في مقال سابق تطرقنا من خلاله عن مدى إمكانية أن تكون الديمقراطية صالحة للتطبيق من عدمه في مجتمعات العالم المتخلف ، تلك التي أسكرتها نشوة الإيديولوجيات الطوباوية ، وجيشتها نبرة الخطابات الراديكالية لمرحلة ما بعد الاستقلال . حيث خلص الموضوع إلى نتيجة قد تكون أغضبت البعض واثارة امتعاض البعض الآخر ، حيال طابعها المتشائم ونزعتها العدمية . إلاّ أنها في وقع الحال – من وجهة نظري على الأقل – تكاد تلامس الحقيقة المطلقة وتوازي اليقين القاطع مؤداها ؛ إن الديمقراطية لكي تنجح في تلك المجتمعات وتحقق الغاية المنشودة منها ، لا يكفي تضمين الدساتير المفبركة – مؤقتة كانت أم دائمية – صيغة دبلوماسية مرائية مفادها ؛ إن الدول الملتبسة التي تكونت تحت ظروف معقدة واستثنائية ، تخلت عن جلبابها العسكري الليوثياني وباتت ترتدي الحلة المدنية المسالمة . كما لا يكفي مجرد الزعم بأن الأنظمة السياسية الفاسدة لحدّ النخاع ، التي تشكلت تبعا”لحاجات طارئة ومهام مصيرية ، طلقت بالثلاثة أساليب الحكم الطغيانية وهي الآن في طور الانفتاح على الآخر والحوار مع المختلف . مثلما لا يفي بالغرض الإقرار الساذج ، الذي يروم الإيحاء بأن الحكومات (الوطنية) مئة بالمئة ، أضحت تتشكل بموجب انتخابات دورية يقال أنها حرة ونزيهة ، تجري وفقا”لوثيقة الدستور بحيث تظهر النتائج إن نسب الفوز فيها مطلقة . وأخيرا”- وليس آخر بالطبع – لا تمثل أية قيمة تلك المظاهر المتمخضة عن انخراط الغالبية العظمى من (المواطنين) ، المضللين والمنمطين و المجيشين ، في التنظيمات الحزبية ذات الرنين الديمقراطي الزائف ، للدلالة على إن المجتمع تخطى عتبة طفولته الحضارية وبلغ سنّ الرشد الثقافي . إنما لابد كضرورة مصيرية قصوى أن تكون كل تلك المعطيات والإجراءات ، مسبوقة بمستوى معقول من تطور النظام الثقافي ، وان تكون ممهدة بدرجة معتدلة من نضوج الوعي الاجتماعي . وإلاّ فان سياسات تطبيقها ( = الديمقراطية) على أرض الواقع ، ستواجه بمعوقات لا قبل لها بها ، حتى وان كانت الأنظمة المسيطرة جادة بسعيها الإصلاحي ، وان إجراءات توطينها ستقابل بتسويف لم تعهد بمثله في السابق ، حتى وان سلمت نية الأحزاب المهيمنة بتوجهها التنموي . وبما أن الإنسان في المجتمعات المتخلفة ولد وهو يرسف في مظاهر الجوع والخنوع ، بحيث ارتشف مع حليب الرضاعة قيم العلاقات الصفرية والتراتبية الحديّة ؛ أما أن تكون الغالب دائما”، أو أن تكون المغلوب في مطلق الأحوال . أما أن تكون الأول في كل شي ، أو أن تكون الأخير دون أي شيء . أما أن تكون الأعلى وفوق الكل ، أو أن تكون الأسفل وتحت الجميع . أما أن تكون الحاكم فتأمر وتطاع ، أو أن تكون المحكوم فتمتثل وتنصاع . هذا في حين تم تعميده منذ نعومة أظفاره بجملة من الأوهام والأباطيل ، التي طالما وفرت له القناعات والمسوغات ؛ بأنه من أرومة هذه القومية / الاثنية أو تلك ، بدلا”من التأكيد على أولوية هويته الوطنية . وانه من أصول هذه القبلية / العشيرة أو تلك ، بدلا”من التأكيد على أسبقية شخصيته الاجتماعية . وانه من سلالة هذا المذهب / الطائفة أو تلك ، بدلا”من التأكيد على أحقية عقيدته الدينية . وانه من منابت هذه المنطقة / الجهة أو تلك ، بدلا”من التأكيد على أفضلية جغرافيته الشمولية . وانه من نتاج هذه الذاكرة / المتخيل أو تلك ، بدلا”من التأكيد على أولية تاريخيته الجمعية . وهو الأمر الذي أفضى – بالتكرار والتراكم – إلى أن يتقلص في تصوره المنمط مفهوم (الوطن الواحد) ، إلى مجرد ولاءات بدائية متناثرة . ويختزل في ذهنه المعلب مفهوم (المجتمع الكلي) ، إلى مجرد انتماءات تحتية مبعثرة . ويستحيل في عقله المشوش مفهوم (الوعي الاجتماعي) ، إلى مجرد ثقافات فرعية . ولأن واقع الشعوب المتخلفة كان ولا يزال قائم على ديمومة الملابسات التاريخية ، واستمرارية الصراعات الاجتماعية ، وفاعلية الاحتقانات النفسية ، وراهنية الانقسامات الثقافية ، وتواتر التصدعات الجغرافية . فان (الأنا) فيها مبرمج للتعامل مع (الأنت) ، من باب التلصص والتربص وليس المهادنة المواطنة . وان (الذات) عندها مصصمة للتعاطي مع (الآخر) ، من منطلق التفاضل والتعالي وليس التكافل والتكامل . وان (النحن) لديها مصاغة للتواصل مع (الهم) ، من منظور التنابذ والتباغض وليس التآصر والتآزر . وهكذا فقد تربى وتغذى على أن يتماهى من كل ما يرمز إلى مظاهر القوة حتى وان كانت غاشمة ، والسلطة حتى وان كانت ظالمة ومتعسفة ، للحد الذي بدا له انه من طبيعة الأمور وشرعيتها في آن ؛ ألا بغمط القوي فقط حقوق الضعيف وينتهك حرياته متى ما أراد ذلك فحسب ، وإنما له الحق في ردع إرادته وقمع تطلعاته أيضا”. هذا بالإضافة إلى انه تواضع على قيمة اجتماعية استحالت بحكم التقادم إلى بديهية مؤداها ؛ إن من حق المسؤول أن يحظى بامتيازات الجاه والسلطان والنفوذ ، بصرف النظر عما إذا كان جاهلا”أو قاتلا”، دون مراعاة حاجة المواطن البائس الذي ليس عليه سوى أن يرضى بالذل والمهانة ، بصرف النظر عما إذا كان شخصا”صالحا”أو طالحا”. وعلى ذلك فحين تتاح الفرصة السياسية ويسنح الظرف التاريخي لمثل هذه الكائنات ؛ المعبئة بالتهويمات الاقوامية / العنصرية ، والمجيشة بالخرافات الطوائفية المذهبية ، والمشحونة بالفزعات القبائلية / العشائرية ، والمستقطبة بالحساسيات المناطقية / الجهوية ، والمستنفرة بالتمايزات الذاكرية / المخيالية . لاعتلاء سدة السلطة والإمساك بأعنة الدولة والإدارة للشأن العام ، عن طريق ما يعتقد انه ممارسة (ديمقراطية) ، فان الأمر حين ذاك لا يعدو أن يكون تصفية حسابات جذرية ضد ؛ المجتمع لتقويضه ، التاريخ لمسخه ، والوطن لاستباحته ، والجغرافيا لانتهاكها ، والهوية لطمسها ، والدين لاستغلاله ، والقيم لإفسادها ، والثقافة لتشويهها . فالذي كان يعاني وطأة التعسف السياسي سابقا”، سيرى إن له كامل الحق بالانتقام من كل من له علاقة بطغاة الأمس وخصوم اليوم ، سواء كان عن طريق هضم حقوقهم وانتهاك حرياتهم واهانة كرامتهم ، أو استباحة حياتهم واستئصال شأفتهم . كما إن الذي كانت الحاجة المادية تلسعه بسياط حرمانها فيما مضى ، سيعتقد بان له ملئ الحق باستباحة الثروات الوطنية ومصادرة المال العام لحسابه الشخصي أو الفئوي ، بصرف النظر عن شرعية هذا التصرف ومشروعية تلك الممارسة ، معتبرا”ذلك بمثابة تعويض عن الحرمان المزمن الذي عانى منه ، والمظلومية التاريخية التي لحقت به . هذا بالإضافة إلى إن الذي كان يتوجس خيفة في الأيام الخوالي من الآخر ؛ القومي أو الديني أو الطائفي أو الحزبي ، بات الآن – استنادا”إلى ديمقراطية الغابة – في حل من أي قانون أو عرف ، يحول دونه والإزاحة لكل المخالفين في العقيدة ، والإقصاء لكل المغايرين بالانتماء ، والتصفية لكل المعارضين بالولاء . وهكذا فكل شيء وأي شيء يغدو مباحا”للكل ومشاعا”للجميع ، إذ ليس هناك ما يمنع المرء – حين يكون خالي الوفاض ثقافيا”وأخلاقيا”وإنسانيا”- من اللجوء إلى القتل المجاني بوازع من التفكير الديني أو الطائفي ، أو الحض على السرقة العلنية بدافع من الشعور بالحرمان الاقتصادي والاجتماعي ، أو التشجيع على الفساد المقنع بزعم التعويض القومي والتاريخي . مثلما ليس هناك ما يردعه من التخلي عن القانون بحجة التمتع بالحرية المباحة ، أو التنصل من القيم بداعي التنعم بالتحرر المتاح ، أو التمرد على النظام بادعاء الاستفادة من الديمقراطية المشاعة . والحال انه لكي نبرهن على وجاهة هذه الفكرة ورجاحة منطقها ، فلا بأس من الاستعانة بتجارب الآخرين في هذا المضمار . فعلى صعيد الممارسات العالمية فان تجربة الاتحاد السوفيتي السابق قمينة بالمقارنة والمضاهاة ، إذ إن التاريخ قد (خذل) على نحو قاس ومكلف (البلاشفة) الذين راهنوا على فرض الإجراءات الديمقراطية (بالتزامن) مع الشروع بالثورة الاشتراكية عام 1917 من جهة ، في حين ( أنصف) من جهة أخرى ، (المناشفة) الذين اتخذوا موقفا”مغايرا”حيال هذه المسألة ، تمثل بضرورة إشاعة (الوعي) الديمقراطي واجتياف (قيم) الاشتراكية ، كأجراء مسبق للقيام بأية خطوات أو فعاليات ذات طابع سياسي ، قد تفضي إلى وضع السلطة بيد جماعات هلامية تفتقر لأي مظهر من مظاهر الثقافة والوعي والانضباط . فهل يا ترى نتعض بدروس التاريخ أم ترانا نهيض بهلاوس الأساطير !! .
[email protected]