18 ديسمبر، 2024 7:48 م

الجهاز المعرفي في المجتمعات كافة هو كم من المعلوماتية والمعايير التي ترسخ في المجموعة البشرية لتشكل ما يمكن أن نسميه مجتمعا وان كانت كمية الاختلافات والتناقضات في محتواه كبيرة حجما ومتسعة مسافة ما بين اليمين واليسار، لكنها تتفق في أنها تنظر إلى الأمور وكأنها ثوابتا وتميل لتقديس كل شيء فكرة أو راي وهذا لا يختلف كثيرا في التطبيق العملي ما بين متعدد الأفكار لان من يتحكم بها الغرائز وليس إعمال المنظومة العقلية.

(حاول أن تتعلم شيئاً واحداً عن كل شيء، وكل شيء عن شيء واحد) – توماس هنري، هذه المقولة حصرت الثقافة وجعلت نغمة فكرتها بالتطبيق سدا منيعا أمام التغيير والتطوير، ولست بصدد مناقشتها لكنها مقولة رنانة محتواها مقفلا في أوله وطوباويا في آخره، فمعرفة كل شيء عن شيء قد تتخذ في إيقاف الجديد المبتكر عن التبني في مجتمعات لم تبلغ النضج أو تقع أمام من يظن أن معرفته هي المعيار وان لا جديد إلا ما ينتجه.

أما تعلم شيء عن كل شيء وعزوف الناس في مجتمعنا عن القراءة الجادة، فهو سيلتقط شيئا عن كل شيء وفق فهمه، ويعتبره بطبيعة الجهاز المعرفي والميل للتقديس وتعاريف معنى الثبات على الراي والمتانة ومصداقية المعلومة بثباتها وليس بتطويرها، فسنجد حتما أناسا تتحدث وتناقش المختص في اختصاصه وتسفه رايه وهي لم تتعلم إلا معرفة انطباعية عن شيء مما هو مختص به، بل هذا الشيء ستجد له أفهاما متعددة وربما تسبب جدلا عقيما فليس هنالك استعداد لنزع القدسية عن المعلومات المكتسبة.

الجهاز المعرفي عند مجتمع ما يقف أمام التجديد وقبول التغيير خصوصا إن لم يفهم بان التحديث من مقوماته؛ كما يجهل المسلمون وجوده في الإسلام بل الفهم بضده رغم وضوح نصه، وغالبا ما ينتقل الجهاز المعرفي مع الإنسان وان تغير المجتمع الذي يعيش فيه وهنا تبدأ عملية من الصراع قد تفشل في التفاهم مع المستجدات فتبدأ هجرة معاكسة ليعود إلى حيث هاجر عن بلده أو مجتمعه الأول.

الانتقاد والنقد ما بين القيمة والسلوك

حينما نتحدث عن السلوك السلبي وننتقده هو أو أي ظاهرة أو تصرف أو سلبية في مجتمع ما فإننا لن نحدث التغيير لان تبيان المشكلة لن يحل المشكلة أو يفرض حالة التغيير عليها بل تبقى مسالة راي مصطدمة بالجهاز المعرفي الذي يتبنى السلبية التي يراها أي من يشخصها وهي في الحقيقة إفرازات التهاب لمرض مجتمعي نتيجة تكلس الرتابة وعجزها عن المواكبة لحديث حاصل أوتحديث مطلوب، لذا فلابد عندما نعالج أن ننتق أي ظاهرة أو فكرة، أي تبين الإيجابية والسلبية وما هي تكاليف التغيير أو إلغائها المادي أو المعنوي، وهذا مؤشر للتغيير المطلوب فعلا وتحديد اتجاهه ضمن دراسات ونقله إلى المجتمع بخطاب عقلي لا يناقش السلبيات بأسلوب الانتقاد وإنما يوضح التغيير الفكري ويزرع القيم الجديدة والفهم الجديد، وسنجد اثر ذلك حتما تدريجيا في تغيير السلوك بقناعة لتحل منظومة صالحة محل أخرى، وهنا لابد أن نكون حريصين أن لا نقنع الناس بانهم سيمتلكون الحقيقة ا وان ما تعلموه من الثوابت، وإنما هي الحياة تعني التغيير بالنقد لا الانتقاد، والمفهوم وليس السلوك الذي ينفلت عادة عندما تستثار الغرائز كحب (التدين، التملك، النوع، السيادة).

مؤسسات الثقافة:

لمؤسسات الثقافة دورا كبيرا مهملا في واقعنا بل مشوها، فعندما تتحدث عن الثقافة وضع انطباعا ذهنيا أنهاالموسيقى والغناء والفلكلور وغيرها، بينما لا تجد الفكر الذي ينشئ السلوك الذي بدوره يظهر معالم ثقافة الأممسواء بتأثير قيمي عميق حضاري أو بتأثير قيمي متمدن.

هذا السلوك يأتي من بناء الفكر ومهمة الإنسان كوجود لوجود أهمية لوجوده؛ وهذا يتطلب حوارات هادفة وتطوير للفكر البشري وشرح للمهام الآدمية وكيفية التعامل معها سواء كفرد أو مجموعة أو مجتمع بدولة وقوانين، وما هو مطلوب من المجتمع كوجود، وهنا تكون مؤسسات الثقافة فاعلة عن طريق نشر الأفكار التجديدية التي تعيد الأمل والثقة للإنسان بذاته وأهمية كينونته وأهميته كآدمي بإرساء برامج هادفة إحيائية بالتوأمةوقنوات بكفاءة قناة الجزيرة مثلا.

إنك لن تكافح سوء الخلق بانتقاده، ولا المخدرات بتبيان مساوئها، الم ترى أن علبة السكاير كتب عليها انه يؤدي للسرطان فأصبح المكتوب عليها تلك العبارة هي المفضلة للمدخن!

إنما مكافحة السلبية تأتي من خلال دراسة نفسية المجتمع وما هي أسباب إدمان البعض أو شذوذ تصرفاتهم أوخلقهم أو سلوكياتهم، وهنا تأتي الأمور عن الجهة القانونية والردع والتثقيف من طرف آخر، لان الردع يثير الغرائز الحاكمة، أما الإرشاد فيخاطب المنظومة العقلية والمنظومة العقلية لا تخاطب عندما تغيّب

إن الشجرة المريضة تصبح عشًا للحشرات تضع في شقوقها بيوضها وعلى لحائها تتغذى اليرقات … ولا يمكن أن تزال تلك الحشرات بالكلام عن مساوئها أو التقاطها بالملقط بل بمبيد للحشرات، لكن طلي الشجرة للوقاية لا ينفع إلا السليمة.