18 ديسمبر، 2024 8:20 م

الثقافة العراقية في مهب عواصف السياسة

الثقافة العراقية في مهب عواصف السياسة

كانت الامنية كبيرة جداً بحجم العراق، أن نر العراق يتنفس الصعداء بعد سنوات عجاف من عمره الهرم وشيخوخته المزمنة من جيل بعد جيل، وأن تتمنى له الخروج من نفقه المظلم وأن ير النور كما العالم، وعجيب كل العجب أن تر العراق كعبة العالم ومحط أنظاره وشغله الشاغل، وأهله يصدون عنه ولا يعرفون قيمته ومقامه وقيمومته ، انه العراق، بلاد الرافدين، شاغل الملايين وأبو الملايين، ويدر الملايين، ولكنه بلاد المساكين، بلاد التيه والغرباء، بلاد العجائب والعجب العجاب، بلاد النور يملأها الضباب، بلاد الكل يملأها الخراب، بلادي ليست كالبساتين، بلادي تعرت، بلادي كل ما فيها من ربيع يانع تحول الى خريف فاقع، خريف يعم فصول السنة، خريف خرافة ملؤه الخرف، يا لحجم حزني عليك ملؤه النزف، لم تعد كما أنت سابقاً حديث المقاهي والذكريات، حديث الصبايا والجميلات، حديث الثقافة والفكر والامنيات، تشوهت جميع معالمك ولم تعد حامل النار والنور، لأن سارق النار قد حلت عليه لعنة الاله، وتحول الجميع الى سراق، يسرقون النار لأطفاء النور، بلد كان ينير العالم، لكنه اليوم يغط بظلام دامس، ببركة زمر الظلام، في زمن الديمقراطية المحنطة، التي تشوهت معالمها وصورتها، ومللنا شكلها القبيح في العراق الجديد، الذي لا جديد فيه أبداً، عراق نهبه حكامه، وقتله ثواره، ودمرته الفئة الباغية والطغمة الحاكمة، طوال تلك السنوات العجاف من تاريخ الديمقراطية الجديدة الهجينة في العراق بين ديمقراطيات العالم.
لعلنا كنا مغالين، كطبيعتنا البشرية العراقية، في أحلامنا وأمنياتنا الكبيرة، أن نر عراقاً يليق بنا، يليق به، ملؤه الزهو والفخر والجمال، لكننا للأسف كانت أمنياتنا أضغاث أحلام، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، بسبب طغمة الحكومات المتعاقبة عليه، التي أفسدت ودمرت وأهلكت، تلك الحكومات والسياسات المبرمجة من سادتها، التي عاثت فساداً وخراباً في وطني الكبير الذي أحببته، كما أحبه الجميع وجن به، لكنه وطن سرقه حكامه، وطن دمرته حكوماته، وطن بحجم الكون يضعه حكامه في سلة النفايات، يا لحجم هذه الكارثة، واقع لا يليق بالعراق ولا بأسمه وناسه وحضارته وتاريخه، واقع مؤلم ومحزن وكريه لا نور فيه ولا ضياء، من جراء حكوماته المتعاقبة التي أذلت شبابه وقتلت أمنياته وسرقت أحلامه، وجعلته أسفل السافلين، بعد أن كان في عليين.
في الحقيقة ان واقع حال الثقافة في العراق لا يختلف عن واقع الجوانب الاخرى لحياة الفرد والمجتمع العراقي والمؤسسة العراقية، فهي أيضاً قد مسها النصيب الاكبر من الخراب والدمار، مادياً ومعنوياً، وأصبحت في خبر كان، بعد أن كان ذكرها يملأ الاركان، بسبب سطوة وهيمنة السياسة وأيديولوجيا الساسة وتشظي الارادات وصراع العصابات على نيل الثروات، للاسف أن يكون هذا هو شكل وصورة واقع الحال الثقافي في العراق، الذي لا يشبه تاريخه وحضارته وعمره العريق، وما كان ذلك ليكون لولا تلك الادارة السيئة والحكومات غير المسؤولة في قيادة دفة الحكم في العراق، من الاحزاب والكيانات والمكونات والشخصيات العصبوية العصابية والعصابات، التي أحالت العراق الى خراب بلقع.
لم نر في العراق الجديد عكوف الحكومة أو وزارة الثقافة على أبراز معالم جديدة تليق بالعراق وتاريخه الخالد، أو اقامة برنامج تنموية أو ثقافية أو معرفية تليق بأبناء هذا البلد، لم نر أهتماماً يذكر ببناء مسرح أو جامعة أو سينما أو تشييد لدور ومراكز للشباب والمرأة ورعاية الطفولة والمواهب أو اقامة مسابقات أو رعاية العلماء والاكاديميين والمبدعين في مجال الثقافة والفن والرياضة والتربية والتعليم أو غيرها من المجالات، رغم كل الميزانيات الانفجارية التي سمعنا بها في الاعلام ولم نر خيرها أبداً، لقد أنطفأت شعلة الثقافة والمعرفة والحياة في العراق الجديد بسبب نار السياسة التي أحالت كل شيء الى رماد تذروه الرياح. تاريخنا في مهب عواصف السياسة، حياتنا في مهب عواصف السياسة، أقتصادنا في مهب عواصف السياسة، ثقافتنا في مهب عواصف السياسة، كل شيء فينا اليوم أصبح في مهب عواصف السياسة، لا نتقدم خطوة الى الامام ما دامت السياسة هي التي تجرنا جراً الى الوراء، وتلقي بنا الى الهاوية، ما دامت السياسة في العراق مشروع جنوني لأقامة التحالفات وتكاتف الارادات وصراع الزعامات الحزبية من اجل مصالحها الشخصية ونسيان مصلحة البلد ووضعه في الحضيض بين دول العالم.
يؤلمني جداً ذلك الواقع الثقافي والاجتماعي والحياتي الرث في المجتمع العراقي، حيث الرثاثة والتفاهة تملأ الافاق، السيادة والقيادة والريادة للتفاهة، للحماقة، للصفاقة، للفاسدين، للخارجين على القانون، لسراق المال العام، للمتواطئين، للمرتشين، لسراق السياسة والدين، للدجلة للمتملقين، لمن يحسن بيع الدين بالدنيا، لمن يساوم الناس على لقمة عيشهم، لمن لا تشبعه الملايين، ولا يشغله شاغل عن قتل المساكين وحرق البلد من فيه، تلك هي الرثاثة التي أصبحت واقع حال وفلسفة تعاش في بلاد الرافدين، نألفه في حياتنا اليومية وممارساتنا ومؤسساتنا، بل أصبحت أيديولوجيا للكبار المتسلطين الذين يتحكمون بنا وبمقدرات هذا البلد، وما نراه ونعيشه يومياً في حياتنا لهو دليل واقع وفاقع على أقول.
لعلني أغرد خارج السرب، ولا أطرب أحداً من أهالي الحي، ولكنني أطرب نفسي وأحييها بهذا الكلام، ويزيدني فخراً أن أغرد خارج السرب ولا أسير مع الاخرين حيث يسيرون، وهذه تهمة جاهزة تكيلها كل فئة لا يتناغم هواها مع هوى من ينتقدها وينصحها ويرشدها، وهذا هو ديدن كل من يتسلط ويتجبر على رقاب الناس، لا يحكم الا بهواه، ولا يسمع لأحد أبداً، وكثير ما هم بيننا ممن يسير بهذه السيرة والسلوك، من أناس بسطاء وملوك، لا يسمعون للآخرين ولا يقدرون أقوالهم ومقالاتهم ومعاناتهم، لأنهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً، ويسوسون الناس على الطريق المستقيم، ولا يعجبني أن أقول الا ما أعتقده من القول وهو أصدقه، حتى وأن لم يكن أعذبه، لكنني أبغي الصدق في القول والنصيحة، لحماية بلدنا وأهلنا وحياتنا وواقعنا مما نعانيه من ترهل وهلاك وفوضوية في مجتمعنا لا يليق بنا ولا بما يملك العراق من ثروات وطاقات وامكانات جبارة تفوق الخيال.
للأسف لم يسلط الضوء في السنوات الاخيرة ما بعد التغيير من قبل الدولة والحكومات على البناء الثقافي للفرد والمجتمع العراقي، بل كانت هناك ارادات قصدية تعمل على تدمير كل شيء في العراق، وهذا ما جعل مجتمعنا سهل الاختراق والخراب من قبل اجندات داخلية وخارجية وأفكار متطرفة لا تريد بنا خيراً، ولعل القادم من الايام أسوأ من السابق، لأن الخطاب السياسي الهش والرث مهيمن على كافة المجالات ولا صوت فوق صوته، وترك بصمته السيئة على حياتنا اليومية وافكارنا وسلوكنا، وتراجع كل شيء فينا، الوعي والثقافة والتربية والسلوك والقيم، بفضل ذلك الخطاب الهجين وتلك السياسات المتخلفة التي أهلكت البلاد والعباد، فهل ندرك في يوم ما ما نحلم به ونصبو اليه من تلك الامنيات في بناء وطن يليق بنا وبأولادنا وأهلنا أم يبق العراق يدور كالطواحين وتذروه الرياح في كل مكان ما دامت السياسة هي السيف المصلت على رقبة العراق وأهله دون فعل أو تغيير حيوي وجذري فاعل يذكر لأنقاذ ذلك الواقع المرير.