــــــا
أرضي التي لم أضمها يا جزائر
بيديك المصير فاقتلعي ا لليـــــــ
ل وصوغيه دافق النور بــــــاهر
وفي شعر سليمان العيسى شعرية لا تخفى واستلهام للتاريخ العربي والإسلامي وهدوء واتزان عاطفي وصور فنية مبتكرة وصدق في التجربة الشعرية فهو الشاعر الملتزم بغير ضوضاء أو اتخاذ الموقف ذريعة إلى الوجاهة والذيوع وحتى زوجته السيدة ملكة أبيض اندغمت معه في النضال مع الجزائر فهي مترجمة الروائي الجزائري مالك حداد إلى العربية وهو الروائي الذي كتب بالفرنسية ليقول للفرنسيين بأنه ليس فرنسيا وأعلن أن الفرنسية هي منفاه وهكذا يتحد الزوجان في الهم العربي من خلال القضية الجزائرية وقد كان الزوجان يستضيفان حداد في بيتهما بدمشق.
ويأتي في طليعة شعراء سوريا المساندين للكفاح الجزائري والمتحمسين له الشاعر الكبير نزار قباني(1923/1998) شاعر الانطلاق والحب وشاعر المرأة كما يلقب هذا الشاعر الجرئ الذي هز الخيمة العربية واقتلعها على العرب من أوتادها وألقى بها في الهواء حين تجرأ على مناقشة معنى الرجولة والحياء والأنوثة وأمعن في الحديث عن المتعة بشبقية وفي رسم خارطة الجسد الأنثوي وتضاريسه واتكأ على معجم شعري حديث لا يهمل الحواس الخمس وهي تقتنص الجسد النسائي وتمعن في تصويره والتشهي بالحديث عن متع المرأة وحميمياتها ،هذا الشاعر الذي نعى على الحكام فيما بعد بغيهم وركونهم إلى الدعة ومساندة الغرب الظالم حفاظا على كراسيهم منذ “هوامش على دفتر النكسة” إلى أن تساءل في شيء أقرب إلى اليأس “متى يعلنون موت العرب”؟ يتخذ هو كذلك من جميلة ثيمة شعرية فقد غدت المرأة مضمارا شعريا لكل جواد مقوال يقول نزار:
الاسم جميلة بوحيرد
رقم الزنزانة تسعون
في السجن الحربي بوهران
والعمر اثنان وعشرون
عينان كقنديلي معبد
والشعر العربي الأسود
كالصيف
كشلال الأحزان
تاريخ ترويه بلادي
يحفظه بعدي أولادي
تاريخ امرأة من وطني
جلدت مقصلة الجلاد
امرأة دوخت الشمسا
جرحت أبعاد الأبعاد
ثائرة من جبال الأطلس
يذكرها الليلك والأطلس
يذكرها زهر الكباد
ما أصغر جان دارك فرنسا
في جانب جان دارك بلادي!
فالعينان والشعر الأسود الغجري الذي يسافر في الدنيا كما تغنى بنعومته وسواده نزار عاد هنا رمزا للعربية السمراء المناضلة والتاريخ تتناسل أمجاده وبطولاته ولا يفل الحديد إلا الحديد وما أصغر جان دارك فرنسا بالقياس إلى جان دارك الجزائر، فالشاعر يعلن انتسابه من خلال النسبة إلى الجزائر” بلادي” وهو المنزع القومي الذي صدرت عنه النصوص العربية في غالبيتها المشيدة بهذه الثورة العظيمة.
3-شعراء مصر
وفي مصر مهد التجديد في الشعر والنثر على السوية ومهد الحركة النقدية الخصبة التي دشنتها جماعة الديوان وأبولو ، مصر عبد الناصر والقومية العربية ومناصرة حركات التحرر، وعلى أراضي الكنانة استمر النضال السياسي للقيادات الجزائرية ومن إذاعة” صوت العرب” كانت الملايين تنتظر بيانات الثوار وأخبار المعارك بصوت المذيع الجهوري الذي يجعل الفرائص ترتعد لفخامة الصوت وروعة التقديم المندغم مع تفاصيل الحدث الثوري ، شعراء كثر كتبوا نصوصا عن ثورة الجزائر لا يعدهم حصر ولا يأتي على ذكرهم جميعا قلم لكثرتهم ومن الشعراء العموديين محمود غنيم(1902/1972) الذي كتب نصوصا كثيرة عن هذه الثورة من منطلق ديني وقومي معا وكأن الشعراء المحافظين على عمود الشعر لم يرتضوا إلا الاندغام في الهم القومي ومساندة الثورات والتحرر كي لا يتهموا بالرجعية والانفصال عن الواقع وكان رواد الشعر الحديث يأخذون عليهم التقليد والمحافظة والانفصال عن الحياة الراهنة بزخمها وتناقضاتها ويومياتها يقول محمود غنيم:
جبل الجزائرأنت يــــا
أوراس جبال المجازر
هل فيك شبر لم يحظ
به دم من جرح ثائـــر؟
مثل لعمري أنت لـــل
حرية الحمراء سائـــر
وهو يحيل علي بيت شهير لشوقي:
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يــدق
ومحمود غنيم بالرغم من كلاسيكيته إلا انه اقترب في لغة شعرية سهلة واضحة بعيدة عن الفخامة والرصانة والمتانة التي نجدها عند الشعراء المحافظين وثيمته المفضلة هي الأوراس وهو كذلك ثيمة مفضلة لبعض الشعراء فهو رمز انطلاقة الثورة وهو معقل الثوار والمتمردين إنه المكان الذي يؤويهم ويخفيهم ويحميهم وهو الباذخ الذي يطاول أعنان السماء بغارب كما وصفه ابن خفاجة الأندلسي إنه ملجأ الأواب المتبتل والثائر المتمرد فلا عجب أن يغدو الأوراس ثيمة شعرية مفضلة كما كانت جميلة الإنسان والأنثى والثائرة وهذا التنوع في الثيمات الشعرية يضفي على ديوان الثورة الجزائرية التنوع والتجدد والخصب ولا يسير على منوال الرتابة والاجترار والنمطية والتآكل بفعل الزمن .ومثل محمود غنيم أبدع كثير من شعراء مصر نصوصا في نصرة الثورة والإشادة ببطولات وتضحيات الشعب لا تختلف كثيرا عن نصوص محمود غنيم.
غير أن أهم شعراء مصر الذين كتبوا نصوصا للثورة الجزائرية هو أحمد عبد المعطي حجازي(1935-) وهو كشعراء مصر وسوريا الذين ركبوا موجة الجديد وتحمسوا له وأنتجوا نصوصا في ضوئه وتصدوا لهجمات المحافظين واندغموا في الهم العربي وآصار الواقع وخلصوا الشعر من دواوين الحكام وليالي المناسبات وتبعية القصيد لبيت المال في استمرار فاضح لظاهرة التكسب التي مارسها بلا حياء كثير من الشعراء في العصر الحديث ، يتخلص حجازي من المباشرة والتهويل والانفعالية وينطلق في أفق الترميز والتجريد ومواكبة الإنساني والجوهري مستلهما التاريخ والتراث العربي الإسلامي وثقافة اليسار والنضال الإنسانية وهو ما يعطي لنصوصه جمالية خاصة وتلقيا استثنائيا :
يا زمنا راح
أنذا أبكيك ولكني
أشهد ميلادك في أوارس
فاشتدي أيتها الريح العربية
دوري في نار الحرية
فالنوستالجيا للزمن الأخضر زمن الفتح والنصر والبناء الحضاري كما كان في قرطبة وبغداد قد تبعث على الانكسار والهوان بهذا الواقع الهزيل ولكن الميلاد في الأوراس وهو أيضا ثيمة مفضلة لحجازي يبعث على التفاؤل واليقين بالانتصار الحتمي وتأتي رمزانية الريح التي لا تبقي ولا تذر وهي ريح أسطورية اتخذها القرآن الكريم وسيلة لقطع دابر الكفار والعصاة مرة هي الريح العقيم ومرة أخرى هي الريح الصرصر العاتية فالريح والإعصار كلمان شعريتان بامتياز عوض الألفاظ المباشرة .
وفي المحصلة كانت ثورة الجزائر العظيمة ثيمة مفضلة لكثير من الشعراء العرب سواء من كتب على نمط القصيدة القديمة أم الحديثة لاعتبارات إنسانية وقومية ودينية ووجد فيها شعراء القصيدة الحديثة مضمارا شعريا للمنافسة والتجديد وحداثة المعنى ومواكبة المتطور والراهن والانتصار للإنسان الكادح والمسحوق وتخليص الشعر من القصور أو المناسبات والتكسب الفاضح وعبر الثورة الجزائرية أمعن الشعراء المحدثون في ممارسة التجديد في القصيدة من حيث البنية والمضمون وفي استلهام التاريخ والتراث القومي و الشعبي والترميز والاستعانة بالأسطورة والانفتاح على الثقافة الإنسانية العالمية ورموز الكفاح العالمي وتحضر بقوة ثيمات معينة كجميلة والأوراس مما يدعو إلى القول بثقة كبيرة إن الثورة الجزائرية لوحدها تشكل ديوانا فخما في الشعر العربي الحديث.
وإن وجد في بعض الأشعار بعض الهفوات في ذكر أسماء الأماكن أو هفوات في التاريخ والثقافة المغاربية عامة فذلك راجع لنقص المعلومة والعزلة التي وضع فيها الاستعمار الشمال الأفريقي بله إن النبذ له تاريخ في الثقافة العربية منذ وصمت بلاد المغرب العربي بأنها “كم الثوب” و”ذيل الطائر” ومنذ أن انتقد الصاحب ابن عباد كتاب العقد الفريد لاتخاذه شعر المشارقة مرجعية وهي عقدة استحكمت عند إخواننا المشارقة وأفاض في الحديث عنها عبد المالك مرتاض في مؤلفة “العقدة المشرقية المغربية” وكتب فيها المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري ، لكن عزلة الجزائر مع الاستعمار الفرنسي لا مثيل لها فانقطعت أخبارها عن المشارقة ثم الرقابة الاستعمارية المفروضة وهذا ما يفسر بعض الخلل في بعض الأشعار ناهيك عن بساطة وسائل الإعلام في ذلك الوقت بالقياس إلى الثورة التقنية في الإعلام والاتصال التي نحياها اليوم.
ولقد كانت الأيديولوجيا معينا لبعض الشعراء خاصة من القوميين أو اليساريين ولا يعيبهم ذلك مادام المرء يحتاج إلى عقيدة وأرضية يستمد منها قناعاته وأفعاله ومواقفه الفكرية والنفسية وبهذه العقيدة يسترخص المرء كل شيء في سبيل المبدأ ومنه يستمد الشاعر الصور والمواقف والمعاني ولكن بالنسبة لبعض الشعراء كانت الأيديولوجيا ضارة بإنتاجهم الشعري فسقطوا في فخ المباشرة والخطابية والتهويل وكان شعرهم في الثورة الجزائرية أقل قيمة من شعر البياتي مثلا حيث يحس المرء بالمنزع الإنساني واندغام العبارة والصورة الشعرية والإيقاع فيما هو جوهري وإنساني ومتجرد عن قيود الزمان والمكان محلقا في أفق الشعرية والإنسانية بصفة عامة.
ولبعض الشعراء ممن لم يعد يذكرهم التاريخ لم تكن الأيديولوجيا إلا قناعا سرعان ما سقط على القناع كما يقول دوريش فموج الزمن يأتي على هذه الذريرات ويطمسها إلى الأبد فلم تكن الأيديولوجيا إلا مطية للذيوع وركوب الموجة مادامت الثورة حديث الشعر والنثر معا وحديث الساعة وهذا الإنتاج هو أضال من أن يتحدث عنه كاتب أو ناقد.