كيف تؤدي العلاقة المرضية غير المتكاملة بين منتجي الثقافات البورجوازية العربية وبين الغرب الامبريالي، وهي العلاقة التي وصفناها من قبل في دراسات سابقة لنا بانها علاقة خضوع وسيطرة، تبعية وقهر، الى وضعية الاغتراب؟
سؤال مهم، ولكننا كي نجيب ينبغي ان نحاول تفسير الاساس الاجتماعي الذي طرح تلك الثقافات العربية المندمجة في الايديولوجيا الامبريالية. نعني الاساس الذي اقيمت عليه، وانطلقت منه حركة البورجوازيات العربية.
بصرف النظر عن طبيعة الانتاج الذي كان سائداً في البنيات الاجتماعية العربية، قبل بدء التغلغل الاستعماري، وهل كان انتاجاً اقطاعياً ام انه كان من نوع آخر ينتمي الى شكل محدود من اشكال الانتاج الاسيوي، وهي المشكلة التي كانت وما زالت مثار اختلافات شديدة في الرأي بين المفكرين الاقتصاديين والمؤرخين لتلك الحقبة، فأن المهم هو تقرير حقيقة لها دلالاتها الكبيرة فيما يلي عملية التغلغل الاستعماري في بنياتنا الاجتماعية العربية، وهي- ان هذا التغلغل نفسه هو الذي ولد علاقات جديدة متميزة من الانتاج، في البنيات الاجتماعية العربية، حسب المراحل الزمنية لتغلغله في كل منها، واحدث تحولاً جذرياً في حركة تطورها التاريخي، وجعلها تخضع في تلك الحركة لمنطق التبعية الاستعمارية.
ان هذه الحقيقة تنطوي على بعدين: اولهما- ان ثمة اختلافاً كيفياً تتميز به البورجوازية في بلداننا العربية عن البورجوازية الاوروبية. وهذا الاختلاف يكمن في طبيعة تكوينها التاريخي، وفي طبيعة علاقات الانتاج المرتبطة بسيطرتها الاجتماعية. وثانيهما- انه مادامت هذه البورجوازيات العربية قد نشأت بفعل التغلغل الاستعماري، وفي اطاره، وفي علاقة خضوع وتبعية له، فأن ثمة اختلافاً كيفياً آخر بينهما وبين البورجوازيات الاوروبية على صعيد اتجاهاتها وممارساتها الايديولوجية ومحتواها الايديولوجي نفسه.
ان البورجوازية الفرنسية على سبيل المثال، استطاعت ان تقوم بحكم انها كانت طبقة ثورية مهيمنة بثورة تاريخية قضت على علاقات الانتاج الاقطاعية التي كانت تقف سداً امام تطورها، ودفعت البنية الاجتماعية الفرنسية بقوة على طريق تطورها الرأسمالي، اي الى التطور في اطار من علاقات الانتاج الرأسمالية التي تولدت داخل الاقطاع نفسه. وفي هذه العملية التاريخية الجذرية ضد نظام الاقطاع، تبلورت افكار الثورة الفرنسية، وتحددت مفاهيم الايديولوجيا البورجوازية وادواتها المنهجية، واكتسبت بها طابعها الثوري التحرري في ذلك الحين، بينما نجد ان الطبقات البورجوازية العربية التي نشأت خلال التغلغل الاستعماري، وبفضله، تخضع في تطورها الداخلي منذ بدايته للاطار الضروري لتبعيته، ومن ثم فأن هذه الطبقة البورجوازية او الطبقات منذ مولدها لم تكن طبقة ثورية ولم يكن بوسعها ايضاً ان تنتج ايديولوجيا ثورية.
هذه الطبقة التي تولدت في رحم التغلغل الاستعماري لم تقم اذن بثورة بورجوازية مثلما بالنسبة للطبقات البورجوازية الاوروبية. ذلك، ان التغلغل الاستعماري كان قد بدأ، بينما كانت هي لم تزل في مهدها، فتكونت بعد ذلك ونمت في الاطار البنيوي الذي ولده هذا التغلغل الاستعماري نفسه، بأشكاله المختلفة، سواء في ربطه الانتاج الزراعي المحلي بالسوق الاوروبية الرأسمالية، وما كان لذلك من أثر فعال في تكون وتطور الملكية الخاصة بالارض او في انشائه بنوك الرهونات والتسليفات وغيرها، او في القروض السخية للبلد المستعمر الذي قصد به دفع هذا البلد الى الافلاس الحتمي، كما حدث في مصر على عهد اسماعيل، حتى يتم وقوع مصر بسهولة تحت السيطرة الاستعمارية الشاملة، الى غير ذلك من اشكال.
ان تاريخ تكون الملكية الفردية للارض في العراق على سبيل المثال، بوصفه تاريخ نشأة ونمو البورجوازية التابعة نفسها، قد بدأ مع الاحتلال البريطاني للعراق الذي وزع 90% من الاراضي على ما يقرب من الف شيخ من زعماء القبائل نصف البدوية، وحاولوا خلق عالم زراعي كانت قد وارته الصحراء تحت رمالها. وشرعوا في انشاء وسائل حديثة للري، حتى تلعب الزراعة الجديدة دوراً حاسماً في تشكيل بورجوازية زراعية جديدة، ادت الى تكريس الملكية الفردية للارض كشكل من اشكال الاستغلال الاجتماعي وبالتالي الى تكون طبقة من الملاك الزراعيين الكبار، هي طبقة البورجوازية التابعة او الجناح الرئيس منها التي كان تجار الاستيراد والتصدير يكونون جناحها الآخر. اما البترول الذي استغلته شركة بترول العراق فلقد تكفل بالباقي.
والامثلة الاخرى عديدة في اقطار عربية اخرى، وهي تؤكد نفس العرض النظري السابق ولا تنفيه، ومع تكون هذه الطبقات من الملاك الزراعيين الكبار، بدأت تتحدد معالم البنيات الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية في شكلها المرتبط بنيوياً بالاستعمار ثم الامبريالية. وهذا الارتباط البنيوي بينها وبين الاستعمار قد اغلق في وجهها طريق تطورها الرأسمالي المستقل، ولذلك لم يكن بوسعها ان تكون مثل بورجوازيات اوروبا التي تطورت تطوراً طبيعياً من الاقطاع الى الرأسمالية.
ومن السهل ان يقال – كما تقول بعض التفسيرات المطروحة- ان كبار الملاك الزراعيين كانوا يمثلون في العراق طبقة الاقطاعيين المرتبطين مباشرة بالاستعمار، وانهم من هذا الموقع كانوا في تناقض عدائي مع البورجوازيات الوطنية التي تمثلها الطبقات المتوسطة التي كانت تطمح الى استلام السلطة والمتناقضة بالتالي مع الاستعمار والامبريالية.
هكذا جرى التفسير السريع حتى لبعض الحركات السياسية الكبرى في المشرق العربي، بل ان كثيراً من التفسيرات او التقديمات للاتجاهات الايديولوجية قد جرى على هدى نفس المنطلق، فقيل ان الاتجاهات السلفية والمحافظة هي اتجاهات الاقطاعيين، وان اتجاهات الطبقات المتوسطة كانت على نقيضها اتجاهات ليبرالية ومتحررة تستمد اصولها من افكار الثورة الفرنسية.
وينبغي ان نعي هنا الفارق بين ما يسمى الطبقة المتوسطة الناشئة في اطار البورجوازية التابعة وبين الطبقة المتوسطة الناشئة في اطار العلاقات الرأسمالية كما حدث في اوروبا.
ان الفارق كبير وكيفي. وهو يكمن في اختلاف النشأة، واختلاف الموقع داخل عملية التطور نفسها. الطبقة المتوسطة الاوروبية هي التي نشأت بين النبلاء والفلاحين اي انها هي نفسها الطبقة البورجوازية الناهضة التي حملت معها نظام الانتاج الرأسمالي، وايديولوجيتها الثورية أبان نشأتها، وانتزعت سلطتها من طبقة النبلاء الاقطاعيين. وليس هذا هو الحال بالنسبة للطبقات البورجوازية التي ظهرت في مجتمعاتنا العربية، كطبقات تابعة نمت في اطار علاقاتها البنيوية التابعة مع البورجوازيات الاستعمارية وليس من خلال تناقضها العدائي مع طبقات اقطاعية لم توجد.
ومع ذلك، فأن الطبقات المتوسطة التي تولد في رحم البنيات البورجوازية الكولونيالية العربية، والتي تجد الطريق مسدوداً امام التطور الرأسمالي الطبيعي، مسدوداً بحكم التبعية للبورجوازيات الاستعمارية والامبريالية نفسها، ترفض التسليم بعدم امكانية هذا التطور الرأسمالي تبعاً لنموذجه التقليدي، وهو النموذج الغربي.
ان اوهامها الايديولوجية تصور لها ان هذا التطور ممكن، وان العقبة التي تقف امامها ليست في التبعية البنيوية للامبريالية وانما في الطبقة المسيطرة على البنية الاجتماعية المحلية. ومن هنا يجيء الوصف الشائع لهذه الطبقة بانها ارستقراطية او اقطاعية.
ومن هنا ايضاً يشيع وهم التماثل بين هذه الطبقة المتوسطة العربية والطبقة المتوسطة الرأسمالية في الغرب، رغم الاختلاف الجذري في النشأة والنمو والمسار وقانون الحركة بينهما. ويحدث نتيجة لذلك ان تتبنى هذه الطبقة المتوسطة التي تتصارع مع الطبقة القديمة حول الحكم، افكار الطبقة الوسطى الرأسمالية الاوروبية ابان تكونها الاول في رحم العلاقات الاقطاعية الاوروبية. وهنا تتردد بقوة الافكار الليبرالية التقليدية بكل اتجاهاتها واشكالها، وتصبح اوروبا او الغرب، النموذج الامثل الذي يحتذى او ينبغي ان يحتذى لاحراز التقدم. ومفهوم التقدم هنا يناظر مفهوم النمو او التحديث الذي سيظهر بعد ذلك.
والمنطلق الذي يسود هناك على مستوى البنية التحتية القائم على وهم – الغرب كنموذج أمثل – القابل للتكرار، هو نفسه الذي يسود على صعيد الايديولوجيا باعتبار الفكر الغربي والادب الغربي والفن الغربي هي – النماذج المثلى – التي ينبغي تكرارها لتحقيق التقدم.
ان الاختلاف الجذري بين بنيتين اجتماعيتين لا تجمعهما سوى وحدة التناقض يختفي هنا ايضاً، مخلياً مكانه لوهم التماثل بين بنيتنا الاجتماعية الكولونيالية والبنية الاجتماعية الاستعمارية، تارة في اطار التبني السطحي لمقولة – وحدة الانسانية- وتارة اخرى في اطار اللهاث العبثي خلف مقولة –العالمية- وتارة ثالثة انجذاباً اعمى نحو المقولة المجردة التي تسمى –روح العصر-.
غير ان التقدم الحقيقي لا يتحقق ابداً ما يتحقق بالفعل هو المزيد من الاندماج بين البنيتين الفوقيتين: البنية الفوقية للمجتمعات العربية الكولونيالية، والبنية الفوقية للبورجوازية الامبريالية، وتنشأ بالتالي العلاقة
المرضية، غير التكاملية، بين منتجي الثقافات البورجوازية العربية المندمجين في الايديولوجيا الامبريالية وبين الغرب الامبريالي.. وتبدأ في التحدد والتميز وضعية الاغتراب.