18 ديسمبر، 2024 9:52 م

الثقافة الفرعونية

الثقافة الفرعونية

عندما نقرأ القرآن الكريم فإنّنا نستطيع أن نطّلع على سِيَر الأمم السّابقة وما حدث فيها، وبطريقة مفصّلة أحياناً. وقد حدّثنا الله عن بداية خلق البشرية وكيف عاش أبوانا في الجنّة منعّمَيْن، إلى أن جاءت لحظة الاختبار التي كشفت  زيف إبليس وامتناعه عن السجود لأمر الله عبر السجود لآدم. وكان تبرير إبليس لذلك بأنّه أفضل من آدم وأعلى مرتبةً منه. فكان الاستعلاء الذي أخرجه من الجنة دون عودة إليها مطلقاً: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18].

وبعد هبوط آدم (ع) إلى الأرض، بدأ البشر بالتكاثر، وظهر الانقسام بينهم، بين الإيمان والطغيان، بين الخير والشرّ، بين السلام والعدوان. وحدّثنا الله عن النماذج الطاغية التي مرّت على هذه الأرض، أفراداً ومجتمعاتٍ طغت على الآخرين. وكانت قصة النبي موسى(ع) وفرعون هي الأكثر تكراراً في القرآن. وقد وصف الله لنا فرعون وطغيانه واستعلاءه في الأرض، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 4].

وممّا لا شكّ فيه أنّ النموذج الفرعوني قد تكرّر بعد النبي موسى(ع)، وطغى على الناس وحارب الأنبياءَ والمرسَلين، وما اليهود الذين حاربوا السيّد المسيح (ع)، وقريش التي حاربت النبي محمد (ص)، وبنو أمية الذين قتلوا الإمام الحسين(ع)  وأهل بيته (ع)، إلا نموذجاً فرعونياً طغى في الأرض وعاثَ فيها الفساد. ولا شكّ أنّ هذا النموذج الفرعوني يتكرّر في كلّ زمان ومرحلة عبر شخصياتٍ ومنظّماتٍ ودولٍ.

وتلك مشكلة الفراعنة في العصور المتأخّرة والزمن الحاضر، ممّن يسيرون في خطّ الفراعنة التاريخيّين، هؤلاء الذين قد لا يطلبون من الناس المستضعَفين أن يؤلّهوهم ويعتقدوا بربوبيّتهم، ولكنّهم يضغطون عليهم من خلال استغلال حاجاتهم ونقاط ضعفهم، ليتّبعوهم في تأييد مواقعهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ليتمكّنوا من السيطرة على واقع الناس في حركة الصراع الدائر من قِبَل المستكبرين للاستئثار بمواقع السّلطة، ليحارب النّاس مَن يحاربونه، وليسالموا مَن يسالمونه، وليتحرّكوا بالفتنة إذا أرادوا إثارتها للوصول إلى أهدافهم الخبيثة أو للحصول على موقع استكباري جديد ضدّ المواقع الأخرى.

من الممكن جداً أن يكون لبعض الطُغاة بعض المعرفة، ولكنّهم كما ذكره الله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}[النمل: 14]؛ إلا أنّ الكثيرين من الطغاة ومن المستبدين قد يستغرقون في ذواتهم من خلال ما يحيط بهم من الثروات أو من السُّلطة أو من خضوعِ الناسِ لهم، أو ما إلى ذلك، ما يؤدّي إلى تضخيم شخصيّاتهم، حتى إنّهم قد يرتفعون بأنفسهم إلى أن ينظروا إلى ذواتهم بأنّها في موقع الألوهية، كما في حال فرعون الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص: 38]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات: 24]. وهكذا نجد الآن الكثير من الطغاة والمستبدّين، من الملوك والأمراء والرؤساء، يسيطرون على الناس، ويجعلون أنفسهم في مواقع الاستعلاء السياسي والاجتماعي، وربما الاستعلاء الديني، من دون أن تكون لهم أيّةُ كفاءةٍ تبرّر لهم ذلك، ولكنّهم قد يكونون ممّن ورثوا المُلك أو ورثوا السّلطة أو ما إلى ذلك، فخُيِّل إليهم أنّهم يملكون الناس، وأنّ على الناس أن تخضع لهم. فالأمر يختلف بين طاغيةٍ وآخر.

إنّ المتكبّرين يتحرّكون من موقع العقدة الذاتية المرضية التي تُشْعرهم بالاستعلاء والكبرياء فتُوحي لهم بأنّهم أعظم من أن يُذعنوا للفكر الذي يأتيهم من خارج ذواتهم، وأكبر من أن يخضعوا لإنسان ما حتى لو كان نبيّاً، وتتعاظم عندهم العقد لتمنعهم من الاستسلام لأمر الله والإيمان بآياته دون أن يكون لهم أيّ حجة في ذلك.

يقول المرجع الراحل السيّد محمد حسين فضل الله(رض): “لقد علّمتنا القيادات أنّ النقد عداوة، ونحن مَنْ يرفع شأنهم، لأنّنا غطّيناهم بالمدائح، وبالتزلّف وبالنّفاق، حتى خُيِّل إليهم أنّهم لو لم يكونوا على الحقّ، لما جاءت القصائد والخطابات وكلّ هذا في مدح عبقريّتهم ومدح خطوطهم، لقد علّمناهم من خلال نفاقنا وعبوديّتنا أن يكونوا فراعنة، ثم بدأنا نشكو من هذه الحالة الفرعونيّة. إنّنا نعيش في واقعٍ، الكلُّ يطالب فيه بالحرية، وأنّه لا معنى للبنان بدون حرية، ولكن قولوا لي في أيّ حزب وفي أية حركة وفي أيّ تجمع سياسي يُسمح بالحرية في داخله، ولا أستثني أحداً، ممنوع أن تنتقد مسؤولاً أو قيادةً أو خطاً سياسياً، أو ما إلى ذلك”.

وهذا يُلقي بالمسؤوليّة على الناس الذين يخضعون للطّغاة دون أية مقاومة، لا بل يعملون على تمجيدهم والدفاع عنهم. وحدّثنا الله عن ذلك: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد: 11]. ولهذا قال عليّ أمير المؤمنين(ع): “كما تكونوا يُولّى عليكم”.

لا بدّ لنا من محاربة هذه الثقافة الفرعونية الطاغية، وذلك عبر تحرير العقل من كلّ القيود التي تكبّله وتمنعه عن الحركة والتغيير، ولا شكّ أنّ الانغلاق الدّيني والفكري وعبادة بعض الشخصيات تأتي في المقام الأول لتغييب العقل وتغليب العصبيّة. فنحن بتنا نعيش في دوائر ضيّقة ومُغْلَقة، يُمنع فيها التعبير بحرية أو محاولة الاختلاف مع الرأي السائد. لأنّ الثقافة المغلقة تمنعنا من ذلك وتقول لا تفكّروا، لا تفعلوا كذا وكذا، نحن نفكّر ونفعل عنكم… إنّ هذه الطريقة تجعل الأفراد يشعرون بقصورهم الفكري والديني وحتى الإنساني.

والأكثر خطورة في الأمر هو تطويع الدّين واستعماله كأداة للضغط على البسطاء من الناس، فهذا الدين محرّمٌ عليهم حتى المناقشة فيه، فحتى الحوار غير مسموح. مع أنّ القرآن نقل إلينا الحوار بين الله الأعلى وبين إبليس اللّعين، وذلك لكي يرسم لنا الجادة التي يجب أن نسير عليها في حياتنا مع الآخرين. وقد عبّر السيد فضل الله(رض) عن ذلك بـ “أن لا مقدّسات في الحوار”. لا بل دعا إلى إعطاء الحرية للباطل ليعبّر عن نفسه، فهو زاهقٌ حتماً. يقول (رض): ” إنّني أقول: أَعطِ الحريّة للباطل تحجّمه وأعطِ الحريّة للضلال تحاصره، لأنّ الباطل عندما يتحرّك في ساحةٍ، فهناك أكثر من فكر يواجهه، بحيث لا يفرض نفسه على المشاعر الحميمة للناس، فيكون فكراً، مجرّد فكر، قد يقبله الآخرون، وقد لا يقبله الآخرون، ولكن إذا اضطهدت الباطل ومنعت الناس من أن يقرأوه ولاحقت الذين يلتزمونه بشكلٍ وبآخر، فإنَّ معنى ذلك أنّ الباطل سوف يأخذ معنى الشهادة، سيكون الفكر الشهيد، رغم أنَّه لا يحمل أيّة قداسة للشهادة، ومع ذلك فالناس تتعاطف مع المضطَهَدِين”.

كم من فكرٍ شهيدٍ نصنع ، وكم من باطلٍ نعطيه القداسة في قَمْعِنا له؟ وكم من إلهٍ نمجّد بجهلنا، وكم من طاغية نصنع؟ متى يُشرق نورُ الله في قلوبنا وعقولنا لكي نرى كلّ إنسانٍ بحجمه، ونميّز ضلال هذه الفئة وتلك الفئة دون أن تأخذنا العصبية إلى حيث تريد….

إنّ هناك أصناماً طائفية وحزبية وسياسية تنشأ، ونحن نعبدها ونقدّسها بجهلنا. لقد أعطينا عقولنا إجازاتٍ طويلة الأمد عن التفكير والعمل، فمتى تنتهي هذه الإجازة لنهدم كلّ هذه الأصنام، ولا يبقى لنا إلا الله وحده. هل نقدر؟!

{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة: 105].