امتـازت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية بحدوث تطـورات سياسية وفكرية كان لها انعكاساتهـا الواضحة على مجمل الحياة السياسيـة والفكرية والاجتماعية لأقطـار الوطن العربي . فبعـد انتهاء الحرب العالمية الأولى أقدمت الدولة التركية التي تشكلت علـى أنقاض الدولة العثمانية على إلغاء الخلافـة الإسلامية واتخذت إجراءات بالغة الحدة لتصفية كـل أثر للإسلام كنظام للحيـاة . رافق ذلك تصاعد الهجمة الاستعمارية على العالـم الإسلامي لتجزئته والسيطرة عليه . فـي الوقت نفسه شجع الاستعمار الغربي على تكوين الدولة القطرية الحديثة ودعمها وتشجيـع التيارات القومية والعلمانيـة المتأثرة بالنموذج الأوروبي والتي تسعى إلى فصل الدين عن شؤون المجتمع وتغيير هويته الإسلاميـة .
ورداً على هـذه التحديات أخذ المفكرون الإسلاميـون ينادون بالعودة إلى التمسك بالإسلام ومبادئـه الأصيلة ومواجهة تطورات العصر بـروح أسلامية جديدة . فنشـأت تنظيمات وأحزاب إسلامية شكلت بمجملها تيـاراً إسلامياً جاء ليؤكد على شموليـة الإسلام وتفاعله مع احتياجات الفرد والمجتمع وفـي شؤون الحياة كافة . فالتيـار الإسلامي بهذا المعنى هو تيار تجديـدي يضم أولئك الذين ينطلقون من مبـادئ الإسلام وتعاليمه في أفكارهم وسلوكهم ومنهجهم فـي الحياة سواء أكانوا أفراداً أم جماعات مستهدفين أقـامة المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية وعودة الإسلام إلى قلب الصراع السياسي والاجتماعـي ، وكان هذا جوهر نشـاط التيار الإسلامي في العالـم الإسلامي عموماً وبضمنها منطقة الخليج العربـي .
لـذلك أصبحت التيارات الإسلامية الحديثـة من المواضيع المهمة والمثيرة علـى امتداد الساحة العربيـة والعالمية ومحط اهتمـام ودراسة وتحليل وجدل الكثير مـن المؤسسات والمراكز البحثية نظراً لما تشكله هـذه القوى من تهديد للأنظمـة السياسية القائمة وتأثير واسع فـي المجتمع ولاسيما أن القـوى الإسلامية قد تبدو فـي فترات كثيرة هي القوة الفـاعلة والمؤثرة على ارض الواقـع .
وتـأسيساً على ما تقدم .. تأتي الدراسـة / الكتاب التي نحن بصـدد مراجعتها لتعالج نشأة التيـار الإسلامي وتطوره في الخليج العـربي من خلال التنظيمات والأحزاب الإسلاميـة التي ظهرت وأثرت فـي ساحة الخليج العربي السياسية منـذ نهاية الحرب العالمية الثانيـة 1945 ، إلى حرب الخليـج الثانية 1991 ، وموقفها مـن تطورات الإحداث السياسية والاجتماعية على الساحة الخليجية الداخلية والخارجيـة .
تمـيزت مرحلة ما بعد الحرب العالميـة الثانية بحصول تغيرات سريعـة في المجتمع الخليجي فدخلت أفكـار ومفاهيم حديثة وانهارت معتقـدات وقيم تقليدية تزامن ذلك مـع ازدياد العائدات النفطيـة فـي المنطقة ، فشهدت الساحة الخليجية بـروز حركات وتنظيمات إسلامية مـارست نشاطها خلف واجهات اجتماعيـة ودينية اتخذت أول الأمـر طابعاً اجتماعياً يهتم بـإعمال النفع العام والنشاط الخيـري والتوجيه والإرشـاد الاجتماعي بأسلوب ديني منعزل عن السياسة . وربمـا يعود ذلك إلى القيود التي فرضتها السلطـات الحاكمة على التنظيمات الإسلاميـة ومنعها من ممارسة النشاط السياسي العلنـي .
ركـزت الدراسة على مدة زمنيـة محددة امتدت بين عامي 1945 و 1991 ، بوصف العام 1945 ، يمثل انتهـاء الحرب العالمية الثانية ودخـول منطقة الخليج العربي مرحلة تاريخية جديـدة تميزت بحـدوث تحولات وتغيرات في مختلـف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتأثير ذلك فـي الواقع الفكري للمنطقة ممـا ساعد على ظهور حركات وتنظيمـات إسلامية على مستوى المنطقة . فـي حين يمثل عام 1991 ، انـدلاع حرب الخليج الثانية على أثـر الاجتياح العراقـي للكويت فـي 2/ أب /1990 ، حيث شكلت هـذه الحرب وتداعياتها منعطفاً هـاماً في تاريخ التيار الإسلامي الخليجي وأعـادت تشكيل مواقف ذلك التيـار من مختلف القضايـا .
وقـد تفاوتت مواقف التنظيمات والأحزاب الإسلاميـة التي تمثل التيار الإسلامي الخليجـي من هذه الحـرب سواء في مواقفها من الاحتـلال العراقي للكويت أو من استقـدام القوات الأجنبية تحت غطـاء تحرير الكويت بيـن مؤيد ورافض لهـا .
استـعرض المؤلف بداية في دراسته نشأة التيـار الإسلامي الحديث من خلال ثـلاثة محاور رئيسيـة . تتبع المحـور الأول تطور حركة الإصلاح والتجـديد في الفكر الإسلامي الحـديث التي استهدفت أخـراج العالم الإسلامي من واقـع الضعف والانحطاط الذي أصابه منذ سقوط الخلافة العباسية على أيـدي المغول . وذلك مـن خلال التمسك بأصول الإسلام الرئيسة . إمـا المحور الثاني فقد ركز علـى دور رواد الإصلاح الإسلامي الحديـث في أصلاح وترميم وتجديـد الفكر الإسلامي لمواجهة واقع التخلف والانحطـاط الذي لحق بالمسلمين في فتـرات تاريخية مختلفة . فيمـا استعرض المحور الثالث نشـأة الحركات الإسلامية الحديثة التي كـان لها وجود فعلي على الساحـة الإسلامية عموماً وامتداداتها وتأثيرها فـي الساحة الخليجية بشكل خـاص . وتأتي أهميـة هذا الموضوع كمدخـل بوصفه الأساس والقـاعدة الفكرية والعقدية التي انطـلق منها التيار الإسلامي لممـارسة نشاطه في منطقة الخليـج العربـي .
ولكـون الحياة الفكرية تمثل نتـاج التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتمـاعية التي يمر بها المجتمـع بشكل مباشر أو غيـر مباشر ، ولأنـه لا يمكن دراسة فكر مـا وفي أي مجتمع ألا من خلال التعرف علـى طبيعة الأنظمة السياسية والأنظمـة الاقتصادية والقوى الاجتماعية لذلك المجتمع ، فقد تنـاول المؤلف تلك المتغيرات التي كـان لها تأثير واضح في بروز التيارات الفكريـة في الخليج العربي ومنها التيـار الإسلامي ، وليبرهـن على أن للتيار الإسلامي جذوراً عميقـة تمتد داخل مكونات المجتمع الخليجـي . تكونت عبـر تطورات الحياة الفكرية والاجتماعية التـي شهدتها منطقة الخليج العربـــي منذ مطلع القرن العشريـن .
وقـد وثق المؤلف نشأة الأحـزاب والتنظيمات الإسلامية (السنية والشيعية) المعاصرة فـي الخليج العربـي وأبرز أنشطتها الدعوية والاجتماعية والسياسية على الساحة الخليجية ومتابعة أهم المحطات التـاريخية التي شكلت مراحـل فاصلة في تاريخ التيار الإسلامي الخليجـي ابتدءاً من مرحلة مـا بعد الحرب العالمية الثانية مـروراً بهزيمة الأنظمة العربية فـي حرب حزيران 1967 ، مع إسـرائيل ثم قيام الثورة الإسلامية فـي إيران عـام 1979 ، وانتهاءً بحرب الخليج الثانية عــام 1991 .
وكشـف المؤلف المواقف التي اتخذها التيار الإسلامي في الخليج العربي ضمن نشاطات تنظيمـاته ورموزه ، من ابرز القضـايا التي واجهت المجتمع الخليجي والعـالم الإسلامي والتي عكست اهتمام التيـار الإسلامي بتطورات الإحداث الداخلية والخارجيـة وسعيه للمشاركة المباشرة وغير المبـاشرة في صياغة تلك المواقف بما يتلاءم مع الثوابـت العقدية والشرعية للإسـلام .
إن دراسـة من هذا النوع تعد ذات قيمـة كبيرة بالنسبة إلى دارسي الفكر الإسلامي الحديث ، فضـلاً عن أهميتها بالنسبة إلى دارسـي الوطن العربي الحديث والمعاصر بوجه عام والتاريخ الفكري والاجتماعي للخـليج العربي بوجه خـاص ، وتأتي أهميـة هذا الموضوع من ندرة الدراسات الأكاديمية ولاسيمـا التاريخية منها ، ثـم اقتصار اغـلب هذه الدراسات على حقل العلوم السياسية والاقتصـادية على نحو خـاص ، وتناولها جـوانب محددة من الموضوع ، لـذلك جاءت هذه الدراسة / الكتاب لتعالج الموضوع من وجهـة نظر تاريخية قدر الإمكـان .
* الكتـاب :
التيـار الإسلامي في الخليج العربي ، دراسة تاريخية 1945 ـ 1991 ، تأليف : هاشم عبد الـرزاق صالح الطائـي ، ط1 ، مؤسسة الانتشار العربـي ، بيـروت ، 2010 ، 334 ص .