في هذه الورقة نسلط الضوء على التحول النوعي في البنية التحية للدين مقابل الثقافة الحرة ( العلمانية ) في العراق . وسوف ندرس الظاهرة من خلال موقعين : واحد يمثل الدين وهو (العتبة العباسية) في كربلاء , والآخر يمثل الثقافة الحرة وهو (شارع المتنبي) في بغداد . وسوف نتابع التحول بينهما من خلال قياس درجة الحرارة في ذروة الصيف ( تموز وآب ) . سوف نبدأ بالسؤال التالي :ايهما اكثر سخونة في شهر تموز : العتبة العباسية ام شارع المتنبي ؟
الجواب يرتبط بالسنة المفصلية 2003 في العراق , و يقودنا الى قيمة الثقافة الحرة (العلمانية ) .
قبل 2003 كانت البنى التحية للثقافة الحرة وللحياة المدنية عموما اكثر برودة من الاضرحة المقدسة والجوامع والمدارس الدينية . كان المسرح الوطني ومسرح الرشيد وصالات السينما وحانات ابي نؤاس والاندية الرسمية في بغداد اماكن باردة جدا قياسا الى العتبة العباسية مثلا . وبينما كان الفرق في درجة الحرارة بين رأس العباس والمسرح الوطني يمثل لقطاع واسع من المثقفين انحيازا للعلمانية , فقد كان يمثل للشيعة دليلا على طائفية صدام . كان الشيعة يراقبون رأس امامهم وهو يتعبأ بالحرارة , ويعدون حبات العرق في جباه الزوار ليحولوها لاحقا الى تكتل طائفي باهض التكاليف .
كان رأس العباس حارا لا بسبب المزاج والروح الحربية فقط , بل بسبب عدم وجود نظام تبريد كفوء .
ما حصل بعد 2003 هو العكس . يمكن اعتبارها سنة انقلاب في درجة الحرارة في البنى التحتية للدين مقابل العلمانية .
اكتشفت العتبة العباسية واحدا من اهم قوانين القداسة في العصر الحديث . فلكي تؤمن القداسة لمكان ما فما عليك سوى ان تخفض درجة حرارته الى ادنى حد مع ابقاء ما حوله يتلظى مثل الجحيم . وكلما ازداد الفرق في درجة الحرارة كلما تعاظمت القداسة وازداد عدد الزوار .
تم خفض درجة حرارة العباس (ع) بشكل غير مسبوق . هذه هي الصفعة الاولى التي يوجها لك الامام حالما تدخل حضرته .
في كربلاء تضربك برودة العباس قبل ان تدخل اليه . التبريد هو الذي يسحب الناس من ياقاتهم ويدخلهم صاغرين . ولكي تتحقق هذه المعادلة يتوجب وضع الجنة والنار في مكان واحد . وان يكونا متجاورين جدا . هنا تكمن عبقرية مؤسسة العتبة . رافق هذا الاجراء تبدل دراماتيكي في طبائع الامام . لم يعد مصدر رهبة بالنسبة للصوص الذين يتكلمون ويسرقون ويحلفون باسمه . فقد تم التوصل الى آلية لامتصاص الغضب . فلكي تسحب من العباس قدرته على توجيه الصفعات ( شارة العباس ) لجأت العتبة الى التبريد الفائق ( Super Cooling ) بواسطة ميتسوبيشي .
بفضل التكنولوجيا الحديثة في التبريد ( Chillers) اصبح رأس العباس قطعة من الثلج . لم يعد قمر بني هاشم قادرا على الغضب (يشور) حتى لو حلفنا به زورا . ولقد شملت البرودة جميع اعضائه بما في ذلك كفيه المقطوعين . فاضيف سبب جديد يمنعه من توجيه الصفعات (سطرة ) حتى لو تجرأ نشال على مد يده في جيبه .
غير ان التبريد الفائق هو سلاح ذو حدين . فهو من جهة يستقطب المزيد من الزوار . ومن جهة اخرى يربط القداسة كليا بالتيار الكهربائي . فاذا انقطع التيار فسوف تسقط القداسة معه .
هذا هو التهديد الذي يواجه مشروعات القداسة المعاصرة . ولذلك يتوجب فصل الامام كليا عن الشبكة الوطنية لتوزيع الطاقة . وخلق منظومة توليد وتوزيع مستقلة . ان خطر سقوط القداسة سوف يظل قائما لحين اكتمال البنى التحية للعتبة . لنتخيل ان هناك سبعة مليون زائر للعتبة , و في ذروة الزيارة ينقطع التيار الكهربائي . سوف تطالب هذه الملايين الامام بمعجزة . تدوير اجهزة التكييف المركزي مثلا . لكني اشك انه سيكون قادرا حتى على تدوير المراوح الصغيرة المعلقة في السقف . لايستطيع العباس ان يصمد لحظة واحدة بدون ميتسوبيشي اليابانية . ليس العباس وحده سيكون محرجا في هذه الحالة بل الله نفسه . فبدون اليابان لا يستطيع ان يبرد بيته في مكة .
من جهة اخرى . وبغية ضمان القداسة وتحول الزيارة الى طقس يومي , فان من مصلحة العتبة بقاء ازمة الكهرباء الى الابد . الافضل بقاء المواطن متناوبا بين (المولدة ) و (الوطنية ) . والمقصود هنا (الشبكة الوطنية ) وبرمجة القطع الكهربائي التي لاتسمح بالتبريد الحقيقي , بل فقط بالمراوح التي تحرك الهواء فقط ولا تتدخل في حرارته .
وفي تموز العراق فان جهنم موجودة في كل مكان تقريبا . لا يبقى سوى اقامة مكعبات مغلقة وسحب الحرارة منها لتكون بمثابة الجنة المجاورة التي يهرع اليها هربا من الجحيم .على هذا الاساس فان بامكان اي قبر مبرد بشكل جيد ان يتحول الى قبر مقدس . وينطبق ذات الشرط على اي مكان , بل و اية عقيدة . ويحدث العكس للامكنة و القيم والشخصيات السامية , حيث تنحدر الى الحضيض , ويتخلى الناس عنها , اذا وضعت في درجة حرارة خمسين مئوية . وهذا ما يحدث لشارع المتنبي .
درجة الحرارة هي دالة للقداسة . اكتشفت مؤسسة العتبة هذه الظاهرة فراحت تعمل بموجبها , وهي تتقدم لتوسيع رقعتها والخروج من النطاق التقليدي , مادامت تملك معدات التبريد الكافية . حيث بامكانها تحويل اي مكان الى ضريح مقدس وضمه الى امبراطوريتها بمجرد وضع قبة وتفريغها من الحرارة . وستتراجع كافة المشاريع والمؤسسات الثقافية اذا بقيت تدار من قبل عديمي الاحساس , اولئك الذين يواصلون ثرثرتهم بينما تفيض ابطهم من العرق ويسيح رأس حمار وينساب بين اقدامهم من شدة الحر .وفي ظل صعود الاسلاميين لم يعد هناك ضرورة لوجود مسارح ولا دور سينما ولا حانات مبردة . ولم يبق للثثقافة سوى شارع واحد هو المتنبي . الذي يقابل الجحيم في سخونته . , مقابل مئات الالوف من الجوامع والحسينيات المبردة ……………..
يمكن القول ان اشهر الصيف الاربع في العراق هي اسوا ماموجود في هذا البلد .وهي اسوأ من الحكام الفاسدين فيه , ففي هذه الشهور يصل العراقيون الى حالة الاعياء . ويفشل الله في وضع حكمة لهذا الجحيم . وتتصاعد اسئلة بلا جواب . في هذه الشهور تنصهر الحمير وتسيح في الشوارع , وتتحول المعتقدات الى رغوة صابون . فلا تبقى للجنة سوى صورة واحدة هي عبارة عن مكعب مغلق يتم فيه سحب جهنم بواسطة مكيفات يا بانية وطردها الى الخارج .في الصيف تتعرى الدولة تماما ويشرق غباؤها الناصع . لايفهم القائمون ان درجة الحرارة مسؤولة جزئيا عن حدة الطباع , وصعوبة احترام القوانين , والمعارضة الفوضوية , والتمرد , وحوار الطرشان ومعظم الامراض النفسية . نحن امة نحتاج الى تبريد مركزي فائق , وطويل الامد , لكي نستعيد قوانا الروحية . نعاني من توتر ( Stress) جماعي , وانطفاء ( Burnout) جماعي . وبما اننا نريد الوصول الى الشرط الحراري للثقافة , فلابد ان نسلم باستحالة الثقافة دون تدخل ياباني وتحديدا تكنولوجيا التبريد الفائق . وان الحديث عن الثقافة في خمسين مئوي لا يقل غرابة عن نتف شعر العانة اثناء ركوب قطار الموت (مدينة الألعاب ) . للثقافة في العراق معبدها المركزي وهو شارع المتنبي . وهو يقابل ضريح العباس (ع ) من حيث الدلالة . ومثلما ان للعباس زوارا دائميين فان للمتنبي زواره . في هذا الشارع تصل درجة الحرارة الى مستوى منحط وبذيء وغير لائق بتاتا . لايمكن للثقافة (الحياة المدنية ) ان تعيش في درجة انصهار الحمير . وفي ابنية متداعية نتقاسم فيها الجلوس مع القوارض . هناك جرذان اكثر من البشر واكثر من الكتب تعيش في الخرائب المحيطة بالمتنبي . شارع الرشيد نفسه اصبح عبارة عن مزبلة محترمة جدا وتدعو الى البكاء .وبينما لاتزيد درجة حرارة العباس عن 15 مئوي في دائرة قطرها مئة متر تقريبا . فان درجة الحرارة في شارع المتنبي تتجاوز الخمسين احيانا . و في (الشابندر ) فان جو المقهى اكثر سخونة من الشاي الذي نشربه . وهناك ( القيصرية) وهو فضاء يجمع بين القذارة والحرارة . ويمثل مكانا صالحا لاحتقار الثقافة , اذ لايوجد اي سقف يمنع الشمس من صب حممها على ال(مثقفين ) وهم يواصلون ثرثرتهم . ولتوزيع الجحيم على الجميع فقد وضعت مراوح من زمن مدحت باشا . وحين تقترب الساعة من الواحدة ظهرا , في منتصف تموز , يتقدم الجحيم ليحتل المتنبي . يترك الباعة كتبهم ليهربوا الى اقرب ظل . تبقى الكتب لوحدها تواجه هذا المارد اللعين . لا تجد من يقلبها او يحملها بعيدا . يذوب الحبر ويسيح على الرصيف .تفقد الكلمة مدلولها . ………………
لايمكن مقارنة تفاهة الامكنة الثقافية في العراق مع اي بلد يملك نفس الثروة . انها عار على الاجيال كلها . وعار علينا نحن الذين نتأبط الكتب.
سوف نختزل قصة الثقافة العراقية بالحديث عن المعبد الذليل . الا وهو المقر العام لأتحاد الادباء , في ساحة الاندلس . وهو المقر الرسمي للمثقفين العراقيين .
كل شيء يمكن تصوره الا ان تكون هذه البناية رمزا للادب . المبنى بائس وفقير مثل ارامل الشؤون الاجتماعية .
يشتبه الكثيرون بين مقر الاتحاد ومركز رعاية الصم والبكم , فكلا المبنيين يسودهما الصمت , و يفتقران الى الكبرياء العمراني .
ويضيف الحارس قائلا انه لايستطيع ان يمنع احدا من احتلال المبنى او المبيت فيه . هناك موظفون حكوميون تابعون لدوائر مختلفة يجلبون طاولاتهم وسجلاتهم ويتخذوا من الاتحاد مقرا لتمشية معاملات المواطنين . دوائر رسمية مثل : لجنة فحص النظر للسواق , او اموال القاصرين , او التسجيل العقاري . وهناك كاتب عدل يأتي يومين في الاسبوع . وقد تركت دائرة كهرباء الرصافة محولتان معطوبتان في حديقة النادي ولا نعرف متى ترفعهما . وان الكثير من المارة يقضون (حاجتهم) في اتحاد الادباء . وقد اوجد التيار الصدري حلا مؤقتا لاشكالية ( الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ) . وتحديدا مشكلة الخمرة التي تقدم في الاتحاد . حيث بالامكان توجيه لكمة الى وجه ( الفريد سمعان) الامين العام للاتحاد , كل ثلاثة اشهر . وهو اضعف الايمان . اننا فئة مندحرة . في وطن لا مكان لنا فيه . لا ننتصر الا في مساحة ضيقة في دواخلنا , او في الورقة البيضاء , او كأس الخمر . اضيف لنا عبء جديد . هو اننا محرومون على الدوام من التبريد . يفكر الاسلاميون التخلص منا دون ضجيج . هناك مقترح لوضعنا في ثلاث حافلات (باصات خشب ) ورمينا خارج الحدود . بعد ذلك سيتم غلق شارع المتنبي وانهاء هذه السخافة المسماة الثقافة . المقترح جيد وعملي .ولا يؤثر على عضوية الدولة العراقية في الامم المتحدة . الثقافة ليست شرطا من شروط الاعتراف بالدول .
ولكي لا يموت المثقفون من القهر عليهم ان يتعلموا كيف يبيعوا اوطانهم للاجنبي . فبعد قرون من السيادة اثبتت الوقائع ان الحاكم المحلي هو العدو الاول للثقافة الحرة وللحياة المدنية . وان فكرة السيادة تصب في مصلحة الفئة الاكثر انحطاطا في المجتمع . لقد آن لنا ان نغير اتجاه الثقافة نحو كشف مساويء الاستقلال , والسيادة , وحق تقرير المصير , وكل هذا الزبل (الوطني) الضار .
لايمكن النظر الى الثقافة بشكل جدي في درجة انصهار الحمير , في ذوبان اسفلت الشوارع , في سيلان قشرة المخ . في تعذر الكلام بسبب فيضان الابط . الثقافة تبدأ عندما تتوفر للجسد متطلباته الاساسية من الحرارة والشبع والشعور بالامان .. .ليس الهدف من هذا المقال هو حرمان العباس (ابو راس الحار) من حقه في التبريد , سوف اكون انانيا اذا فكرت بهذه الطريقة . على الاقل ان هناك مكان في البلاد يلجا اليه الناس عند هبوط الجحيم . فباسم الزيارة اصبح الضريح ملجأ لكثير من العمال والكسبة والمعدمين والذين لا يجدون التبريد في بيوتهم .
احتقار الثقافة موضوع يتعاون فيه الجميع . الدولة ورجال الدين الافاضل والمثقف نفسه . وهو يعود اصلا الى علم الجمال المحلي (المزاج العام ) الذي يرى الجمال في الجهل التام والقوة الفجة وليس العقل .
[email protected]