الثورات العربية.. ربيع المُبتدأ وخريف الخَبر

الثورات العربية.. ربيع المُبتدأ وخريف الخَبر

كانَ إحراقُ البوعزيزي نَفسَهُ احتجاجاً على ظلمِ وجَورِ الحاكم المستبد ـ بحقّ ـ بمثابة الشرارة المقدسة التي ألهبت الجمرـ كل الجمر ـ وبعثته من سِرِّ الرماد، جَليّاً، شاخصاً للعيان، عبر ثورة أبيّة، ظلت مستعرةً، لا تَخمَد، أو تخْفُت، حتى أتت في النهاية على كرسيّ الحاكم المستبد في تونس، وبطشه، وسياطه، وصولجانه!.
وقد كانت ثورة تونس ـ بحقّ ـ فألَ خيرٍ، وباعثَ ثقةٍ في نفوس الأحرار في مصر؛ بأنّ لهم القدرة على الإتيان بقبسِ النارِ، من سِرّ ذات الرماد؛ شعلةً تهدي الثائرين، السائرين نحو الفضاء الأرحب للحرية، والتغيير السلميّ، الهادف إلى – والقائم على – العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، لكل فئات وأطياف الشعب الرازح ـ منذ عقودٍ ـ تحت نِيْرِ الظلم والاستعباد.
ولقد فرض الثوار الأحرار في كل من تونس ومصر أجندتهم الوطنية، والقومية، بل ورؤاهم الإنسانية على العالم كله، طوله وعرضه، شرقه وغربه، وهكذا ودون سابق تنبيه خرج الثوار المصريون، والتونسيون، عن طوع الـ “ماما الأمريكية” بعد أن بلغوا الرُشْدَ، وشَبُّوا عن الطوق!.

وما كان لأمريكا ـ عندئذ ـ أن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى العالمَ مُنطلِقاً، مُنفلتاً ـ وعلى غير المُقَدَّر له ـ يتنفس هواء الحرية، التي لم تفكر هي ـ مرةً ـ أن تمنحه إيّاه!. ويتحدث في بوق ليس من تلك الأبواق التي أُعَِدَّت له ـ سلفاً ـ عندما يحتاج لأن يصرخ، أو يتأوَّه؛ كي تضمن هي أن تتحكم حتى بالصرخة، وبالآهة، والتنهيدة؛ من حيث شدتها، ووقتها، ومكانها، ونبرتها، وَوُجْهَتِها!.
ولكن؛ وبالرغم من ذلك، لم يكن في مقدور أمريكا والغرب أن يقفوا ضدَّ دوافع الشعوب ـ المُلِحَّة ـ في التغيير، وتيارهم الجارف نحو الحرية والإصلاح، ولمّا كان على القائد “القطب الواحد، وشرطي العالم” أن يقول شيئا، أو يفعل شيئا (حتى ولو لم يكن لديه ما يقول، أو يفعل) ، قررت أمريكا ـ وبناءً عليه ـ أن تنتهج نهجاً جهنمياً خبيثاً؛ ابتدأته بالإعلان عن وقوفها إلى جانب نضال الشعوب المقهورة، ضد الحكام، المستبدين، الطغاة!.

واستطاعت بذلك أن تركب حصان الثورة العربية الكبرى وتشجع عليها (ضد الحكام؛ الذين طالما كانوا خَدَمَاً لها، وطوع إرادتها).
وكانت الخباثة، وكان اللؤم الأمريكي ـ هنا ـ متمثلاً في كيفية تحديد مَنْ هُمْ هؤلاء الحكام الذين يستحقون أنْ نؤلِّب عليهم شعوبهم؛ سعياً لإحداث تلك الفوضى الخلاقة المهووسين بها؛ فضلا عن محاولة إزاحة كل تلك الرموز الحاكمة التي تعتمد الثوابت، وتراعي المبدئيَّة؛ خاصة فيما يتعلق بقضايا العرب، وفي المقدمة منها “القضية الفلسطينية”.
ففي الوقت الذي كان فيه الأحرار الثوريون من العرب المفكرين والسياسيين، منهمكين – فُرادى وجماعات – بوضع التصوُّر الذي يرونه لترتيب وتحديد الدول ذات الأولوية بأن يتوقف بمحطتها قطار الثورة؛ كانت أمريكا في ذلك الوقت منهمكة في وضع الخطط التفصيلية؛ المتضمنة ترتيب وتحديد الدول المُراد إثارة شعوبها على حكامها، بل وتحديد اليوم والساعة التي تنبعث عندها الشرارة الأولى، وشارة البدء، وكان ذلك يتمّ بخُبثٍ ولؤمٍ شديدين؛ حيث كانت الأولويات لديها تختلف تماما، وجذريّاً عن الأولويات لدى الثوار العرب؛  ففي الوقت الذي كان فيه القوميون الأحرار العرب يرون أولوية تغيير الأنظمة العربية الممانعة، والمناهضة لمشاريع أمريكا وإسرائيل في المنطقة؛ في ذيل القائمة التي يجب أن يتوقف عندها قطار الثورة؛ كانت أمريكا ـ بالضد من ذلك ـ تضع تلك الأنظمة في صدر قائمة الأولويات!.

وبدلاً من أن يثور الشعب العربي على حكامه الأزليين، الأبديين، المستبدين؛ كتلك الأُسر الحاكمة في ممالك الخليج وغيرهم، رأيناهم – و يا للعجب! – يثورون على الدول ذات الأنظمة الجمهورية؛ تلك التي لديها ـ ولو الحدّ الأدنى ـ من الحرية والديمقراطية، مع كثير من الصمود، والممانعة، ومجابهة مخططات أمريكا؛ بشأن تفكيك وإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، والعالم.
و يا للأسف..! كانت قائمة ترتيب الأولوية التي وضعها المفكرون والوطنيون القوميون، معكوسة تماماً، مع قائمة أمريكا التي تلعب دائما لحسابها، وحساب الكيان الصهيوني البغيض.
وفي الوقت الذي حرصت فيه الثورة العربية الأصيلة، على الالتزام والتمسك الدائم بأن تبقى ـ كما بدأت ـ أصيلةً، سلميةً، يُحَدِّثُ مَخْبَرُها عن مَبْدَئها، تمتطي حصاناً عربياً أصيلاًً؛ حَرِصَ الشوفير – أو العربجي – الأمريكي الغربي بالمقابل على انتهاز الفرصة، واقتيادها (بنُسخَتِها الأمريكية الغربية) إلى حيث شاء، وخطَّطَ، ودّبَّر!.
واختزالاًً للوقت؛ راح يستقلُّ ـ بدلاً عن الحصان العربي الرصين ـ قطاراً دولياً، سريعاً، كثير الَجَلبَة، والصفير، أهوجَ، أرْعَنَ؛ يسير بلا عقل، ويتوقف بلا رَويّة!.

وهكذا.. وصل قطار الثورة ـ مباشرةً ـ وفي أيام قليلة، إلى كل الأنظمة الممانعة، ذات النبرة القومية العربية؛ أو حتى تلك التي تتبنى فكرة القومية الإسلامية؛ كسوريا الممانعة واليمن الوحدوية وليبيا القومية، وراح يتطلع حتى إلى إيران الإسلامية!.

وكان لزاماً علينا أن نبحث في سؤال: ماذا أرادت أمريكا من ركوب حصان (بل قطار) الثورة العربية الكبرى بعد محطتي تونس، ومصر؟! وإلى أيّ حَدٍّ نجحت في ما أرادت؟ وإلى متى نظل نحن الواقفين على الأرصفة، مشدوهين مذهولين نُقَلِّبُ أَكُفَّنا، و نُمَصمِص شفاهنا، ونحن نرى البَونَ طوال الوقت يَتَّسِع بين المبتدأ و الخبر، و الربيع يستحيلُ خريفاً، وضمير الغائب ينادي فينا طوال الوقت: أنْ حَذار..

 القطارُ يَرجِعُ إلى الخلف؟!.

(كاتب رأي وأديب مصري)