23 ديسمبر، 2024 8:43 ص

(عاتب مصعب بن الزبير الأحنف على أمر بلغه عنه، فأنكره، فقال مصعب: أخبرني به الثقة، قال: كلا أيها الأمير إن الثقة لا يبلغ).
هذه الفقرة من مأثور القول لها وقعها في نفوس السامعين لاسيما أولئك الذين عانوا بشكل أو بآخر من النمامين والمنافقين وكل الذين ينقلون الوقائع سواء كما وقعت أم بعد إضافة بعض التوابل والبهارات بقصد الإثارة حينا، أو الإساءة حينا آخر، أو لغرض ما في نفس يعقوب في أحايين أخرى.

لكن، ليس كل التبليغ عملا سيئا، فمن كان هذا شأنه وعمله فعليه أن يؤديه بكل أمانة وموضوعية وكما قيل (ما على الرسول إلا البلاغ المبين)، وهذا الرسول (المراسل) يفترض أن يكون من أهل الثقة، فالرسول الثقة هو من ينبغي أن يبلغ، بل وربما يـُجازى أو يـُعاقب إن لم يفعل.

مع التطور الهائل الذي شهدته صناعة الإعلام والبروباغاندا لاسيما في خواتيم القرن المنصرم ومطلع القرن الحالي، وما آل إليه حال الإعلام المقروء والمرئي والمسموع، خصوصا مع ظهور الفضائيات، صارت بعض الأخبار تصل إلى متابعيها قبل أن تقع في بعض الأحيان! تفاقمت الأحوال في السنوات الأخيرة لاسيما مع ظهور شبكة الانترنت وتعدد مواقعها وتنوع صفحاتها والمواضيع الشاغلة لتلك المواقع، فضلا عن مرجعياتها ومصادر تمويلها والاهم من كل ذلك المصادر التي تستقي منها معلوماتها وأخبارها التي تبثها بين الناس ومعها تبث الخوف والرهبة والقلق أو الفرح والحبور والاستبشار وسوى ذلك من المشاعر الإنسانية، تاليا أدى شيوع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بين عامة الناس، الفيسبوك على وجه الخصوص، إلى تخلي كثيرين من مستخدمي الشبكة العنكبوتية عن الكتاب أولا وعن الصحف والمجلات ثانيا و حتى عن الفضائيات لاحقا وعن أي مصدر آخر تاليا لتغدو المواقع الالكترونية وأخبار مستقاة من الفيسبوك، على سبيل المثال، هي المصدر الأوحد والموثوق لديهم. لكن هل يمكن اعتبار الأخبار التي نقرأها على صفحات المواقع الالكترونية موثوقة؟ وهل كل ما ينقله الفيسبوك لمتابعيه الكـُثـُر يصلح للنشر بل قل للتصديق من أي عاقل؟ فالصحافة الالكترونية فضلا عن محاسنها العديدة في سرعة ايصال الخبر وجعله في متناول شريحة كبيرة من

المتابعين وتوفيرها منبرا للآراء الحرة ومنحها فرصا للأقلام الشابة للانتشار والإبداع، ولكن لها مساوئها التي لن يكون التسرع في النشر قبل تحري الدقة والتثبت من المصدر بغية كسب السبق الصحفي، أولها، ولا مساحة الحرية الفائقة التي توفرها ما يشجع البعض على الإساءة والتهجم بل والتلفيق دون خوف من حسيب أو رقيب، آخرها. ولعل مدادها الذي لا حبر له لينفد هو الذي شجع كثيرين على تدبيج مئات بل آلاف السطور من مقالات تستند على خبر كاذب ويُعملون فيه البحث والتمحيص و يفتكرون في الأسباب ويتوصلون إلى نتائج يخافون أن يسبقهم إليها أحد، ليتضح بعد أيام وأحيانا بعد ساعات أن ذلك الخبر مختلق ولا يعدو كونه تلفيقا ليس إلا. من ذلك مقالات نشرها العديد من كتاب الانترنت حول موضوع إعلان البابا فرنسيس أن قصة الخليقة هي مجرد سرد قصصي وأن لا وجود لآدم ولا لحواء وكذا الأمر في عدم وجود جنة أو جهنم يؤول إليهما مصير الأخيار والكفار على التوالي، ليجد هؤلاء الكتاب أنفسهم في موقف محرج، عندما اتضح ألا أساس للخبر من الصحة. وشيء مشابه لما سبق وقع حينما راجت بين الناس أخبار الاعتراف الرسمي الذي مهرته هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الامريكية بتوقيعها الكريم ووثقته في كتاب لها أطلقت عليه اسم (خيارات صعبة)، ذلك الإقرار بأن الإدارة الأميركية قامت بتأسيس تنظيم (داعش) الارهابي لتقسيم منطقة الشرق الأوسط. ليس هذا وحسب بل أشارت إلى الموعد المتفق عليه لإعلان دولة الخلافة الإسلامية وأكدت أن ليس اميريكا فقط بل والدول الاوربية كانوا متفقين على الاعتراف بتلك الدولة حال إعلانها. فراح الكتاب المتهافتون يدبجون، أما العامة فغدا جلّهم محللين سياسيين واقتصاديين إن لم نقل خبراء عسكريين وانهالت التحليلات والتوكيدات والتأويلات، قليلون محصوا الخبر وسألوا أنفسهم إن كان يعقل أن يصدر عن شخصية سياسية أميريكية لها وزنها فضلا عن كونها تزمع الترشح للانتخابات الرئاسية الاميريكية القادمة، كلام من هذا القبيل، ولماذا؟ وأين مصلحتهم في ذلك؟ وقلة أخرى بحثت عن الكتاب حيث صدر في امريكا وقلبت صفحاته بحثا عن ذلك النص المزعوم، ليستفيق الجميع بعد مدة وجيزة على حقيقة تلفيق الخبر جملة وتفصيلا. فهل من المعقول أن يصدر مثل هذا الكتاب في الولايات المتحدة ويثير في العراق ومنطقة الشرق الاوسط كل هذه الضجة دون أن يثير أضعافا مضاعفة من الزوابع والزلازل لدى الرأي العام الامريكي عموما والصحافة الامريكية التي تطلع هناك على الكتب قبل طرحها في الأسواق وتنقد كل كلمة وكل حرف وليس كل رأي فيها وحسب؟

في الأيام القليلة الماضية ألقت أزمة اللاجئين الفارين من نيران الحروب و المفخخات والكواتم، عراقيين كانوا أم سوريين أم افغانا أم ليبيين وحتى ايرانيين وصوماليين، ألقت بظلالها على الشارع الانترنيتي، إن جاز لنا التعبير، وكأن العالم كله كان غافيا

وما تناهت إلى مسامعه أخبار الحروب الضروس المتقدة نيرانها منذ سنوات في دول الشرق الاوسط، أو أن سِنَة من نوم أخذته فما بلغه شيء من نهران الدم التي سالت في شوارع العراق وسوريا وليبيا واليمن لسنوات خلت، لكن مشاعر الرأي العام العالمي إهتزت أمام صورة الطفل الكوردي السوري الغريق ئالان! واستفاق فجأة حينما شاهدها!

وزارة الخارجية العراقية من جانبها لم تستفز لصورة سيدة عراقية تقبل يد شرطية مجرية لتسمح لها بعبور الحدود، لكنها استنفرت فريقها الإعلامي ليسارع إلى نفي خبر آخر مختلق انبثق عن قريحة أحدهم متأثرا بسياق الأحداث فنسب إلى وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري إتهامه للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بـ(سرقة الطاقات الشبابية العراقية)، بل وأصدرت (الوزارة) بيانا، لا لتدعو الفارين إلى العودة لان كل ما هربوا منه لم يعد له وجود، بل لتنفي ما تناقلته بعض وسائل الإعلام من اتهام وزيرها للمستشارة الألمانية انجيلا ميركل بسرقة شباب العراق وطاقاته، وعدتها “كذباً صريحاً وقضية مفتعلة”، والأدهى أن الوزارة أكدت استمرار جهودها ليس في تدويل قضية العراق أو البحث عن حل شامل لأزماته السرمدية عبر قنوات الدبلوماسية الدولية، بل في حث المنظمات المعنية على الاهتمام باللاجئين. بينما حث، رئيس البرلمان العراقي، من جانبه، الشباب على التمسك أكثر بأرضهم منتقدا “الصمت التام” للجهات المعنية بتلك الشريحة وعدم تقديمها أي حلول مسبقة أو اهتمام بحل مشكلاتها تعزز ثقة الشباب بمستقبل “واعد وحياة كريمة” في بلدهم.

كرم الضيافة الالماني وسماحة نفس مستشارتها التي أهلتها لتكون ملهمة لبعض شعراء العامية العراقيين مادحين السيدة واحتساءها للبيرة (وهي منتوج وطني الماني) التي، حسب تعبيرهم، ربما كانت تعلـّم الغيرة المفتقدة لدى آخرين كانوا أولى بها وبسائر الخصائل الحميدة، وصولا إلى قولهم (شربي بيرة.. نخب دولتنا الحقيرة)، الكرم والسماحة لم يسلما من خبر هنا وتدبيج هناك، عرّض بالسيدة ودولتها التي يرونها تعاني شيخوخة قاتلة دفعتها لقبول اللاجئين لا لسواد عيونهم قطعا ولا من باب التعاطف الإنساني، بل لضخ دماء جديدة في مجتمع يعاني من حالة شيخوخة مزمنة، لم تفلح إجراءات الحكومة في الحد منها بتشجيع زيادة النسل ورفع معدل الولادات. بينما أنكر بعض الخبراء أن يكون دافع ألمانيا إلى فتح أبوابها على مصراعيها أمام اللاجئين هو لمواجهة شيخوختها، مشيرين إلى أنها لو أرادت ذلك لاكتفت بفتح باب الهجرة أمام حملة المؤهلات والكفاءات، أو لاستدارت نحو جيرانها الأوربيين الفقراء كالبولنديين على سبيل المثال، وهم أعلى كفاءة وأقل كلفة، لكن خيالا جامحا آخر أعطى سببا موضوعيا يفيد بأن حربا عالمية ثالثة ستندلع في

السنوات القليلة القادمة وتهيىء المانيا اللاجئين ليكونوا وقودا لها كبدلاء عن الجنود الالمان!

اللاجئون والمهاجرون الذين ناموا مهمشين واستفاقوا متصدرين للاخبار بعد تواتر الأنباء عن موت المئات منهم، بينهم الكثير من العراقيين، إما غرقاً في البحر أو اختناقاً في الحاويات، فتحوا قرائح المشاهير للتعليق على بؤس أحوالهم وقتامة مصائرهم، الملكة الاردنية رانيا العبدالله غردت على صفحتها معلقة على صورة الطفل ئالان (صورة مأساوية لطفل لا يملك إلا البراءة. وواقع مرير يعيشه الكثيرون). وعندما صدر عن الديوان الملكي الاردني، بعيد هذه التغريدة، بيان تبرأ فيه من كل ما يصدر عن أفراد العائلة المالكة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مهما كان الدور الذي يقومون به محليا وعربيا ودوليا، عبر مختلف المناصب التي يشغلونها في هيئات دولية ومنظمات غير حكومية وغيرها، عادا إياها (المنشورات والتغريدات والتعليقات)، باستثناء ما يصدر عن الديوان الملكي الهاشمي أو عبر قنوات التواصل الإعلامي والاجتماعي الخاصة بالملك عبدالله الثاني ابن الحسين و ولي العهد الأمير الحسين من تصريحات رسمية) تعبر عن وجهة نظر ومواقف أصحابها فقط. وهنا ايضا راحت الاقلام تحلل والافكار تتوالد عن نوع العلاقة التي باتت سائدة بين الملك والملكة ليسارع إلى التبرؤ من كل ماينشر على الانترنت بعيد نشاطها غير المشبوه وغير المؤذي ليتضح لاحقا أن المقصودة ملكة أخرى (نور الحسين أرملة الملك الراحل) التي نشرت على صفحتها الرسمية تعليقا وجدته بعض الجهات الاردنية مسيئا.

بلغ الحال بالبعض تصديق منشور فيسبوكي يحمل صورة الامين العام للامم المتحدة بان كي مون ومعها خبر يؤكد أن الامم المتحدة ونظرا للوضع المأساوي في العراق أن تقبل طلبات اللجوء من داخل العراق مع إفساح المجال أمام اللاجئ ليختار دولة تعجبه لتكون منفاه الاختياري. ما حدا ببعض المتفكهين إلى تخيل سيارات نقل محلية (كيّات) متوقفة عند كل مفترق كل طريق تنتظر(النفر) حتى (تقبط) إلى ألمانيا.

التساؤل الذي ينبغي أن يطرح هو: من يقف وراء هذه الظاهرة، ظاهرة صناعة الأخبار الملفقة؟ في الماضي، كانت الجيوش التقليدية متكونة من المقدمة والمؤخرة والميمنة والميسرة ولذا شاع مصطلح الطابور الخامس للدلالة على جنود الحرب النفسية ومروجي الاشاعات المغرضة.. وربما كان هذا الطابور الذي ما إنفك يعمل بنشاط إلى يومنا هذا، مسؤولا عن كثير من هذه الاخبار المختلقة وساعيا لبث الفوضى وحالات التشويش الفكري بين الناس كنوع من الحرب النفسية رغم إدراكه أن المصدقين قد يكونون كـُثـُر ولكن المشككين والباحثين عن المصدر الموثوق

موجودون كذلك، ولايحتاجون إلى أن تدعوهم حكوماتهم إلى عدم الانجرار وراء اضاليل مواقع غير موثوقة كتسريبات ويكيليكس التي سرعان ما تنتشر كالنار في الهشيم، وقد يكون بعضها مزورا، لذا ترى بعض المواقع الاخبارية تضيف إلى صياغة أخبارها عبارة (لكن لم يتسنَّ التأكد من صحة الخبر)، وبعضها الآخر يدعوك (إسأل أكثر) الأهم أن تفكر أكثر و تعمل العقل في كل صغيرة وكبيرة قبل تصديقها ونشرها رافعا شعار (فكر أكثر).