19 ديسمبر، 2024 12:40 ص

الثورات العربية والشبكة العنكبوتية بين تداعيات الماضي وإشكالية الحاضر

الثورات العربية والشبكة العنكبوتية بين تداعيات الماضي وإشكالية الحاضر

إذا كانت الثورات العربية اليوم هي إحدى النتاج البعيد للتقدم الالكترومعلوماتي الذي حصل في العالم المتقدم والغربي منه بشك خاص, فهي يفترض أن ترتبط اشد الارتباط بطبيعة العصر وآخر منجزاته, وخاصة في مسحته العامة المتمثلة في استنبات فكر العدالة الاجتماعية والديمقراطية وإيديولوجيات التحرر الاجتماعي والتي شكلت بمجملها ظروفا تراكمية مواتية لتحقيق تلك الانجازات, وليست فقط في استخدام التقنية المعلوماتية كأداة أو وسيلة  لأحداث فعل الثورة فقط, فهناك فرق كبير بين استخدام التقنية في كل مكان وبين ظروف استنباتها في الأرض التي أنتجتها, ولا يعني بأي شكل من الإشكال أن مستخدم التقنية هو حامل للفكر الذي أنتجها, وتلك هي احد المفارقات في انتشار التقنية في بقاع العالم دون أن يرافقها تحديث للقيم والإيديولوجيات مطابقا له في الأرض الأم التي ابتكرتها حتى وان كان ذلك مطاوعا لخصوصية مختلف المجتمعات التي تستخدمها, فالجميع اليوم يستخدمها, من الإرهابي القاتل للانقضاض على ضحيته, والسياسي الناشط لترويج خطابه, والدكتاتور لمسخ وتشويه عقول الناس, والمتطرف الديني والعنصري لإثارة الفتنة والتعصب بألوانه, إلى جانب الأعمال الأخرى ذات الطابع المهني والإداري والحكومي لتسهيل الأعمال العامة وغيرها !!!!.

ومن المسلم به أن المجتمعات القائمة على الثورة المعلوماتية وتقنياتها هي مجتمعات تحسن استخدام المعرفة في تسير الأمور واتخاذ القرارات السليمة والمدروسة عبر المعالجات الدقيقة لها مما يحد أو يضعف من سقف ارتكاب الأخطاء المختلفة, ويمكن القول أن العنصر البشري المتسلح بالمعارف العصرية هو الأساس لكل تنمية بشرية واقتصادية واجتماعية وسياسية, وهو العنصر الفاعل لإحداث التغير السياسي نحو الأفضل بمقاييس العصر وتطوره, وبالتالي يعتبر الإنسان هو الفاعل الأساسي وهو معين الإبداع الفكري والإيديولوجي والمعرفي والمادي, كما انه الغاية المرجوة من أي تغير شامل أو تنمية بشرية باعتباره العنصر الفعال الذي يؤثر ويتأثر ويبدع ويسوق إبداعه وينهل من إبداع الآخرين. ويأتي في هذا السياق دور شبكات التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتوتير ويتوب وغيرها من مرئية ومسموعة ومكتوبة لتكون النواة المطلة على العالم وتجاربه, وخاصة في لحظات التغير والتحول الحاسم !!!.

المهم في كل هذا ليست أن تمتلك الجهاز أو الأداة التي تعينك على إحداث فعل التغير واندفاعاته الأولى, بل المهم في كل ذلك أن تحول الأداة إلى مستنبت في البيئة التي يجري فيها التغير, وما يترتب على هذا الاستنبات من عمليات لازمة ومصاحبة له في البيئة الاقتصادية, كإعادة هيكلتها وبنائها على أساس التكنولوجيا المعاصرة, وبشكل خاص تكنولوجيا المعلومات, ثم البعد الاجتماعي وما تمليه عملية الاستنبات من تحول في القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية والاتجاهات السلبية السائدة, ابتداء من نظرة الفرد إلى نفسه والى أسرته ومحيطه الأوسع وعلاقته بالجنس الآخر, وكذلك البعد التربوي والثقافي والتعليمي الذي يعطي أهمية خاصة للمعلومات والمعرفة والاهتمام بالقدرات الإبداعية للإفراد وتوفير المناخ اللازم للقابلية الفردية للنمو في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية, ونشر العلم والمعرفة والثقافة الحرة بين مختلف الشرائح والطبقات والفئات الاجتماعية. وتأتي هنا الأهمية القصوى لنشر التعليم على نطاق واسع بمختلف مراحله, بدء من الحضانة ورياض الأطفال صعودا إلى الجامعات ومراكز البحث العلمي والتقني, ويتزامن هذا مع المحو الشامل والكامل للامية الأبجدية والحضارية, فليست من المعقول أن تستنبت تكنولوجيا المعلومات في بيئة فيها الأمية أكثر من 45% من السكان وتتراوح فيها أمية النساء 80% !!!.

كما أن تحديث البنية السياسية على أسس عقلانية قوامها استخدام المعلومات ومراجعتها بروح نقدية وعدم الاستسلام للنصوص الجاهزة بمختلف مظاهرها, الدينية والاجتماعية والفكرية والإيديولوجية, ويعتمد هذا بشكل كبير على حرية تداول المعلومات وتوفير مناخ سياسي مبني على الديمقراطية والتعددية السياسية والعدالة والمساواة وإقحام الجماهير في عملية اتخاذ القرارات والمشاركة السياسية الفعالة. طبعا ناهيك عن البعد التكنولوجي الذي يعني ضرورة الاهتمام بالوسائل الإعلامية والمعلوماتية وتكييفها حسب الظروف الموضوعية لكل مجتمع سواء من حيث مدخلاتها وبرمجياتها, وكذلك توفير البنية اللازمة من وسائل اتصال وتكنولوجيا الاتصالات وإشاعتها على نطاق واسع بين الناس.

في السياق التاريخي فأن الأنظمة العربية  قد فشلت لعقود خلت في إحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والتي ترتكز بالأساس على الأخذ بمعطيات التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي وآخرها تقنية المعلومات, والتي تستند بشكل أساسي إلى كفاءات وقدرات الطبقة الوسطى, تلك الطبقة التي يفترض أن تكون مبدعة ناقدة ومحللة, طبقة من المفكرين والمبدعين والعاملين, طبقة قادرة على استيعاب العلم وتوظيفه في خدمة المجتمع, طبقة قادرة على استيعاب وتطوير وتوطين التكنولوجيا واستنباتها, تلك الطبقة القادرة على تحقيق التوازن الاجتماعي والسلام الاجتماعي, وتحقيق الترابط بين الطبقة العليا والدنيا, وهي الطبقة القادرة على تحريك المجتمع نحو التقدم, من خلال منهجية علمية وسياسية محددة وخطط وبرامج تنفيذية. وهي الطبقة المؤسسة للمجتمع المدني بكل مؤسساته, وهي أساس القيادات في العمل النقابي, وفي العمل السياسي من خلال الأحزاب السياسية, ومن خلال مختلف الاتحادات والهيئات غير الحكومية. الطبقة الوسطى هي طبقة المهنيين: من أطباء, مهندسين, مدرسين, أساتذة جامعات ومحامين, وهي كذلك طبقة العلماء المشتغلين بالبحث العلمي, وأيضا طبقة التكنولوجيين أو كوادر جماعات التكنولوجيا والمؤسسات التكنولوجية, وهي طبقة المديرين الناجحين الذين يقومون بالتخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقويم للمشروعات وهي طبقة القادة العسكريين, وتشمل كذلك حملة المؤهلات العليا وبعض المتوسطة والمثقفين وكبار أصحاب الحرف والتجار وأصحاب المهن الحرة أصحاب الصناعات الصغيرة, وهي الطبقة الحامية للهوية الثقافية للأمة, وهي الأكثر طواعية لمجاراة ظروف العصر والاستفادة من التقدم الحضاري العالمي.  والميزة الأساسية في الطبقة الوسطى رغم عدم تجانس أبنائها أنهم يعتمدون على عملهم وفكرهم ولديهم طموحات وتطلعات عالية ومعظم أفرادها متعلمون تعليما متوسطا أو عاليا.

لقد لعبت الشرائح الاجتماعية الوسطى دورا ايجابيا في مطلع القرن الماضي وفي عقد الستينات وبداية السبعينيات في حركة التحرر الوطني في المنطقة وتصدرت قيادتها, في الأحزاب البورجوازية الوطنية وحتى في الأحزاب اليسارية من ماركسية وشيوعية وغيرها وقدمت تضحيات جسام, والى اليوم وبغض النظر عن طبيعة أدائها وتعقيدات الظروف المصاحبة لعملها فهي لازالت تتبوأ مكانة متقدمة في هذه الحركات انطلاقا من سقف طموحاتها العالي, إلا إن دور هذه الطبقة قد تآكل تدريجيا بفعل عوامل عديدة لعل أبرزها هو توقف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الذي لم يعيد إنتاج هذه الطبقة وتنظيمها على مستوى عالي, وتعرض هذه الطبقة إلى سياسات الملاحقة والاضطهاد والتصفيات السياسية والجسدية مما ساهم في إضعاف دورها في التغيرات المرتقبة, كما ساهمت الأنظمة الدكتاتورية في تهميش دورها وتحويل شرائح واسعة منها إلى تجمعات و”حشود قطيعيه ” موالية إلى حكومات الحزب الواحد, مما أصاب هذه الطبقة بالعقم الفكري والثقافي والسياسي وافقدها حيويتها و خصوصيتها الإبداعية, طبعا إلى جانب حصر أداء هذه الطبقة في ظروف البيروقراطية القاتلة وفي وسط بيئة متخلفة على كل الأصعدة !!!!.

واليوم حيث تندلع الثورات العربية على خلفية تفاعلات العوامل الخارجية, منها ما هو تقني معلوماتي من استخدام محدود للتقنية الغربية التي تجسدها شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة, ومنها ما هو عسكري الذي تعكسه التدخلات الأجنبية الغربية والإقليمية وآخر يحمل أجندة سياسية باتت معروفة لكل من يتابع الأحداث, إلى جانب اختمار العوامل الموضوعية للثورة منذ بعيد وليست اليوم والمتمثلة بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي وانتشار الفقر والأمية وانعدام الخدمات العامة المختلفة. لقد اندلعت الثورات في ظل غياب واضح لدور الأحزاب والقوى الديمقراطية والأطر القيادية الوسطى في الميدان, وكأن هذا الضعف الذاتي هو الذي خلق القوة العفوية للثورة في مراحلها الأولى والذي أدى إلى سقوط بعض الأنظمة القمعية وبقاء الآخر منها تحت الضربات الغير محسومة, وهو فعل إخطبوطي ذو طبيعة تطابق طبيعة شبكة التواصل الاجتماعي العنكبوتية المتكونة من عدة رؤوس, فما أن يخمد رأس حتى تولد رؤوس جديدة وهكذا تواصليا. إلا أن هذه القوة العارمة العفوية تتحول إلى ضعف ملحوظ عندما تنتقل من مرحلة إسقاط الدكتاتورية إلى الشروع ببناء دولة المؤسسات الديمقراطية, ذلك الضعف هو الفراغ السياسي والفكري والإيديولوجي وما يتركه من ثغرات قاسمة في تنظيم الكتل الحشدية الثائرة المتسبب من غياب الكادر الوسطي السياسي وحتى المهني والعلمي والاجتماعي والاقتصادي الذي يفترض أن يضفي على الأحداث روح التنظيم والتخطيط والتوجيه ووضوح الرؤى المستقبلية, مما انعكس لاحقا على الشباب الثائر في فوضى عارمة وانقسامات داخلية وارتكاب أخطاء جسام يصل بعض منها إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية كما فعلته النظم الدكتاتورية, ويرافقها أيضا عدم الإذعان لنداء العقل في إلقاء السلاح والتوجه للبناء !!!!!!.

أن الثورات العربية تتركنا أمام قراءات متفاوتة لها وهي تطابق طبيعتها في مختلف التوجهات والمسارات, فهي تركت لنا دروسا غنية, ففي مرحلتها الأولى تركت الانطباع الذي لا غبار عليه هو تأكيد مجدد لقدرة الشعوب على الإطاحة بأنظمة القمع والتسلط والدكتاتورية, وقد اتضح ذلك بسقوط أسطورة الأجهزة المخابراتية والأمنية التي تم بنائها لعقود, كما استطاعت هذه الثورات أن تحييد شرائح واسعة في أجهزة النظام المختلفة, والبعض الآخر منها أعلن ولائه مع الثوار, كما شكلت أطراف أخرى من النظام عامل ضغط عليه ودفعه للحوار مع المعارضة, وبهذا تهاوت بنية النظام وتماسكه من الداخل, وضعت الأنظمة العربية بدون استثناء أمام مهمة وضرورة انجاز إصلاحات جذرية شاملة في محاولة تجنب ثورات أخرى قادمة, ساهمت بشكل كبير في الترويج لأفكار العدالة الاجتماعية وضرورة بناء نظم سياسية جديدة قائمة على التعددية السياسية والديمقراطية الانتخابية, كسرت حاجز الخوف الذي كان سائدا لعقود لدى الشعب وانتقل الخوف بدوره إلى النظم الدكتاتورية نفسها من السقوط, عزز فكرة أمكانية قيام ثورة دون انتظار كافي لنضوج العوامل الذاتية المتمثلة بأحزاب المعارضة ” على الأقل من الناحية الشكلية “, وليست  من ناحية نجاحها وزخم استمرارها !!!!.

وفي مسار آخر تتعرض الثورات إلى صعوبات ميدانية تهدد انجاز أهدافها التي انبثقت من اجلها في التأسيس للحرية والديمقراطية ودولة القانون والعدل, فهناك اتضحت في الأفق بداية مشروع تركي ـ قطري ـ أمريكي لفرض أجندة تسهل فيها صعود الإسلام السياسي إلى دفة الحكم, وكان ذلك جليا في تونس والتعبئة له في مصر واليمن وغيرها مما يعرقل وضع اللبنات الأولى لتأسيس النظام الديمقراطي, كما تتضح ملامح زرع الفتنة المذهبية والطائفية والقبلية مما يهدد مستقبل النسيج الاجتماعي لهذه البلدان, وكذلك بوادر التعامل مع الخصم السياسي أو رموز الأنظمة السابقة بطريقة اخذ الثأر والتصفيات الجسدية الشنيعة, كما حصل للقذافي وابنه وغيره وزرع ممارسات الثأر الفردي و القبلي والمناطقي, مما يشكل خطرا في التأسيس لدولة القانون ومستقبل القضاء العادل, كما تظهر بوادر التعامل مع الآخر السياسي وخاصة من الأنظمة السابقة بطريقة الاجتثاث وحرمانه من ممارسة السياسة إلى الأبد, حيث تخلط الأوراق بين القاتل والمجرم من النظام السابق وبين المنتمين من النظام السابق ولم يتلوثوا بجرائم قتل, الدفع باتجاه محاكم سريعة وعاجلة وغير مستوفية لشروط القضاء العادل وإصدار أحكام عرفية للتخلص من عناصر الأنظمة السابقة, وبالتالي تضيع فرصا كبيرة لمعرفة تفاصيل أنظمة عاشت لعقود وعبثت بثروات البلاد وسرقتها إلى جانب الاختفاء السريع للآثار هذه الأنظمة, وعدم الاستفادة الكاملة من أسرارها السابقة وتحويلها إلى دروس لتأسيس دولة العدل والحق والحرية التي ستقام على أنقاضها !!!!.

أن الثورات العربية يجب أن تؤدي رسالتها التي اندلعت من اجلها في التأسيس للكرامة الشخصية والإنسانية بأوسع معانيه وعدم تكرار أو إعادة اجترار لما حصل من ثورات سابقة في تاريخ المنطقة بأشكال أو واجهات أخرى, فالثورات المعاصرة يجب أن تؤسس لبناء المستقبل وعلى ضوء تجارب الشعوب المتحضرة في بناء الديمقراطية والسلم الأهلي والتقدم الاجتماعي !!!.