23 ديسمبر، 2024 12:31 م

في تجارب التأريخ السياسي الحديث ، يلاحظ ان المنعطفات الكبيرة التي افرزت تحولات في العديد من الدول ،كان منشأوها اخطاء يرتكبها الحكام او الامم.
ونقول اخطاء لانها تبدو اخطاءا فيما بعد، وبعد سنوات من ظهور النتائج والارتدادات الناجمة عن تلك القرارات او الاحداث .
فالامبراطورية اليابانية التي كانت في اوج غرورها وطغيانها ،لم تكن تعلم ان هجوم بيرل هاربور كان خطأ ،وانه كان اساس هزيمتها وتدميرها في الحرب العالمية الثانية .
ادولف هيتلر ، وفي لحظة انتشاء قرر غزو الاراضي الروسية ، ليتضح له بعد اربع سنوات بانه كان الخطا الكارثي وانه كان العامل الرئيسي في انهيار الدولة النازية .
هذان مثالان عن دولتين وامتين عظيمتين ولازالتا ، فكيف حينما يخطئ حكام وشعوب وجيوش دول من الدرجة الثالثة والرابعة ؟
فی مثل هذه الایام من عام 2014 استغلت جماعات مسلحة (عرفت فيما بعد باسم داعش) استغلت ضعف الدولة العراقية وضعف نظامها وتذمر شعبها لتطيح بسلطة الدولة في اربع محافظات رئيسة واولها محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل .
وكشف ذلك الحدث ، عمق هشاشة مؤسسات النظام ومن بينها القوات المسلحة ،حيث تبين ان العوامل التي ادت الى سقوط وانهيار نظام حزب البعث بقيادة الديكتاتور صدام حسين . تبين انها ماتزال ماثلة وانها ذات العوامل التي ادت الى هزيمة الدولة والنظام امام الجماعات المسلحة في حزيران عام 2014 .
والملفت هو ان هذه المقارنة بين اسباب وعوامل السقوط في نيسان 2003 ونفسها في هزيمة 2014 . قد غابت الى حد كبير عن اغلب التحقيقات التي اجريت حول اسباب ماحصل وبدأ من مدينة الموصل .

• نظرية سقوط الثمرة اليانعة

في اول مؤتمر صحفي له بعد استعادة القوات الاميركية للكويت وهزيمة القوات العراقية في اذار مارس عام 1991 ، سئل برنت سكوكرافت مستشار الامن القومي الاميركي عن اسباب عدم تقدم القوات الاميركية باتجاه بغداد واسقاط النظام هناك ، اجاب :(( لدينا وقت طويل ولدينا الكثير نفعله مع صدام حسين .. )) .
وبالفعل ، لم تكن الولايات المتحدة مستعدة لاسقاط النظام آنذاك حيث كان يمتلك عناصر القوة بمايكفي لعرقلة اية محاولة عسكرية لاسقاطه على الرغم من اندلاع ثورة شعبية عبرت بشكل او باخر عن رفض جزء لا باس به من الشعب العراقي لنظام صدام .
وبدلا من الاطاحة المباشرة ،تبنت واشنطن استراتيجية انضاج الثمرة لكي تسقط من تلقائها ، وان ذلك يشمل اضعاف النظام والشعب والوصول بمؤسسات الدولة الى حافة الانهيار وهو ماحصل بالفعل عام 2003 .
وخلال 12 عاما رفضت الادارات الاميركية الجمهورية والديمقراطية اية محاولة للاطاحة بنظام بغداد ، ولدي من المعلومات والادلة مايؤكد بان الولايات المتحدة احبطت 3 محاولات انقلابية على الاقل ابلغت بها صدام حسين وذلك في سياق تمسكها بمنهج ( سقوط الثمرة اليانعة من تلقاء نفسها ) .

• تكرار السيناريو

مشروع اسقاط نظام صدام حسين في عام 2003 كان ينطوي على ابعاد كبيرة تتعلق بنظرية ( الشرق الاوسط الجديد ) غير ان الرئيس جورج دبليو بوش لم يكن الزعيم المؤهل لقيادة تطبيق هذه النظرية .
ويتفق الكثيرون على ان الرئيس بوش كان يتمتع بقدر هائل من الرعونه والاستعراضية .
ومن اخطاءه . انه انقلب على اتفاقه مع القوى السياسية العراقية بتشكيل حكومة مؤقتة فور الوصول الى بغداد . كما اخطا بوش باختيار بول بريمر لمهمة ادارة العملية الانتقالية ، إذ تصرف بريمر خارج السياقات وصار الحاكم بأمره حيث ارتكب اخطاءا جسيمة مايزال يعاني منها العراق والولايات المتحدة .
عام 2012 كان عام مفصلي في مسار التعاطي الاميركي مع العراق . إذ جاء ابرام اتفاقية الانسحاب الاميركي مع الرجل الخطا ايضا .
فالرئيس باراك اوباما ، كان قد تبنى في تلك المرحلة رؤية ( القتال من الخلف ) وذلك انطلاقا من اعتقاد بان المعضلة العراقية التي ورثها من سلفه بوش ، عصية على الحل بالطرق والخيارات المتاحة ، وعليه قرر ترك العراق وشانه و( دع الكرة تتدحرج حتى تسقط في الحفرة ) .
هذا الاعتقاد بتقديري ظهر بشكل جلي إبان احداث الموصل . فالرئيس أوباما استعاد نظرية ( الاحتواء المزدوج ) التي تبناها الرئيس بيل كلنتون في هام 1996 لاحتواء كل من العراق وايران .
الرئيس اوباما قرر في عام 2014 تبني نظرية احتواء العراق وسورية معا من خلال ترك ( الكرة تتدحرج نحو حفرتها ) وبعدها يتم النظر في الممكنات المتاحة لمعالجة الازمة .
ويكفي الاشارة هنا الى ان الجماعات الارهابية والعنفية كانت تتحرك بكامل الحرية وتحصل على دعم كبير من حلفاء الولايات المتحدة بما فيهم تركيا وقطر ، وبرعاية اميركية وفق ما تحدث به الشيخ حمد بن جاسم في اكثر من تصريح .

• الكرة تتدحرج

اليوم حيث باتت الكرة قريبة جدا من الحفرة ، وفيما الشجرة تهتز امام هبوب الرياح بانتظار سقوط الثمرة الناضجة . اعتقد ان رؤية الرئيس اوباما ماتزال سارية المفعول منذ عام 2012 ، وان حقبة داعش وارتداداتها مجرد حلقة صغيرة في سياق سلسلة طويلة من العمليات الاستراتيجية المتعددة المستوى في العراق .
بمعنى اوضح ، ان واشنطن تعمدت ترك الاوضاع في العراق تنحدر الى ما وصلت اليه اليوم ،ليس لانها تريد ان تسقط الثمرة اليانعة من تلقاء نفسها وحسب ،والذي هو تحصيل حاصل .ايضا هي تريد ان يسقط العراقيون بانفسهم هذه الثمرة بعد ان يسقطوا جميع الخيارات المتاحة لانقاذ التجربة السياسية في النظام الحالي .
ومن سوء حظ اقطاب النظام العراقي هو ان العراق ككيان جغرافي وخزان اقتصادي عالمي ، باتت الحاجة اليه اليوم اشد ضرورة ،و تزداد اهميته يوما بعد اخر بحكم المستجدات العالمية ومنها :
الصراع الروسي الاوكراني
تفاقم المعضلة الايرانية
ازمة الطاقة
ازمة الغذاء
تفاقم ازمة البيئة عالميا
حالة الضعف والاضطراب في العالم العربي والشرق الاوسط .
الاستثمار الصيني للازمات والتمدد عالميا .
ومع هذه الاهمية العالمية الاميركية للعراق ، يغوص اقطاب النظام السياسي في العراق ، في وحول ازمات هم جزء منها وهم من ساعدوا الخارج على تعميقها وتفريع متاهاتها .
وفي الواقع لا اميركا ولا دول المنطقة مهتمة بصراعات العراقيين ،بقدر مايهمها مدى انعكاس هذا الصراع الداخلي على امن واستقرار المنطقة.
في هذه النقطة المقلقة ، تعتقد الدول العربية ان الصراع على السلطة في بغداد قد ادى الى غياب العراق عن دائرة التاثير في القضايا والمشكلات الدولية والاقليمية والذي لم يعد مقبولا بعد الآن ، ليس فقط من قبل الولايات المتحدة ،بل كذلك من المحيط الاقليمي الذي يعتقد بان قوة العراق هي قوة للمنطقة ، وانه كلما كانت ابواب العراق مشرعة للتدخل ، هبت رياح الازمات على دولها .
وفي الخلاصة ، فأن الصراع على السلطة وانعكاساته في بغداد لم يعد شأنا محليا ، فهو يمثل جرس انذار ،يشعر امن المنطقة العربية بالخطر وبالتالي تهديد امن الطاقة وتاليا تهديد امن الاقتصاد العالمي . وفي هذا الاطار ، صارت مهمة منع انهيار العراق ،اقليمية واميركية ، وان المهمة يبدو لي انها باتت وشيكة مع تزايد العواصف وسقوط الثمرة اليانعة وتدحرجها نحو الحفرة .