ظلّت إشكالية المثقف والسلطة ، قائمة على إمتداد الأزمنة في سيرورة الحضارة ، ففيما تشكّلت مصادر القوة والقرار من : المال – الدين – السياسة – على التوالي ، كانت الثقافة تابعاً لإحد هذه المصادر ، وبالتالي لم تخلق يوماً سلطتها الخاصة ، رغم أن للثقافة الدور الأبرز في صنع الإنجاز الحضاري ، بدءاً من أساطير الخلق والنشوء الأول للإجتماع البشري ، وليس إنتهاء بآخر إكتشاف علمي جسدّته عبقرية الإنسان .
وفي الوقت الذي كانت فيه المؤسسة السياسة تصنع الحروب وتكرّس معنى الهيمنة والتسلط ، عملت المؤسسة الدينية على القيام بالدور الأخطر في وضع حدود روحية بين البشر، بدءاً من كهنة المعابد القديمة ، مرورا بما لعبه رجال الأكليروس في التاريخ الأوربي ، وصولاً الى ما تمثله دور الإفتاء ومراكز الإجتهاد في الإسلام .
في كلّ ذلك وفي القلب منه، كانت الثقافة تشكّل جسر تواصل وتعاون فاعل بين الحضارات والشعوب ، لكنها بقيت مجرد وسيلة إستخدام للطرف الأقوى .
الثقافة بشكل عام ، تتكون من مستويات ثلاثة هي :
1: المثقف – يمكن تعريفه بأنه الذي يعرف شيئاً من كلّ شيء ، أو (المطّلع)، وتقع مادة إشتغاله الأساسية في إطار (الرأي).
2: المنظّر- وهو من يمتلك القدرة على فهم الفكرة المعرفية وهضمها ومن ثم شرحها منهجياً ، ويمكن تسميته ب( العارف) ، أما مادتّه، فتقع في مستوى ( الخطاب )
3: المفكّر- ذلك الذي يستطيع إنتاج الفكرة المعرفية وصقلها وتطويرها، أوتجاوزها لإنتاج فكرة أرقى ، وهو مايطلق عليه ( المعرفي ) و مادة إشتغاله ( الرؤية ).
استناداً إلى ذلك، كيف يمكن الحديث عن واقع الثقافة العراقية وتحولاتها البنيوية، إنطلاقاً من المحاور التالية ؟:
1- الثقافة والهوية الوطنية
أ: هل بإمكان الثقافة أن تسهم في بلورة الهوية الوطنية ؟ وماهي مقومات ذلك في الثقافة العراقية ؟
ب: في ظل التجاذبات الإثنية أو الطائفية أو السياسية التي شهدها العراق ، هل تستطيع الثقافة أن تصنع حالتها الخاصة متجاوزة واقع بنيتها الإجتماعية وانقساماتها ؟
ج: الثقافة العراقية بنيوياً ، هل هي ديمقراطية بطبيعتها ؟ أم استبدادية إلغائية ؟
لاشك انها أسئلة تحمل إشكالياتها – وتجبر محاولات الإجابة على الوقوع بذات الإشكالية – فهي تعتبر الثقافة مصطلحاً ناجزاً في إكتمال المعنى ، وبالتالي لايعاني من خلل في رسم حدوده ومعرفة قدراته، لتحديد من ثم المهام التي يمكنه الإضطلاع بها- كمصطلح ومعنى – .
اشتقاقاً من ذلك ، يكون المثقف بمثابة مفهوم معرّف لا ينتابه اللبس ، وهوعندما يطالب بالقيام بدوره في إنجاز أو تحديد مفهوم آخر للهوية الوطنية ، فإننا نفترضه كائناً متلألئاً بالصفاء ، يستطيع أن يجترح الحلول التي يعجز عن إيجادها الآخرون ، أنه حالة مهيأة ومستعدة لإنتاج المعرفة ، شرط أن تكون صالحة لمعالجة المشكلات .
لكن ماينبغي اعتباره ، إن الثقافة مفهوم مثقل بالمتناقضات ، فبمقدار ماتثيره من هالة – بإعتبار ان المثقف واسع الإطلاع كما أسلفنا – فأنها مرافقة كذلك بما لايفيد ، أو بماهو ممكن الإستغناء عنه ، ذلك لأن الثقافة ترتبط بأذهاننا ، بمايسمع أو يقرأ، لا بما يجسّد ، بمعنى أنها ليست مسؤولة عن أنتاج الخبز أو زراعة حقل أو إنشاء مصنع أو إختراع آلة ، لذا إرتبط المثقف بثنائيتي ( الكسل والثرثرة ) وان كان في ذلك ظلم له .
على ذلك ، ظهرت المفارقة بين الهالة المعرفية التي يعتقدها في نفسه وبالتالي تميزه عن الآخرين ، وبين واقعه الفعلي الذي قد لايختلف عن الآخرين .
ولأن الكلام سدى الثقافة ولحُمتها ،فأنه ينبغي أن يبقى حاضراً ك( بضاعة ) تحدد هوية المثقف وتشير إليه ، فإنْ إستهلك الكلام الإبداعي – بما هو نصّ قصصي أو شعري أو مسرحي أو نتاج فكري – يتم الإستعاضة عنه بالكلام الإدعائي ، مايشير إليه كثرة الإنقسامات الشخصانية بين المثقفين، التي تكون في العادة أكثر قدرة على الإيذاء والإستمرار ، لأنها قد تنتقل من حالة شفاهية ، إلى نصّ مكتوب يأخذ مكانه في الإستعادات المتكررة .
الثقافة بالمعنى (النصّي)، ليست ديمقراطية ، إنها نتاج فردي يفترض تفوّقه واكتفاءه بذاته ،وهي تبحث عن فردانيتها لتقدمها كمعطى ناجز للحرية ، وإن تحوّل النصّ إلى عمل يتجاوز فردانيته ظاهرياً – كأن تُخرج الرواية فيلماً سينمائياً ، أو تتحول قصيدة ما ، إلى لوحة فنية – لكنه لايفقدها جوهرياً .
على هذا المبنى ، فإن الثقافة قد تكون إطاراً عامة للهوية الوطنية ، لكن يصعب على المثقفين أن يسهموا في بلورتها أو إنتاجها ، إذ سيتم التعامل معها باعتبارها (نصّاً إبداعياً ) بمواصفات فردية ، وبالتالي تختلف النظرة إليها بإختلاف النصوص .
2- المثقف والقرار السياسي
أ: لماذا يكون المثقف فاعلاً في الإبداع ومبعداً في القرار ؟
ب: التبعية والإحتواء أو الإستقلالية والفناء ، تلك هي جدلية الثقافة والسلطة ، هل من تغيرّات طرأت على واقع تلك المعادلة في العراق الجديد ؟
ج: هل الثقافة ترف فكري ، أم نتاج أخلاقي في إطارمجتمعي ؟ وما العلاقة بين محتوى النصّ وسلوكية المثقف؟
كي يصبح القرارفي موقع الأمر ، لابد له من آليات جمعية في التنفيذ ، قد يُتخذ- كقرار – بشكل فردي ممن يمتلك السلطةالمخوّلة بذلك ، لكنه قوة وقدرة ، فالقرارمن دون القدرة ، يكون بمثابة رجاء ، وبالتالي يفقد تأثيره بمقدار ما يفقد من قيمته ، ذلك يعني إستناده إلى تراتبية مؤسسة على شكل هرمي ، يصدر الرأس القرار إبتداءاً من رأس الهرم ، فتتحرك القاعدة لإيجاد الوسائل الكفيلة بتحويله إلى فعل .
أين موقع المثقف من تراتبية الهرم تلك ؟ ذلك هو الإلتباس ، فإن اقترب المثقف من الرأس ، أصيب بالصداع ، وإن كان في القاعدة ، شعر بالإختناق ، ذلك لأن الثقافة بميلها للتفلّت من الضوابط ، لا تنسجم كثيراً مع المؤسسة بانضباطها ومركزيتها ، لكن المثقف كمنتج للثقافة كما يفترض أو مشتغلاً بها ، لايجد مناصاً للعيش في المؤسسة ، إن كان بين ظهرانيها أودائراً في فلكها ، فإن وضع في مركز القرار ، سيجد نفسه منساقاً للقرار ومتطلباته ، على حساب النصّ ( وخيالاته ).
إن المثقف والحالة هذه ، يقع بين سلطتين : السياسة بامتيازاتها الواقعية الملموسة ، والثقافة بانعكاساتها المعنوية – في أفضل الحالات – وفي الغالب الأعم ، يجتذبه المتناول المحسوس ، على حساب المعنى المتخيل .
ولما كانت السياسة معنية بصنع (القبح) فيما تسعى الثقافة إلى صنع الجمال ،لذا كان التنافر بينهما متوقعاً أوحتمياً ، وربما كان ذلك دافعاً ل(غوبلز) وزير الدعاية النازي ، ان يقول (أتحسس مسدسي ، حين أسمع كلمة ثقافة ).
المثقف هنا تتلبسه السياسة وتحتويه، نظراً لحاجته إليها ،في وقت يتغذى فيه بالثقافة ، لتبقى بالمحصلة شأناً جوانياً كمنتج ،و(بضاعة )خارجية تتحدد قيمتها في مقدرة صاحبها على ترويجها، لتتحول من ثم إلى قيمة إجتماعية ،لكنه إبّانها ، محكوم بالمواءمة بين السياسة بغلظتها ، والثقافة برقتّها ، ذلك لأن من صفات الثقافة ( ومهماتها كذلك) تهذيب الذوق وصقل المشاعر وتهيئتها من ثم لتقبل الجمال ، لذا يظهر الفارق – المتناقض غالباً – بين استقامة النصّ ( المتعالي بطبعه ) وسلوكية المثقف المستجيبة للإيقاع اليومي للحياة بواقعيتها المفروضة والمرفوضة – على حدّ سواء – من قبل المثقف .
المفارقة، ان السياسة تكون في الغالب (صادقة ) في التعبير عن نفسها والإعلان عن أساليبها في تأدية الدورالموكل اليها ،أما الثقافة ، فتميل إلى (المراوغة) لإظهار مافيها من جمال ، لذا قيل مثلاً (أجمل الشعر ، أكذبه ) وان كانت الثقافة أكثر شمولية وتنوعاً .
المعادلة أعلاه ماتزال قائمة بعناصرها الرئيسة في العراق ، ولم يطرأ عليها تغيّر يذكر .
3- المثقف والسلطات الثلاث – المال- الدين- الدولة
مابين قيمة الثقافة وضرورة المال ، كانت السطوة دائما للضرورة ، فالمال حاجة ملحّة وملحاحة لايمكن الإستغناء عنها أو العيش من دونها ،وبعكس الثقافة – المنبوذة في العادة – يكون المال مطلوباً وموضع ترحيب شديد الوقع .
ذلك ماظّل قائماً طوال السيرورة البشرية، على تنوع مجتمعاتها ووسائل عيشها ،وبالتالي لم تتمكن الثقافة من أن تصبح ضرورة بدورها، قياساً بالمال ، ولا استطاعت إيجاد نوع من التكافؤ بين حاجة المال وقيمة الثقافة ، فبقيت المعادلة مخّتلة لصالح الثروة .
أما المؤسسة الدينية ، فعلاقتها بالمثقف تأخذ شكلاً إحتوائياً ،خاصة بعد انتمائه إليها ،إنها ترفض –أو لاتحبّذ- حياديته – في الإبداع كما في السلوك – إذا أراد البقاء جزءاً منها ،باعتبارها مؤسسة لها ضوابط ومهمة محددتين .
وفي حين يلعب تطور الوعي عند المثقف ،دوراً في بحثه عن خلاص آخر خارج الأنساق التقليدية للخلاص اليوتوبي ، فإن المؤسسة الدينية تتمسك بتقديم ذلك النوع من الخلاص باعتباره الوحيد الممكن يقينياً ، لتكون المحصلة صراعاً داخلياً بين وعي يتفاعل مع معطياته ومستجداته ، وثابت تليد بمطلقاته ، ليهتز تبعاً لذلك نتاج المثقف كما سلوكياته.
الخلاصة :إن المنتج الثقافي العراقي بمساراته العامة ، لم يخرج في الجوهر عن سطوة الدكتاتورية – بتكوينه كما بمفرداته واشتغالاته – وبالتالي فالحديث عن ثقافة عراقية “صافية ” ينبغي الدفاع عنها -حتى لو كان انتقادها موضوعياً – يحتاج إلى مراحل أخرى طويلة من التطور والنمو ، لتتراكم من ثم ثقافة تصنع هويتها المختلفة عمّا هو سائد ، وليخرج المثقف من كونه تابعاً لثلاثي السلطة (المال – الدين – الدولة ) فيؤطر شخصيته الإعتبارية الخاصّة ، بعلاقة تفاعلية لا تفاضلية مع مصادر تلك السلطات ، كي يتمكن بعدها ، من المساهمة في صنع القيم .