23 ديسمبر، 2024 12:26 م

الثقافة العراقية … وريعية الدولة

الثقافة العراقية … وريعية الدولة

تعتبر الثقافة مرآة تعكس الطبيعة الحضارية للشعوب ، وهي جزء مهم من حراكهم عبر مراحل التاريخ ، ونتاج للعوامل البيئية والسياسية والاقتصادية التي تعيشها هذه الشعوب ، لذلك لا يمكن أن تنشئ ثقافة لمجتمع بمعزل عن ظروفه المحيطة به والمحركة له ، والداخلة في نشأته وتكوينه … أنتج العراق عشرات المثقفين من أدباء وكتاب وشعراء وفنانون ، ساهموا في بناء صرحه الحضاري في العصر الحديث ، وشكلوا اللبنة الأساس والعمود الفقري للثقافة العراقية الحديثة التي نشأت بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 ميلادي ، إلا إنهم خضعوا لمعادلات سياسية ومجتمعية فرضت عليهم الكثير من الامتلاءات والإسقاطات الفكرية التي عملت على تكبيل حسهم الإبداعي ، وعانى معظمهم صراعا نفسيا وضغوطا سياسية أرادت ادلجتهم وفق مفهوم ورؤية السلطة الحاكمة آنذاك … لكن بالرغم من كل ذلك نجد ان المثقف العراقي استطاع المناورة والإفلات من الكثير منها ، وانتج ثقافة لامست الواقع العراقي بكل تفاصيله وجزئياته في تلك المرحلة ، كان لها التأثير الكبير في نشوء حالة من التواصل بين الجماهير وهذا المثقف ، حتى أصبحت الثقافة العراقية تمثل سفر وشاهد لكل الأحداث التي عصفت بهذا البلد ، من خلال مواكبتها للأحداث برؤية وطنية ناضجة بعيدة عن كل أشكال الانتهازية والنفعية … إلا إن هذه الجذوة بدأت تخبو في أواسط ستينيات القرن الماضي ومن ثم تلاشت بفعل القيم والمفاهيم الأحادية التي فرضت على المجتمع العراقي ، ضمن إطار الفكر  الواحد ، مما اضطر الكثير من المثقفين الى الهجرة خارج العراق او التزام الصمت خوفا من أن يصبحوا أبواق للسلطة ، في مرحلة أصبح كل ما موجود داخل هذا البلد يصب في مصلحة النظام ألبعثي ويدور في فلكه ، وأداة دعائية لتمجيد حروبه العبثية التي زج بها هذا الشعب رغما عن إرادته … بعد التاسع من نيسان عام 2003 ميلادي تغيرت الكثير من هذه المفاهيم في ظل بحبوحة الحرية والديمقراطية الوليدة التي وجدت بعد زوال الصنم ، الا ان الثقافة العراقية واجهت مشكلة جديدة لا تقل خطورة عن سابقاتها وهي ريعية الدولة ، واعتمادها بنسبة تسعة وتسعون بالمائة على تصدير النفط في وارداتها ، مما انعكس سلبا على الثقافة العراقية وتحولها إلى ثقافة ريعية هي الأخرى ، فبعد الاعتماد الكلي على النفط في واردات الدولة وتوقف الآلاف من المصانع وتحول معظم الأراضي الزراعية إلى أراضي بور غير منتجة ، بسبب إهمال الفلاحين لها واعتمادهم على مصادر للرزق أسهل واقل عناء من مهنة الفلاحة ، أصبحت ثقافة برج النفط هي السائدة على ثقافة النخلة والمصنع ، وهذه النمطية الاقتصادية لا تولد إبداعا فكريا لدى مجتمعاتها ، لذلك تحولت الثقافة العراقية إلى ثقافة سوداوية مأساوية تنقل الواقع المأساوي الذي عاشه ويعيشه الشعب العراقي في ظل الحروب والاحتلال وسطوة الإرهاب وإفرازات الاحتراب الداخلي بكل أشكاله  ، وهي بالتأكيد ثقافة غير منتجة بعد ان غاب عن أبجدياتها ، الفلاح وأرضه والعامل ومصنعه والطالب ومدرسته ، ولا نجد فيها غير الحروب والموت واليتم .
 هناك قول مأثور يقول ( الأمة التي لا تنتج غذائها لا تنتج ثقافة )… المثقف العراقي يعيش الآن حالة من الارتباط الاارادي مع عقدة الماضي القريب ، ولا زال وعيه الثقافي يجتر ما عاناه مجتمعه من حروب وانتكاسات في العقود القليلة الماضية ، كونه كان ولا يزال جزء فعالا من هذه المرحلة العصيبة التي لا زال يمر بها العراق ، وقد عاش تفاصيلها في حالة وعي ناضجة تختلف عن الكثيرين ممن حوله ، وحين أتيح له المجال أن يكتب بحرية وبدون قيود او بوابات سوداء ، لم يجد مادة دسمة ينهل منها في واقعه الحالي غير المأساة ،  فجادت قريحته بثقافة بكائية كان الحزن والموت والدماء عنوانها العريض … إنها ليست مشكلة المثقف لوحده بل هي  مشكلة دولة اعتمدت على النفط كوسيلة وحيدة لمعيشة شعبها ،وعطلت مرافق الحياة في هذا البلد ،  وجعلت العراق بكل ارثه الحضاري والإنساني رهين بهذه المادة السوداء.