23 ديسمبر، 2024 4:18 ص

الثروة اللفظية المغامرة في مقامات معاصرة

الثروة اللفظية المغامرة في مقامات معاصرة

المقامة فن ادبي قوامه الحكاية باحداثها وشخوصها وامكنتها وعمادها الاسلوب الذي تزينه المحسنات البيانية والبديعية..تشكلت فنيا واكتسبت شهرتها واجتازت الافاق مع بداية القرن الرابع الهجري على يد بديع الزمان الهمداني/المتوفي 398هـ والحريري/المتوفي566..مرورا بالزمخشري وابن الجوزي والسيوطي وانتهاء بالمويلحي في (حديث عيسى بن هشام)..فسباتها حتى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين الذي ابتهج بظهور (مقامات معاصرة ) نسجت معالمها انامل منتجها زاحم جهاد مطر واسهمت دار ميزوبوتاميا في نشرها وانتشارها/2014..بمقاماتها الثلاث والخمسون التي احتضنتها عنوانات تنطلق من فكرة نصوصها كعلامات سيميائية تسهم في اختراق وفك مغاليقها..كونها تختزل بشكل جزئي الحياة بصورها لتحقيق وظيفة تعليمية واجتماعية وسياسية عبر قيمة بنائية ولغوية منفلتة ومتمردة تستنطق الزمكانية فتكشف عن سياق سوسيوثقافي..
(ياسادتي ياكرام..لكم مني تحية وسلام..
يحدثنا الثقة الجليل..الصادق بن خليل..عن احوال الولاية..بكل دقة ودراية..في العهد الغابر والماضي العابر..وعن ذلك الوالي وجبروته..وعن اسمائه ونعوته..وعن استبداده وطغيانه..وظلمه وعصيانه..ويقول هذا الراوي..في كتابه الحاوي..بان الله تعالى خلق الانسان وعلمه البيان..ووهبه شيئان مهمان..هما العقل والنسيان…) ص9..

فالكاتب يعتمد بنية سردية تتخذ مسارا ثابتا ..باطلالته التمهيدية التي تتضمن فعل القول المسند الى راو سارد..مع غلبة الصناعة البديعية واحتفاظ كل لفظة بمدلولها النصي..لذا فهي تكثر من الاستعارات وتلائم بين الشعر والنثر مع اقتباس الامثال والحكم وتضمينها والنص المقامي الذي يكشف عن ثقافة منتجها الموسوعية..فضلا عن كثرة الالفاظ الدالة على الاشياء المحسوسة التي تلامس قضايا المجتمع والواقع.. فيقدم نصا بوحدة سردية قائمة بنفسها مع اعتمادها وحدة المكان والفكرة وهي ترتكز على راو سارد وبطل خيالي متميز بموقعه المركزي كونه يعيش تجاربه وخبراته..يخلقه الكاتب ويضفي عليه موسوعية معرفية في صنوف الادب وغريب اللغة مع اعتماد فكرة مستحدثة تستبطن فكرة يراد ايصالها عن طريقه بعبارات قصيرة مسجوعة تعتمد التانيق والتزويق اللفظي..بصياغة واسلوب مغرق في الصنعة اللفظية..

( اقول ياسادة ياكرام..ما اجمل تلك الايام..لافرق بين زيد وعبيد..ولا بين الجاف والزبيد ولا بين البيات والعبيد ولا بين الجا والجي وبين العجل ياحجي..توحدت كل الفئات كروافد دجلة والفرات..لتصب في النهر الاثير..شط العرب الكبير..كانهم اسرة واحدة تاكل من نفس المائدة..يجمعهم الفرح والسرور وتوحدهم المصائب

والشرور..وعذرا ان نسيت او سهوت بعض التفاصيل مما تلوت..فقد كان اول ناسي اول الناس ولابد من الاشارة وبصريح العبارة بان الوليمة كانت بسبب زفاف حليمة بنت الخياطة نديمة على ابن المختار الشاب المهذب جبار وانتهت الاحتفالية بالهوسة الشعبية(زوجنا وخلصنا منه عروستنه الاحلى منه) ..ومع تغير الزمن وتكالب المحن وانتشار اهل الفرقة والفتن من اصحاب الفتاوي الباطلة والسنن..تفرق الاب عن الابن وصار السؤال عن الدار قبل الجار وعن الطريق قبل الرفيق…) ص67 ـ ص68..

فالكاتب يشد وثاق اللغة ويوليها جل اهتمامه..لذا فهو يصطنعها بطريقة فنية محكمة..تولد التلائم والانسجام بين الفاظها لتحقيق اسلوب حكائي متميز باناقة الكلمة وانسجام العبارة التي تستوعب مضامينه التي تداعب فكره الموضوعي..فضلا عن اعتماده الجمل القصيرة المسجوعة باتكائه على(الموازنة السجعية)..في خلق صوره الموافقة لطبيعته الانسانية المتصلة والبيئة الاجتماعية كي يحقق بعدها الجمالي الفاعل باكساء عباراته المتماسكة الالفاظ والصانعة للمعنى ابتداء من الاستهلال الذي يفضي الى روح السرد الذي يعتمد التتابعية المكتظة بعناصر التشويق لاستثارة فكر المستهلك بصوره البيانية التي تحلق به الى واحات الوجد باتقانها التعبيري ومضمونها المتكيء على راو يتكرر في جميع المقامات وبطل متحرك زمانيا ومكانيا وهو يطرح حدث طريف او فكرة يراد ايصالها عن طريقه..اضافة الى تحقيق المفارقة التي تحمل بين طياتها لونا من النقد او السخرية بصنعة لفظية وبلاغية…

(وانا اكتم ما في نفسي وافكر في موتي ورمسي واقول ما يقوله المثل بكل جد لا هزل(عرب وين..طنبورة وين)فانتظرت الصباح الرباح الى ان صاح ديك الصباح فخرجت الى المقهى لابث لصديقي الشكوى..) ص13..

فالكاتب يحاول ان يسمو باسلوب المقامة ويجعلها نبضا فاعلا والواقع الاجتماعي عبر لعبة سردية واعية تعتمد بناء لغويا وتكثيفا مراعيا لمقتضى الحال بتوظيف المحسنات البديعية والفنية وراو ضمني مضاف يشغل البناء السردي والجمالي عبر صيغة الاسناد التي يلجأ اليها..انه(الصادق الجليل) الذي يدل اسمه على مسماه لاثبات صدقه في نقله لاخبار مقاماته كونه الشاهد على احداثها مرة واخرى يكون عبدالله بن بهلول او برجا او حرفا….هذا يعني ان البنية الفنية للسرد تنحصر في:الراوي السارد والبطل والحدث وهناك راو ضمني خلف الاسناد..

اما طبيعة النسق الاستهلالي فيتمثل في الفعل الدال على الحاضر والذي يتضمن قصد المتكلم في نقل الخبر للسامع..

(ثم نظرت يسارا فاذا بارشاك وما ادراك ما ارشاك مصور الشخصيات من سادة وسيدات ويفضله الملوك والرؤساء ووجوه القوم والامراء ولمحت المصور ارمين مشغولا بالرتوش والتلوين لصور زهور حسين وعند جامع الحيدر خانة وجدت من يغني(ميحانه ميحانه غابت شمسنه الحلو ما جانه.. حيك بابه حيك الف رحمة اعله بيك هذولة العذبوني هذوله المرمروني) ثم بي صاح..اسمه ياصاح هنا كان مركز النضال والكفاح هنا قال محمد البصير وعبر بالقليل القصير عن الشيء الكثير..

ان ضاق ياوطني علي فضاكا

فلتتسع بي للامام خطــــــاكا

هب لي بربك ميتة تخــتارها

يا موطني او لست من ابناكا؟ /ص158 ـ 159

فالكاتب يحاول ان يسمو باسلوب المقامة ويجلها نبضا فاعلا منسجما والواقع الاجتماعي بحيزه الفضائي المتنوع مكانيا والذي يشكل خلفية صامتة لها.. كونه لا يعرف الحركة الا بحركة البطل فيتجاوز المالوف..اما الزمان فهو ستاتيكي لايسهم قي نمو الحدث الذي ينطوي على ثنائية قوامها الصراع بين عالمين واقعي بكل تناقضاته وذاتي بكل احساساته..فضلا عن اشاعة الحوار الموضوعي خاصة بين الراوي والبطل عبر مفردات موجزة بتركيبها اللفظي المسجوع والتي يغلفها بديع متواتر مع عناية بالمكان(خلفية المقامة) اسما وجغرافية وذاكرة تاريخية..اضافة الى انه لا يكتفي بالسرد الحكائي بل يضفى مفارقة كاشفة عن واقع مأزوم ..فضلا عن انه يحفل بالحكم والامثال والميكانيزمات البديعية والبيانية لمقصدية تتعلق بالسرد ودلالته..اما عنصر البنية الفنية فقد اتكأ على(البداية/الشخصية/الحدث/الحبكة/اللغة/..) فخلق عالما من المبالغات التي تغري بالنزوح من الواقع الى التخييلي..

وبذلك قدم المقامي نصوصا تهتم بالثروة اللفظية التي تشكل المبنى السردي..فضلا عن انها تدعو الى قراءة التراث قراءة جادة مع مراعاة الاعتبارات التاريخية والاجتماعية…