23 ديسمبر، 2024 8:18 ص

الثقافة ومُدَعيها   

الثقافة ومُدَعيها   

الثقافة كما نعرفها ونفهمها هي كل مما يؤلف كيان فرد أو مجتمع من مكونات معرفية، واجتماعية، ودينية، وعقائدية، قيمية، أخلاقية..، كذلك اللغة والتاريخ… تمثل جميعها ما يعطي لذلك الفرد أو المجتمع سماته المميزة عن غيره. ونظراً لاختلاف وتباين الشعوب والمجتمعات في كل تلك المكونات، نلاحظ اختلاف وتباين ثقافاتها واهتماماتها بالقضايا المختلفة، وما يعطي لكل منها طابعها المميز. أما المثقف فهو فرد لديه معرفة شاملة عن نفسه ومجتمعه وغيره، تمكنه هذه المعرفة من فهم الآخر واستيعابه، فيتعامل معهم بانفتاح وتقبل، وإلا، فما نفع أن يعرف الإنسان غيره ولا يتعامل معه بطريقة توحي بالفهم والتفهم، حينها لن يكون الوصف إلا بأنه إنسان مدعي، أو على الأقل لديه ثقافة معرفية دونما اجتماعية أخلاقية.
   لقد ارتبط مفهوم الثقافة في مجتمعنا إلى حين بالشخص المتعلم، بمعنى قد درس في المدارس، وكذلك قرأ الكتب بمختلف مصادرها وموضوعاتها. وفي فترة زمنية معينة من عصرنا الحديث، كان القلة من فئات مجتمعنا من يتمكن ارتياد المدرسة وإكمال دراسته الجامعية، والأقل ممن درسوا خارج البلاد لينهلوا العلم، وليطلعوا على التطور الحاصل فيها في الميادين المختلفة، فالمجتمع العراقي لفترة طويلة قد عانى الجهل والتخلف، ونسبة المتعلمين أو المثقفين فيه قليلة جداً شملت أبناء الذوات والأعيان كما يدعون حين ذاك من السياسيين والأغنياء. ومن أهم ما كان قد اطلع عليه هؤلاء من طالبي العلم والمعرفة آنذاك، ما سمي بالفكر التقدمي شرقياً أم غربيا. ومنذ ذلك الوقت، صارت تسمية المثقف لصيقة بمن قدم من تلكم البلاد، أو على الأقل من درس علومها واطلع على فكرها الجديد من خلال المدرسة والجامعة، والصحيفة.. وصار يتحدث به بين أوساط المجتمع العراقي، ويعرفه الناس من خلال خوضه في شتى الموضوعات، وتبنيه لتلك الآيدلوجيات التي كانت قد وجدت لها مكاناً، فاستفاد الناس من العلوم والمعارف في حياتهم اليومية، وإن لم يتفقوا بغالبيتهم مع ما جاء به من فكر غريب، حينما ضحل الفكر الأصيل، وتعطش الناس لأي ما ينفع.
    أمكن تصديق هذه التسمية على المتعلم.، فقد جاءت بثمارها لحين من الزمن، بشكل خاص من أدرك أهمية توظيفه علمه لصالح نفسه بصفة شخصية أو لصالح بيئته الإجتماعية مراعياً كل ما يتعلق بالإنسان العراقي وما لديه من خلفية تاريخية ودينية وإجتماعية واقتصادية..فجاء سلوكه منسجماً مع الناس رغم اختلافه عنهم في كثير مما يتصفون به، وما يريدونه. أما اليوم فما الذي بقي من مفهوم المثقف!؟
    بالتدريج، أخذت تسمية المثقف تتمدد عشوائياً لتشمل ما لا علاقة لهم بعلم ومعرفة، ولا بمفهوم الثقافة حتى. والصورة التي ألفها الناس عن المثقف، صارت إدعاءا، صارت إلى حد كبير ترتبط بمظاهر زائفة لتمثل صورة الظل لما كان دون معرفة ما هيته ومضمونه والهدف منه، أو القشرة لما قد يسمى فكراً أو نهجا، إذ صار يرتبط إلى حدٍ كبير بارتداء بالزي العصري حصرياً حتى دونما معرفة كيف ولماذا، أما من يرتدي الزي الشعبي فلا!؟. ويرتبط بإطلاق شعر الرأس والذقن، مع بعض الإكسسوارات المكملة، للإيحاء بصورة للعالم أو الفنان الغربي المبدع الذي ربما سمع به أو قرأ عنه ذلك المدعي، فتقمص صورته دونما أدنى درجة مما لذلك المعني من إبداع أو حتى إنجاز يذكر. وبمن يردد بيتاً شعرياً أو قولاً نثرياً، متأثراً بقائله الذي يمثل نفس أهوائه وميوله، وبقي عند حدوده. وبمن يتكلم كثيراً في أي شأن، ويحشر نفسه في كل صغيرة وكبيرة بمجرد الكلام. وبالفن! حتى ترى في كل محفل للغناء أو التمثيل وكل أنواع ما تدعى زوراً بالفنون، ويسمون بالفنانين بأنها محافل المثقفين. وحقيقة أن ما يتناوله كثير من هؤلاء عادة في تلك المحافل، هو كيف يثبتوا وجودهم كفنانين، تلك هي قضيتهم الأساسية، ولا ترى من أعمالهم سوى تقليد ومسوخ. وأكثر من ذلك، صارت تسمية المثقف تطلق على مرتادي النوادي الليلية، على اعتبارهم لأنفسهم أنهم الفئة الراقية المتطورة من المجتمع والتي تُقيَم الفنون!! وبدلاً من اقتنائهم وقراءتهم للكتاب والصحيفة.. وتناولهم للقضايا المهمة، فمنهم من يتفاخر علناً بحضوره تلك المحافل!! ليلقى ما يطيب أوقاتهم وأمزجتهم، فما يعودوا يشعرون بهم ولا غم، ولا مسؤولية، أما نهارهم فيقضونه بالنوم الطويل، والتقاعس والكسل في عملهم إن تمكنوا من إدراكه. أما ما يتداولونه فقصص عن أمجاد مزعومة، وفكر ممسوخ. وهؤلاء بالخصوص أكثر من غيرهم، يتصورون أنهم أدرى بحال الناس من أنفسهم، وأقدر على فهمهم، وعلى الجميع الاقتداء بهم، أما من لا يخوض فيما يتعلق باهتماماتهم والتي لا تمثل سوى أهوائهم، فهو جاهل متخلف مهما بلغ علمه وأخلاقه. والخطير جداً، صار المثقف هو من يحمل شهادة أكاديمية فحسب!!. وما أدراك..! وما مظاهر التثقف عليه سوى إنه متعال على من دونه كما يتصور! لا يحملون الشهادات..
    الحقيقة لقد أصبحت هذه حالات مرضية يعيشها ويحتويها مجتمعنا. إن مدعي الثقافة كانوا قد استغلوا الجهل الذي أفرزه واقع حال مجتمعنا المتردي المريض، فصار الناس يطلقون التسمية عليهم حتى تمكنت هذه التسمية الخاطئة بين أوساطنا. وكثير منهم هم في حقيقتهم عالات على المجتمع، متكبرين دونما داع للتكبر، يصنعون لأنفسهم الهالات الكاذبة ليعتاشوا بين الناس على إثرها. 
   نقول، الثقافة معرفة وسلوك، الثقافة في النهاية أخلاق. والمثقف هو الذي يسلك باخلاقية عالية يثنيه عليها الجاهل والعارف، الصغير والكبير. إن المثقف هو الذي يعرف نفسه ومجتمعه والآخر، يتعامل مع نفسه كما يعرفها ويقدرها حق قدرها، ويتعامل مع مجتمعه والآخر بكل مكوناته وتناقضاته بشفافية عالية دون تظاهر ولا استظهار، دون تكبر ولا استعلاء. المثقف من ينزل الناس منازلهم، ويقدر عقولهم ومذاهبهم، المثقف من ينزل إلى مستويات الأقل من الناس ليفهمهم ويساعدهم ليرتقوا إلى مستوى أفضل. (خاطِبُوا الناسَ على قَدرِ عقُولهِم) .