ما من شك ، والذي لايختلف عليه أحد ، أن هناك أموراً استحدثت لم تكن موجودة من قبل جعلت الإنسان اليوم يختلف عن الإنسان في الأمس الذي خاطبه أنبياء الله من عشرات القرون . فإنسان القرن الأول غير إنسان القرن الواحد والعشرين بسبب الكثير من العوامل جعلته كذلك . ولكن مبدأ الشرائع السماوية وخاصة الشريعة الإسلامية لايتغير مع إنسان أي قرن ، لأن أحكام وقواعد الدين الإسلامي تلائم الإنسان في أية مرحلة بل هي صالحة لكل زمان وفي أي عصر . فلو تمسك هذا الإنسان بدينه سيجد أن دينه حضاري متجدد . ولو تبين أي خلل فليس ذلك سببه الدين وإنما يرجع إلى خلل في ذات الإنسان نفسه . هذا جانب ، جاب آخر – ليس من المعقول مثلاً – أن يبقى أي واحد منا بعيداً عن أحد مجريات الحياة الخطيرة ألا وهو التمذهب/المتطرف الديني بحجج واهية تعكس لاأباليتنا أو عدم اهتمامنا على أساس أنها أمور نستبعد حدوثها لأنها خارج حدود عقلنا الديني الإيماني الجمعي ، ونحن (ربما) نطفوا فوقها وقد تنفجر من تحتنا في أية لحظة وبعدها نصبح نحن والوطن في خبر كان لاسمح الله .
إن على رجال الدين والفكر والصحافة أن يدركوا أنهم لو وقفوا جميعاً ضد هذا التمذهب/التطرف فسيكون لهذه الوقفة أثرها في إنقاذنا وإنقاذ مستقبل الأجيال القادمة . فالتمذهب/التطرف يمكن أن يطول أفراداً هنا وهناك معدودين ، ولكن لايمكن لرصاصاته أو عبواته أن تطول الجميع خاصة عندما يقفون في وجهه وقفة جادة وجماعية .
من هذا المنطلق أتناول مسألة التمذهب/التطرف الديني في جانب منه ما يتعلق بالأمور المذهبية الاعتقادية الدينية/السياسية ، الذي بدأت تواجهنا اليوم ونحن في هذا الظرف القاهر والشائك والمعقد . والأمور المذهبية الدينية هذه تجعلنا ننظر للناس بشكل عام فرقاء متباينون بالنسبة لمذاهبهم ودينهم وحتى بالنسبة لمعتقدهم السياسي .
فكما هو معروف للبعيدين عن التزمت والتعصب من أن التطرف والغلو والمبالغة في تسفيه الرأي الآخر في أي مجتمع هي مظاهر عجز يلجأ لها المتطرفون والمغالون لتحاشي كشف هذا العجز لديهم ، العجز عن الإقناع ، والعجز عن الإتيان بالحجة القوية . فمن كانت حجته قوية ويستند على الحق وينطلق من الحقائق الراسخة لايحتاج إلى أساليب مرفوضة لإثبات عدالة قضيته . والجماعات المتطرفة والمغالية في التحدي لكل من يختلف معها في الرأي تسيء إلى قضاياها لأنها بمواقفها هذه تثبت أنها – أي قضاياها – ليست من القوة بحيث يمكن التسليم بصحتها أو الاقتناع بأهدافها ، وهي أينما وجدت في العالم لاتملك من القناعات ومنها القناعات الذاتية ربما ما يجعلها تلجأ إلى الحوار الهادئ الرزين وهو الأجدى في موجهة الرأي الآخر مهما بعدت شقة الخلاف ومهما تناقضت وجهات النظر .
ومع أن الحضارة استطاعت عبر سلسلة من التجارب الإنسانية أن تهذب الإنسان وأن تعرفه على أساليب أرقى للحوار ، لكن بعض المجتمعات لازالت تفرز بعض الطفيليات التي تتكاثر في الأجواء الموبؤة بهواء فاسد وغذاء مسموم . فإذا تنافست رؤوسها الشيطانية لم تجد أسلوباً أجدى من التطرف والغلو والتمذهب لإثبات وجودها في مجتمع متحضر يرفض كل ما يتنافى مع حرية الإنسان وكرامته ومعتقده الديني الصحيح .
وخطورة مثل هذا التمذهب/التطرف ، أنه يتحول إلى أداة تخريب عند سنوح أول فرصة . فكل الحركات التخريبية في التاريخ بدأت بالتمذهب/التطرف الذي يرفض الحوار مع الرأي الآخر وتكون النتيجة أن يدفع المجتمع ثمناً باهضاً لما ينجم عن أي حركات تخريبية مغالية ، مما يستوجب من السلطة في أي مجتمع اجتثاث هذه النتؤات المتطفلة التي تظهر على سطح المجتمع . وما دامت هذه الجماعات/التيارات قد اختارت جانب التمذهب المتطرف والتزمت ، فالحل الأمثل هو تقويم دورها والتعامل معها بنفس الأسلوب وبلا رحمة ، لأن تجاهلها سيتيح لها فرصة النمو وهو نمو يشبه السرطان في جسم المجتمع .
إن ظهور مثل هذه الظواهر الشاذة في أي مجتمع لايعني فقط فقدان الرقابة الصارمة ولكنه يعني أيضاً نجاح المخططات التي ترسمها الدوائر المشبوهة في الخارج لزرع نوازع الشر وزعزعة أيمان الشعوب بدينها ووطنيتها .
إن هذه الظواهر الشاذة مؤشر خطير على وجود خلل ما في البنية الاجتماعية نتجت عن ضعف الأيمان وفقدان الثقة بالنفس ، وهما عاملان استطاعت الدوائر المشبوهة زرعها في بعض المجتمعات النامية/المتخلفة بهدف تحطيم كيان هذه المجتمعات ليسهل فرض السيطرة عليها واستغلالها بشكل دائم . إنها خطيئة لاتعني سوى الدمار للمجتمع ، إنها قضية وطن يكون أو لايكون .
يشكل التيار الديني المتمذهب (المتطرف أحياناً) ، في أي بلد ، قلقاً مشتركاً لمختلف الحكومات التي تتعاقب على حكمه . وتتفرع عن هذا القلق سلسلة من الإجراءات التعسفية والقمعية يلمس المرء آثارها الجمة على مضامين الفكر الحركي الذي تبناه هذا التيار . ومن المهم بالنسبة إلى أي باحث أو راصد لفكر التيار الديني المتمذهب أن يضع جدلية العلاقة مع السلطة دائماً في بؤرة الاعتبار لفهم الجذور الاجتماعية واليومية للاجتهادات الانفعالية التي بلورتها حالة الاستضعاف والاضطهاد التي عاشها التيار الديني المتمذهب وبخاصة في مراحل التكوين .
لقد مثل التيار الديني المتمذهب واحداً من أهم ظواهر الحياة السياسية في عالمنا اليوم ، وأدى هذا التيار دوراً مؤثراً في واقع هذه الحياة مستخدماً أساليب الممارسة السياسية كافة بما فيها العنف السياسي بصوره وأشكاله المتعددة ، غير أن السمة الغالبة على نشاط هذا التيار هو لجؤه إلى استخدام العنف (أحياناً) ، الأمر الذي يثير التساؤل حول العوامل التي دفعته إلى تفضيل استخدام العنف كأداة من أدوات الممارسة السياسية .
إن تنامي جماعات التيار الديني المتمذهب إنما يدل على أهداف سياسية أكثر منها دينية حقيقية ، فإن مواجهة الدولة المركزية لها لم تكن انطلاقاً من أرضية سياسية بل من أرضية دينية ، أي أن الدولة اختارت تجاهل المضمون السياسي الخفي لتلك التيارات والجماعات وقررت أن تتعامل معها بمنطقها ووفقاً لقواعد لعبتها ، أي المنطق الديني ، وكان في ذلك تدعيم سياسي لهذه الجماعات . ذلك أن الدولة بعلماء الدين الذين دخلوا في حوار مع فكر هذه الجماعات ، تتخذ في صفة أذهان أعضائها صفة رسمية ، ويتخذ أصحاب الفكر المتمذهب صفته الشعبية . وتتخذ الدولة صفة القوة والبطش والقمع ، وتتخذ هذه التيارات صفة المظلوم والمغلوب على أمره ، وبالتالي كان لابد من أن يتوحد أعضاء هذا التيار مع الشعبي والأضعف وليس مع الرسمي والأقوى بخاصة أن كل حوار دار أنما تم على أرض الدولة الرسمية .
لقد عجزت أغلب السلطات التي ظهرت في بلدانها هذه التيارات عن إنجاز التنمية المطلوبة أو صيانة الاستقلال الوطني أو تحقيق العدل الاجتماعي أو تعميق الأصالة الحضارية ، ولهذا السبب لم تتمكن من تعزيز مصادر شرعيتها ، وبفقدان الشرعية المتينة لهذه السلطات وفي غياب الإنجاز التنموي وتبلور كل سمات التبعية المتطرفة والتفاوت الطبقي الصارخ بين فئات المجتمع وتمكن كل صور المسخ الحضاري ، وانتشار وشيوع لافتات الاستفزاز اليومي للجماهير المسلمة … لهذه الأسباب مجتمعة وضاغطة بدأت إرهاصات الفكر الحركي الإسلامي تأخذ مساراتها وتتشكل أطرها وفقاً للظروف الزمانية والمكانية .
لقد تعددت الدراسات التي تناولت هذا الموضوع في الأدبيات السياسية ، بعضها يركز على الجوانب السياسية والآخر على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ، والثالث على الجانب الفكري ، وبعض هذه الدراسات يأخذ بالاتجاه التكاملي في دراسة هذه الظاهرة ، بمعنى أنه يأخذ في الاعتبار الجوانب المشار إليها كافة ، ولكن ليس بوصفها عوامل أو عناصر منفصلاً بعضها عن البعض الآخر وإنما بوصفها عناصر متفاعلة في ما بينها ، الأمر الذي أدى إلى خلق ظاهرة الإسلام السياسي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم .
• خلفية النشأة .. أصولية التأسيس :
بداية نود أن نؤكد بأننا نعلم يقيناً بأننا إزاء موضوع غني في مادته ، وعر في تعدد دروبه ، وتشعب فروعه ، وذلك بما أنه من المركبات الكثيفة والخصوصية للهوية السياسية والثقافية ذات الطبيعة التصاعدية في البنية التكوينية الأيديولوجية لمجتمعاتنا بما يوجب الاحتراز وعدم الوقوع في أي ابتسار غالباً ما تجر إليه المعالجة الصحافية . ولهذا السبب بالذات نبغي البقاء عند حد تسجيل بعض الإشارات في الشأن الذي نحن فيه ، أي في ما يخص التوظيف الأيديولوجي للدين والدخول به في صلب المعركة المطلبية ، اجتماعية كانت أو سياسية ، وهو المآل الذي ينتهي عنده التيار الديني المتمذهب/المتطرف اليوم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، وذلك رغم الشعارات الدينية الصرف التي يحاول التستر بها وادعاء الإخلاص لها .
يعتبر التجذر الذي عرفته العقيدة الإسلامية وتداخلها في المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلى صعيد التكوين السيكولوجي للأفراد ، من بين الأسباب الكبرى التي يمكن أن تعيق حدوث أي جنوح ذي طابع تطرفي عن هذه العقيدة نفسها . فأنه من المفيد التنبيه إلى الدور الأكبر والناجح الذي مارسته العقيدة ، وقد صبت في قوالب التوظيف الأيديولوجي المباشر في شحذ أسلحة مواجهة الآخر المختلف (الغربي) والتصدي لمختلف أشكال هيمنته . ومن بينها وأخطرها محاولة طمس الهوية الوطنية والقومية في جوهرها الإسلامي والعربي.
إن حركة الإصلاح التي ارتبطت برموز التنوير عندنا ، ذات منشأ ديني صرف وسعت إلى أن يتسق خطها المذهبي مع سلفية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده .
بالنسبة للجيل الأول من التنويريين ، وجد نفسه يتبلور في اتجاه حركة إحيائية للأصول ولمذهب السلف الصالح .
ودون أن نخوض في التفاصيل أو نرسم خط تسلسل تاريخي ومفهومي دقيقين ، فمن الممكن القول بأن الحركة في مرحلتها تينك بل وأيضاً في مرحلة ثالثة لاحقة بها ومطورة ، تجد التجلي الأكبر لها عند رموزها الدينية التنويرية سواء من المرجعية السنية أو المرجعية الشيعية .
إن هذه الحركة اشتملت على مبدأ استحثاث النفوس لاسترجاع وصيانة الهوية الوطنية ذات الطبيعة الدينية والثقافية ، بصقل صدأ النفوس ذاتها وحفاظها على الملة ومحاربتها للدجل والشعوذة الدينية التي كانت قد بدأت تحاول نخر الجسد العربي والإسلامي ، وإنه ليعنينا الوقوف عند هذا الجانب أكثر من أي شيء آخر . فلقد وضعت حركة الإصلاح الديني على رأس مهامها العاجلة تسفيه الدجل الديني المتمثل في ظواهر الطرقية والصوفية الملتبسة التي كانت تثبت مفاهيم تواكلية ورجعية للإسلام ، وتجد تشجيعاً من الآخر/المختلف (الغربي الاستعماري) الذي ألف فيها أحدى الأدوات الناصعة لتسهيل نفوذه وتقوية هيمنته .
وإذا فهمنا أن الصراع في العمق كان يتم بين مرجعيات دينية متضاربة كل طرف فيها يقدم على طريقته تأويلاً خاصاً للعقيدة ، ولكن إذا تبنينا أيضاً بأن أحد التأويلات كان يسعى وقد تدخلت قوى عديدة في صناعة هيكله وصياغة خطابه إلى الخروج عن الجوهر الصحيح لهذه العقيدة والزج بها في غياهب التخدير الاجتماعي والإلهاء عن مواجهة واقع جديد بدأ ينحت ملامحه أمامها والانصراف عن المسلكية الواضحة والبسيطة للإسلام كما مورست وطبقت في مجتمعاتنا .
أجل ، إذ تبنينا هذا ، وهو غير كاف على كل حال ، أمكننا أن ندرك إلى أي حد كان العائق كبيراً أمام منهج التطرف الديني ليشق طريقه بين مجموعة بشرية متساكنة يخلو تاريخها من التطرف والتأويل الغامض للدين ، وإن لم تخل كلية من بعض الشوائب التي تعرفها كل المجتمعات في ممارستها الطبيعية لهذا الدين .
ويقيناً أن الباحث لموضوع كهذا سيجد أن التحدي الكبير الذي تقدمه حركة الإصلاح الديني في أي قطر عربي هي التي تبلور الوجه المشرق السليم والتاريخي للإسلام فيه ، يبرز بفعالية في كونها شكلت الرافد الأول لحركة الإصلاح السياسي ذاتها ، فسواء مع حركة المطلبية الاستقلالية والدستورية الأولى أو مع بداية الاحتدام مع المستعمر الأجنبي فأن عناصر عديدة من المرجعيات المذهبية كانت إليها ، وبالاستناد إلى مفاهيمها واستلهام روحها .
إن الاستلهام المتواصل جاء ليؤكد حيوية الجدلية الاجتماعية/الدينية ويدفع بالعقيدة في غمار الصراع الجديد للمجتمع ضد من يريدون اغتصاب سيادته وطمس هويته والإجهاز على إسلامه ، كما أن الخطاب السياسي للحركة الوطنية وممارساتها المختلفة المبطن بمحتوى ديني ، أثبت في نجاحه ونفوذه إلى النفوس إلى أي حد يوجد في مجتمعنا التواشج بين الآصرة العقيدة والموقف الاجتماعي/السياسي ، وإن هذه التواشج سلاح شحذ عبر قرون ، ولذلك لم يكن من السهل بل ولا من الممكن فَلهُّ ، أولَمْ نتبين كيف أن كل محاولات التبشير التي قام بها الاستعمار الأجنبي وخاصة بين العشائر والقبائل قد باءت بالفشل الذريع ، وإلى أي حد كان المنظور الديني عند المستعمِر والمستعمَر غالباً ، وإلاّ فهل كان صدفه أن يطلق أو تنعت أغلب مجتمعاتنا العربية عامة على الاستعمار الأجنبي كلمة (نصراني) ، كما لم يكن صدفة أيضاً أن يعوض هذا المستعمر التبشير بالتسلل الثقافي واللغوي والتمديني .
مرة أخرى لم يكن ثمة مجال إزاء هذا التواشج الجدلي والاستلهام المستمر والتفاعل القائم لأي تورم ديني أن يظهر من الجسد المتماسك ، وإننا إذن أمام حجة جديدة يتيسر الاقتناع بأننا أمام ظاهرة طارئة لاجذور لها في الماضي بقدر ما أن ركائزها في الحاضر هشة ومخلخلة .
إن للباحث بعد هذا وفي سياق رصد المؤشرات للشأن الذي نحن فيه ، أن يلاحظ بأن المحتوى المعرفي للخطاب الثقافي والتربوي والتعليمي الذي ساد لدى الحركات الوطنية العراقية والعربية وفي الحقبة الأولى لتأسيس كيانات أقطارنا العربية وما بعدها بقليل – هنا نلفت النظر إلى ضرورة صرف الانتباه عن نوعية هذا المحتوى ومعرفة حدود طبيعته المتقدمة أو الانتكاسة ، فأن ذلك سيشكل من أحد الجوانب وفي وقت لاحق العلاقة والتأويل الذي سيعطي للتراث ولمفهوم الأصالة – أن هذا الخطاب لم يحد أبداً عن تعاليم الإسلام وإن كل الميكانيزمات الاجتماعية والسياسية وغيرها كانت مرتبطة به وخاضعة له بشكل أو بآخر مما يجعلنا نقول بأنه وبخصوص المسألتين الاجتماعية والثقافية لم يكن ثمة مجال للصراع حول العقيدة ، أي حول ما هو جوهر وجود في بنيتهما وخطابهما ، وأن بإمكاننا الزعم بأن لا أحد يستطيع اليوم أن يدفع هذا الوجود إلى حلبة الصراع بالرغم من كل الأدبيات الليبرالية المنتعشة عندنا حالياً ، وكل ما يمكن أن يحدث يتصل بنطاق الاقتراب أو الابتعاد بالتزام الصلابة أو التماس اليسر والمرونة في اعتناق العقيدة وأداء فروضها ووجوه تطبيق الشريعة وأحكامها ، وأن لأي مسلم أو غيره أن يلاحظ بأن هذا التطبيق سواء في العراق أو بقية الأقطار العربية لم يصل أطلاقاً حد التطرف ولا الممارسات الهجينة والبشعة التي تغطي بها بعض الأنظمة الإسلامية اليوم بطشها وعاهاتها الدكتاتورية في محاولة يائسة لاخفات غضب شعوبها وخنق مطالب العدالة الاجتماعية .
إن ذلك الانسجام في محتوى الخطاب وسيادته أياً كانت طبيعته وعناصره وتلك المرونة والعفوية سواء في اعتناق العقيدة أو تطبيق الشريعة ليقدمان لنا مظهراً جديداً للمناعة التي توفرت للمجتمع دون مخاطر اختلال التوازن الديني .
إنه من الضروري هنا طبعاً الانتباه إلى مسألة التوازن هذه ، لأنها ستكون من بين الأسباب التي ستقود نحو بروز التيار الديني المتمذهب المتطرف وإن من جانبها السلبي الذي تمثل في العمل على ضرب التوازن نفسه بمحاولة احتكار الخطاب الديني . والحقيقة أننا إزاء قضية لن يكون من السهل الكشف هنا عن مختلف ميكانيزماتها وإن كان من الضروري تفحصها وذلك بالقدر الذي يجعلنا نتعرف قليلاً على:-
1- الطرف أو الأطراف الماسكة لزمام السلطة/المرجعيات الدينية (المذهبية).
2- الدور الذي تنيطه بهذه السلطة معرفياً.
3- التوظيف الأيديولوجي الذي سخرته وتسخره لها ، وحدود هذا التوظيف.
لاينبغي أن يغرب على نباهة القارئ أن هذا التحديد الثلاثي هو مجرد توزيع إجرائي لمحاولة حصر أطراف القضية واستبصار نقاط الالتقاء والافتراق، وإلاّ فأن وضعها أفقياً وعمودياً منبنٍ على طبيعة التداخل والتفاعل بما يجعل من العسير جداً فرز كل طرف على حدة والذهاب لاستكناه ما هو أبعد من السمة الذرائعية التي تهيمن عليها جميعاً .
وبالنسبة إلينا ونحن في عجلة من أمرنا ، يمكن أن ندفع ببعض الفهم السريع والتشميلي ملتفتين إلى أن ثمة ثلاثة أطراف هي من يمسك زمام السلطة/المرجعية الدينية :-
1- الدولة المركزية :- أ- كسلطة في خدمة فكرة.
ب- كأيديولوجية.
جـ- كمؤسسات.
2- المؤسسة الثقافية بخطابها المعرفي والتلقيني التي وإن بدا للوهلة الأولى أنها خاضعة لمؤسسة سابقة عليها أو هي جزء من تكوينها إلاّ أنها حاولت دائماً أن تستقل إما بقراءة خاصة أو ببعض شعائريتها .
3- عامة الناس الذين إليهم يأخذ التوظيف الأيديولوجي للعقيدة طريقه . وهو مناط بممارسة السلطة/المرجعية الدينية ، ولكن الذين يشكلون في الآن عينه محك هذه الممارسة والبنية التحتية الضرورية لكل سلطة سياسية ومعرفية المتربعة على سدة البنية الفوقية.
الأطراف الثلاثة يمكن أن تلتقي في طرف واحد هو رأس السلطة سابقاً ومجموعة رؤوس سلطوية محلية (وطنية) وأجنبية راهناً ، الذي يمارس/تمارس دور الهيمنة انطلاقاً من مركزه/مركزها على الأطراف كلها ، لأنه/لأنها يتمتع/تتمتع بالشرعية الدينية والدنيوية التي تؤهله/تؤهلها لهذا الدور وبالتالي بمسؤولية وواجب الحافظ على التوازن وإصدار الكلمة الفصل سواء في قراءة أو فهم أو تأويل أو تطبيق الشريعة الإسلامية التي ينبغي أن تؤخذ هنا بوصفها ديناً ودنيا ، وهذا ما يكشف بل ويؤكد على البعد الاجتماعي – السياسي لمفهوم التوازن الديني الذي نحن بصدده ، ويدفع بالطبع إلى الاقتناع وخارج حدود الاجتهاد المعلومة أو التي يمكن أن تكون مضمرة ولكن متفقاً عليها بأنه لايوجد مجال عدا العصيان أو المروق بمعناه الديني للخروج عن إجماع الأمة في فهم العقيدة ، واعتناقها وممارستها ، الإجماع الذي تتكفل السلطة المركزية بالسهر على سيادته وضبطه بسبب امتلاكها للهيمنة والشرعية اللتين تؤهلانها للإدانة والتصدي.
إن مفهومي الهيمنة والتوازن كانا يطويان تحتهما مواقع أو بؤراً عديدة إما للتعايش أو الصراع للانسجام وللتعدد والتضارب في المنهج والاختيار ، إذ لاينبغي أن يغرب عن البال مرة أخرى ، أن المسالة الاجتماعية كانت دائماً في قلب ما هو منسجم أو متناظر ، كما هي من المنظور الديني ، وكامنة في علاقة واحدة من السلطة المذكورة ، إما بكيانيتها أو ببعضها البعض . وبالطبع ، فأن ظروفاً تاريخية معلومة إما غيبت العلاقة أو موهتها أو جعلتها تندرج في نهاية جدول الأعمال التاريخي وخاصة أمام الجيل الذي استلم مهمة المواجهة والصدام مع السلطة المركزية ووجد نفسه يقيم تحالفاً سياسياً ظرفياً على أرضية أيديولوجيات راكدة وأخرى متململة.
والحقيقة أنه منذ عقد السبعينات شرع البعد الاجتماعي لهذا التحالف في التراجع ومعه راح الانسجام الأيديولوجي يعلن تنافره ، وهذه المرة جهاراً وعبر تشكيل مؤسسي من شأنه أن يجسد المغايرة في الرؤية وتنضيد مفاهيمي ومطلبي هو ما أعلن بعض الاختبارات الجديدة التي كانت تتقدم على استحياء ، وقد خرجت من صلب ما هو ثابت ، وتحترز احترازاً شديداً في أن تفجر صيغة التوازن ، وإن أحست أنها لامحالة ذاهبة فيه.
فخلال السنوات الأولى من عقد السبعينات من القرن الماضي كان من الصعب التحدث عن صراع أيديولوجي ، ذلك أن هذا الصراع في تقديرنا لن يأخذ مسيرته الطبيعية إلاّ لاحقاً وسيكون الصراع الديني من بين محاوره الكبرى وفي صلب هذا الصراع ، وتدريجياً انفلتت من هيمنة السلطة المركزية التي اعتبرت نفسها دائماً هي المؤهلة لصياغة الخطاب الديني وتوجيهه في مساربه الطبيعية ، ثم أخيراً تعلن المواجهة ليس مع هذه السلطة نفسها فحسب بل وضد جوارها على غرار ما فعلت التركيبات السياسية والثقافية والذهنية التي كانت ركناً ركيناً من صرح الانسجام ثم ما لبثت بدءاً من عقد الستينات وعلى امتداد السبعينات من القرن العشرين أن أحدثت الشرخ في الصرح ليبدأ عهد نهاية التعايش الأيديولوجي، وهنا تبدأ مرحلة جديدة أو قل التأسيس الفعلي للتيار الديني المتمذهب المتطرف في عدد من الأقطار العربية ولاسيما مع بداية عقد الثمانينات عند اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية.
• التناقض الطبقي/الأيديولوجي
والقراءة الاستنباطية – الإرتكازية
إننا في هذا المبحث والسابق له تجنبنا القيام بتحديدات تاريخية صارمة تضع عند بداياتها أو نهاياتها إشعاع أو أفول حركة أيديولوجية أو تيار عقائدي معين بقدر ما كنا نميل إلى تتبع ملابسة الحركة أو التيار لفترة أو حقبة زمنية تكون مطبوعة بسمات اجتماعية وثقافية تميزها ، ولأننا نزعم أن الأمر بالنسبة للمسألة الدينية في أي قطر عربي من الصعب بل من غير المناسب أن يخضع للترتيبة الزمنية الحدية فضلاً عن أن هذه المسألة تمتلك زمنها الثقافي والعقائدي الخاص وهو ما ينبغي تمعنه وليس مجرد افتراضه ، هناك هذا التداخل الذي تثيره باندراجها وتفاوتها في عدد من اللحظات ، إن الزمنية أو الأيديولوجية أو الاجتماعية ، أما المتضاربة أو الخاضعة ، وهماً أو فرضاً ، لتعاقب تاريخي محدد.
وبعبارة أخرى ، فأن الباحث في هذا الموضوع مطالب إن هو أراد أن يخرج ببعض الاستخلاصات الصحيحة ويضع يده عن كثب على جملة المحددات النظرية أو النظام النظري من ناحية ، لحركة التيار الديني المتمذهب ولمضمون هذا النظام ، من ناحية ثانية ، وثالثاً لمقدرته ونواياه للقيام بحركة نقله على الصعيد الاجتماعي بما يكرس توظيفاً أيديولوجياً معيناً ويقود في ذات الوقت إلى تحقيق أهداف ومصالح أيديولوجية بعينها.
إن هذا الباحث ولاشك مطالب ومدعو باستخدام ضربين من القراءة الواحدة منهما لاتعفي من الثانية ، أفقية ، متوالية ، وعمودية ، تداخلية واستبطانية . ومالنا لانطالب بثالثة تجمع أفضل ما في السابقتين معاً فتكون تركيبية.
الوصف والاستبطان ، التوالية والارتكازية ، لابد أن يستقطبهما محور ويشدهما موضوع ليس هو موضوع معرفة على كل حال وإن كانت هذه جذراً في البناء النظري لهذه المسألة ، ولكنه ذلك الجذر المعلوم المندمج في بنية الثبات ، المحقق لذاته في التطابق ، فيما الذي نخوض فيه نحن هو مسعى الانفصال ولو الشكلي أو الجنوح عن القاعدة المستقرة ، والسلطة المهيمنة بها ، والتي تنتجها فيكون خلخلة الإجماع ضرباً من الانفصال ، إنما لن يكون شمولياً هيكلياً مادام جزءاً من أجزاء عدة في التشكيلة الاجتماعية – الأيديولوجية أو مادام أيضاً وفي الارتباط بلحظة تاريخية محددة لايستمد مضمونه وينال مسوغة إلاّ من خطاب العقيدة وحدها وهو ليس كافٍ في تقديرنا بل وفي التقدير العلمي لدراسة الظاهرة الدينية ليكون المصدر والموجه الوحيد.
من هنا كان التفاتنا المبكر إلى التحكم الفاعل للمسألة الاجتماعية وجعلها تحل محل موضوع في الموضوع وأن تتبادل معه جدلية التجاذب والتنافر ، وهذا دون أن نغفل ما يشكله للموروث الأساس في بنية الثبات للمسألة الدينية من أهمية. وقد آثرنا أن لانطيل ولانتعرض لها بأي تفصيل بما أنها جزء من الثقافة والقناعات والتقاليدية التي كونت الذهنيات وأشبعت النفوس ، ذاك الالتفات قاد خطواتنا في هذا المبحث إلى أن وصل بنا إلى تقدير:-
1- اختلال إن لن نقل اختفاء التوازن في ماسميناه بـ (إجماع الأمة) . وكلمة إجماع بالمناسبة ذات الدلالة الفقهية يمكن أن تحمل أيضاً على محمل الدلالة الاجتماعية/السياسية .
2- وبالتبعية ، انفجار التعايش الأيديولوجي في أغلب مجتمعاتنا العربية الذي نعتبر أن نهايات الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي كان إيذاناً بتجليه الحقيقي ، وهكذا فنحن لانولي أهمية قصوى لبعض الأحداث الكبرى في منهج قراءتنا الراهنة ، مثل إعلان الجمهورية العراقية في 14/تموز/1958 ، وتأسيس الأحزاب الدينية على سبيل المثال لا الحصر . إن هذين الحدثين الخطيرين من غير شك لم يكونا ليغيرا المجرى الخاص للزمنية الثقافية للمسألة الدينية .
لنقل إذن ، إن بداية السبعينات كانت قد شهدت ضغط التناقض الطبيعي ونحن لانميل إلى استخدام كلمة صراع في هذه المرحلة بل وفي غيرها بالنسبة للسياق العراقي (نموذجاً) وهو ضغط نتج عن بداية ملامسة مظاهر تدهور الوضع الاقتصادي المعيشي والاجتماعي لغالبية السكان وارتفاعهم درجات على سلم الحرمان والاستغلال في المستويات الاجتماعية الاقتصادية السياسية ، وهذا المستوى الأخير كان ولاشك بارزاً في تغييب الإرادة الشعبية وعدم توفر الامكانات الحقيقية والمطلوبة للممارسة الديمقراطية رغم الوجود الشكلي لبعض ما سُمي بالمؤسسات الديمقراطية .
إن بداية السبعينات هي مجرد نقطة اختيار من جانبنا وإلاّ فإن الستينات بأجمعها لم تكن قد شهدت لحظة تنوير ديمقراطية واحدة وإمكانية عدالة اجتماعية تتجاوب مع مطالب الفئات الواسعة من الطبقة الوسطى ومن الفلاحين الفقراء والتجمعات العمالية التي كانت آخذة في التكاثر وأنجبها فجر جمهورية لم تستضيء بنوره سوى بورجوازية وطنية هجينة في تركيبها ، وفشلت في أن تطابق بين خطابها التحريري عهد الاستعمار والملكية وبين ممارستها ومصالحها الطبقية غداة أعلان الجمهورية وما بعدها … وإذا لم تكن مهمة هذا المبحث القيام بأي تاريخ أو زعم الملاحقة الكاملة للأحداث الكبرى التي عرفتها سنوات الستينات والتي قادت إلى بداية لانفجار التناقض الطبقي كمظهر لانفجار التعايش الأيديولوجي ، فإننا لانستطيع المرور بصمت على أحداث العراق بعد 14/تموز/1958 ، ذلك أن هذه الإحداث بطابع العنف والصراع الأيديولوجي الكاسح الذي سادها يمكن أن ينظر إليها فوق تعبيرها الشعبي التذمري تلقائياً كان أو غير تلقائي ، بمثابة الذروة التي مثلت انهيار الإجماع المشار إليه وبداية القطيعة والرفض الجهيرين مع مرحلة سياسية كاملة باختياراتها الاجتماعية والاقتصادية ، وأيضاً بمسلكيتها السياسية ورؤيتها الأيديولوجية التي كانت تدخل مرحلة التشظي.
الديني/السلطوي
الفعل ورد الفعل
كان للسلطة المركزية في أغلب أقطار وطننا العربي بداية عقد السبعينات وصعوداً … خطابها الديني والأيديولوجي الرسمي والذي كان يراد له أن يعلن جاهزيته للرد والتصدي للتيار الديني المتمذهب . وهنا مرة أخرى نلاحظ التمازج والتداخل بين البنية السياسية والبنية الأيديولوجية مما يجعلنا نذهب إلى القول بلا تلكؤ أو تردد أن المجموعات الدينية المتمذهبة راحت بوازع معلن أو خفي ، مباشر أو غير مباشر ، تمارس حضورها في الساحة الاجتماعية وتفرز بعض تلاوينها الثقافية مندمجة في سياق البنيتين المذكورتين ، وهو الاندماج الذي كان ذا طبيعة براغماتية صرف بالنسبة لطرفيه ، فمن جهة كانت السلطة المركزية مؤهلة للاستفادة من تحرك الجحفل الديني المتمذهب الذي بدا وهو يمثل درعاً واقياً لا بل متراساً يوقف زحف أيديولوجية اليسار وسلاحاً لخوض الصراع الأيديولوجي الذي لم يبق مظهر شك في أنه بدأ وسيتواصل بحمية مستعرة.
لقد بات من الضروري بالنسبة لهذه السلطة أن ينبثق لا من بنائها الفوقي ، أي مؤسساتها ، ما يدافع عنها ، ويصون مكتسباتها السياسية . لقد كان هذا من تحصيل الحاصل ، ولكن أيضاً أن ينبثق من قلب الشرائح الاجتماعية التي تعيش غليان البحث عن أفق بديل ما يرشح الاختيار الديني ، العقائدي والذاهب في المسار الأيديولوجي المكيف ليصادر باقي الاختيارات أو يأتي في الأقل على رأسها ، فيوقف الصدى الواسع لأيديولوجية اليسار التي تجد في واقع الاضطهاد والحرمان ، غياب الديمقراطية ، والاختلال الكبير للعدالة الاجتماعية ، ما يمنحها شرعية ومشروعية الوجود والتوسع لتتحول إلى هيمنة تاريخية نقيض للهيمنة الموروثة.
وعليه ، فقد أطلق زمام الحركة الدينية المتمذهبة وتيسر لها أن تنشط وتباشر ممارساتها المختلفة تحت ستر الظلام ، ولكن في واجهة النهار أيضاً . وبدلاً من أن تبقى (المساجد لله) والحسينيات (للقراءات العاشورية) راحت تتحول إلى مراكز هي وغيرها من البيوت والزوايا والتكايا والسراديب لتجمع من سيختلف أفراد المجتمع الواحد في تسميتهم وإن كانوا قد أطلقوا عليهم إجمالاً اسم جماعة (كذا) وجماعة (كذا) …
أما المظهر البراغماتي الثاني وللطرف الثاني كذلك ، فهو الذي تجلى في استفادة رواد التيار الديني المتمذهب من الغطاء الذي يمنحه لهم التنصيب من بين قوى أخرى للدفاع عن (الملة والدين) ومواجهة الزيغ والانحراف والإلحاد والزندقة … إنها تهم خطيرة ولاشك وتتطلب الحد وإن لم تكن السلطة المركزية قد اعتمدتها أو استندت إليها في مواجهة أيديولوجية اليسار والقومية لأن الطبيعة المركبة بهذه السلطة المكونة من أمشاج مختلفة والتي من ضمنها الحرص على الظهور بالسمت الليبرالي ، إن على مستوى التشريع الوصفي أو في الممارسات المادية ، جعلها لا تلقي بالاً لجوهر هذه التهم وإن كانت مفيدة كسيف مصلت في كل حين.
والمهم أن التيار المتمذهب أحد حراس الملة الجدد ، كان يستفيد من هذه الوظيفة مرتين :- مرة وهو يستغل فرصة ذهبية تتيح له الظهور بالشرعية الكاملة وباسم الدفاع عن أقدس مقدسات الأمة ، ومرة ثانية ، وهو يشرع بكيفيات مختلفة وبملابسات متعددة في التميز والاستقلال بتكوين خطابه الأيديولوجي الخاص.
إننا لانستطيع حالياً الإبراز أو الجزم بنوعية الميكانيزمات التي تبلورت وتفاعلت وأنجبت الموقفين المذكورين وبالتالي التي قادت بالتدرج نحو فعالية استقلال الخطاب والتوسع الذي راح ينتشر به . ولربما كان الباحث هنا في حاجة إلى التوفر على جملة حقائق ومعطيات مادية لايمكن أن يقدمها له إلاّ تاريخ مقبل، إلاّ أنه ومع ذلك فإن ما يهمنا تقريره نحن يمكن أن يكتفي بقراءة الغلاف الخارجي لتلك المعطيات . ولدينا ما يعزز منحانا أو مجلى هذه الميكانيزمات نفسها ، الذي نجده في نوعية ومراحل تكوين التجربة الدينية المتمذهبة بخاصة عندنا في العراق.
التبشير والمواجهة
حين يكون تعدد الرؤى والاختيارات في سياق أيديولوجيات الليبرالية والقومية واليسار قد ضربت شوطاً هاماً وبعيداً ، وفي الوقت الذي تهيأ لهذه الأيديولوجيات الذيوع الذي تحتاج إليه في أوساط المتعلمين ، وهي التي باتت تتوفر تاريخياً على سند كبير لها في القطاعات الوسطى من المجتمع ، في هذا الوقت يكون التيار الديني المتمذهب وقد بدأت ركائزه ثابتة على أرضية الشرعية ثم وهو يلاحظ عجز إن لم نقل تداعي الأيديولوجيات القائمة والفرق التابعة والموالية لها إزاء ارتفاع أسهمها وتضخم خطابها ، حينئذ فإن التيار المعني يشرع عملياً في التمهيد لتحقيق نقلة نوعية لصفوفه وتمذهبه تجعل منه لامجرد تابع أو بوقاً لدعاوى أو قضايا ليس هو المتحكم في إنتاجها وجني ثمارها ، ولكن فاعلية خاصة ، صوتاً أيديولوجياً متميزاً ، وممارسة تدينية ، بل واجتماعية أيضاً تسمح له بأن يختص بموقع مناسب بين جميع القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى.
كما وإننا لانستطيع تتبع هذا التولد تتبعاً دقيقاً بإخضاعه لمراحل زمنية محسومة ، ذلك أنه لم يكن في انتشاره المتمذهب ولا في الطفرة التي حققها خاضعاً لتسلسل طبيعي أو آلي ، كما أن القطع بمراحل محددة لا يفيد إلاّ من الناحية التاريخية الخالصة فيما يبقى ما هو أهم من ذلك ، أي التراكم الداخلي للخطاب المتدين متوافراً على تاريخيته الخاصة التي تتشابك ، تتقدم وتتأخر ، تزحف وتتراجع بحسب الظروف والملابسات السياسية والاجتماعية للبنية التي نهض فيها . لكن هذا لايمنعنا من القول ولو إجرائياً ومن باب تقريب الأمور إلى الأذهان ، أنه ومنذ منتصف السبعينات جعلت التيار الديني المتمذهب يعرف أوسع انتشار له ، وأبرز عناصر الظهور . فمن جهة ستعرف المرحلة المذكورة بداية تنفيذ اغتيالات بشعة لبعض رموز هذا التيار ، ومن جهة أخرى ما يمكن تسميته بدخول التيار الديني مرحلة التشريع لنزعته العقائدية وفلسفته للحياة والمجتمع ، أي مرحلة الصراع الأيديولوجي العلني بالجهر بخطاب علني ومضاد لما هو سائد، إما عن طريق منشورات أو ملصقات أو بأصدار صحف صغيرة الحجم أو بتبادل وتسريب أشرطة مسجلة …
دعم الخارج وبؤس الداخل
إن سياق نشر الأيديولوجية المتمذهبة بالأدوات والذيوع الذي توفر لها لابد أن يحفز للتساؤل عن الامكانات التي توفرت لأصحابها ، ونحن لانثير هذا التساؤل إلاّ لكي نثير معه الدور الذي يمكن لبعض الجهات الخارجية أن تكون قد لعبته في هذا الصدد بطريقة أو بأخرى ، وبوسائل وطرق متعددة لايعنينا منها إلاّ مساهماتها المباشرة وغير المباشرة في دعم الوجود المادي والمذهبي لهذا التيار ورص صفوفه وتحميسه لاستلام مهمته بين مهام القوى الأخرى ، وقد رأى أغلبنا في العراق وفي فترة الاحتدام والمواجهة المباشرة بين السلطة المركزية (البعثية) والمتدينين المتمذهبين ، كيف أن أصابع الاتهام وجهت مباشرة إلى قوى بعينها ، أي إلى إيران الخمينية . ولكن إذا علمنا ، وهو معلوم ، أن إيران الخمينية كانت حديثة العهد كسلطة ، أفلا يحق لنا عندئذ أن نتساءل عن هوية وطبيعة الأخرى التي دخلت في سياق المساهمة ، وهو تساؤل نرى أن المستقبل والرغبة في الكشف عن الحقائق بين المعنيين سياسياً هو الكفيل بتقديم الجواب الشافي عنه.
هناك حقيقة مادية اليوم وقبل اليوم شاخصة في توفر عدد من المطبوعات سواء المعلن منها أو الخفي مما يتنقل تحت المعاطف ، كما يقال ، وكثير منها يوزع ويباع في صورة كتيبات مطبوعة طباعة جيدة وأنيقة وعلى ورق صقيل.
ومما يلفت النظر في أغلب هذه الكتب ، أن الدعوة الدينية منها لاتقتصر على مجال الهدي أو التبشير مما يمس الجوانب الروحية ولكنها تعالج قضايا المعاملات والتشريعات التي تمس حياة المجتمع وتزاوج بين الخطاب الأيديولوجي والتحريض السياسي المباشر.
والملاحظة الأخرى بعد هذا ، هي أن هذه الدعوة المحلية تريد أن تندرج في أفق وخطة دعوى كبرى ، وتفصح عن هذا الاندراج بمثل هذه العبارات:- “إن قضية التغيير الإسلامي الثوري داخل أمتنا أخطر قضية نواجهها ، وإن أعداء شعوبنا قد تمكنوا منها وأصبحوا يكيدون لها ويتربصون بها وليس لها والله إلاّ أبناؤها المجاهدون المخلصون وإلاّ عقيدتها الحقة ، ولايفل الحديد إلاّ الحديد ، ولا يدرأ الباطل ويفند إلاّ بقولة الحق صريحة مجلجلة”.
إنها عبارات كافية في الإفصاح عن دعوة شمولية تربط بين أطرافها أوثق الصلات ليس في العراق فحسب بل من المحيط إلى الخليج ، وتسعى للانتشار لتكون البديل عن كل ما هو قائم حتى الآن في الوطن العربي والبلدان الإسلامية .
ومرة أخرى ، لابد من العودة إلى ضغط التفاوت الطبقي ومعطيات المسألة الاجتماعية كمساهم مركزي في تشييع الدعوة ونقلها إلى صعيد التشريع للمجتمع ورغبتها من ثم في أن تتحول إلى بديل .
إن هنالك ما يشبه الإجماع في العراق وفي أغلب الأقطار العربية خلال السنوات الأخيرة على تردي الأوضاع الاقتصادية والتدهور الكبير للمستوى المعيشي للفئات الغالبة من السكان ، ورغم أن المسؤولين الرسميين كانوا لايعترفون بهذا الواقع ، إلاّ أن أرقام الديون ، والعجز التجاري ، والقروض الأجنبية ، فضلاً عن الزيادات الهستيرية لأسعار المواد ، ومنها كثير من المواد الأساسية مع بقاء الأجور مجمدة على حالها منذ سنوات الثمانينات تقريباً ، كل هذا لاينفع في تغطية واقع معيشي متدهور ، لكنه مترافق مع زيادة الفوارق الطبقية والتصاعد الفاحش في غنى طبقة محدودة من المجتمع ، وكل هذه المعطيات كانت تجد متابعة وصدى كبيراً في التقارير والتحليلات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تنشرها صحافة هذا التيار أو ترصد أحوالها في تقاريرها الحزبية الداخلية .
الوعي الجماهيري .. خلفية ومحفزات الانتماء
إنه لايمكن والحالة هذه التهوين من ضغط المسألة الاجتماعية لالتماس تأثيرها في نفوس ملايين من المواطنين الذين باتوا عرضة للحرمان والعوز والبطالة تأكلهم فيما تغتني أمامهم حفنة من منتفعي السلطة والسلطان ، وتتضاءل حظوظ العدالة الاجتماعية ، ودعك من حظوظ الممارسة الديمقراطية ، لاعجب هنا ، إذا رأينا كثيراً من أفراد المجتمع ولاسيما الشباب يلتحقون بصفوف التيار الديني المتمذهب وقد أعياهم انتظار تحقيق العدالة الاجتماعية ، كما أعيتهم ، وملوا من الأدبيات السياسية لأحزاب اليسار والقومية والليبرالية التي راحت تتهافت في تناقضاتها الداخلية وقراءاتها المتضاربة لمفاهيم وطرق التغيير الاجتماعي والتنمية الاقتصادية ، ناهيك عن فتور فورتها النضالية تحت ضغط الكسر المستمر لأجنحتها ، وضغط العناصر المعتدلة داخلها ، فأمست مثالاً إلى الاكتفاء بشعار تعميق الوعي الجماهيري والتكيف مع الأوضاع ، والتزام سياسة ظرفية سياسيوية أكثر من توفره على رؤية استراتيجية للحاضر والمستقبل ، كما كان عليه الشأن بصورة نسبية في الماضي القريب .
ولايعفى الباحث بأي حال سواء بالنسبة للمعطيات الاقتصادية والاجتماعية الآنفة الذكر ، أو إزاء التوصيف الأخير لوضع الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية ، وبالطبع أمام المسببات الكلية التي شاركت مباشرة أو دون قصد في تصاعد التيار الديني وتمذهبه من أن ينتبه إلى أن هذه الوقائع سجلت والأحداث والتطورات طرأت وتبلورت ضمن البانوراما الشمولية للنزاع العراقي – الإيراني، هذا النزاع الذي انطلق بصفة فعلية منذ 4/أيلول/1980 ، أي أن هذا النزاع كان له ولاشك أثر فاعل في صوغ وإنجاب العديد من الظواهر السياسية والثقافية والاجتماعية في العراق والأقطار العربية القريبة .
كان لهذا النزاع أثره الكبير خلافاً لمن يذهبون إلى أنه وضع العراق بكافة بنياته وتركيباته في وضعية محجوزة ، بسبب ما يفرضه مبدأ الالتفاف حول السيادة وصيانة التراب الوطني . ونتيجة للسلم الاجتماعي العلني أو الضمني الذي قام بين السلطات والمؤسسات الاجتماعية ، فإن هذه الوضعية المحجوزة كانت كفيلة وقادرة على أن تطفو إلى السطح بتناقضاتها ، ومؤهلة لإحداث تبدلات في الخريطة السياسية والانتمائية .
أخيـراً
هل يمكن الزعم ، بأن النار قد خمدت وهدير المكبرين والمستنكرين قد خف ؟ ثم ما هي مرة أخرى ، حدود الحيثيات السياسية والاجتماعية في بقاء أو انحسار ظاهرة التيار الديني المتمذهب المتطرف ؟
هذه الأسئلة وسواها نبقيها مفتوحة أمام القراء لأنها بدورها مفتوحة أمام زمن يتشكل وآخر قادم وظروف الزمنين ، معاً وكذا والقوى الأيديولوجية والاجتماعية السائدة أو المقهورة أو المتولدة في المجتمع العراقي والعربي المعاصر ستكون ذات دور بالغ الأهمية في استكمال بعض ما يظل مبتوراً أو بياضاً في سطور هذا الموضوع . ولكم نأمل أن لايعتبر هذا تخلياً من مسؤولية فكرية وهي المسؤولية التي لاتقوم إلاّ على معطيات مادية ووقائع حية ، وعدة من الأطروحات التي يولدها الذهن باحتكاك مع الواقع وبفهم جوهر الصراع داخله ، خص هذا العراق أو باقي أقطار الوطن العربي .
إننا نحس ونحن في الكلمات الأخيرة من هذه الدراسة ، أننا إنما قمنا بمقاربة أولى لموضوع خطير وإشكالي وجاد ، موضوع ينبغي أن يفهم بالجدية المطلوبة لا أن يترك حبله على غارب الأيام ، فإن ذلك إنما سيكون تعامياً عن واقع حقيقي وحي أمامنا يقول بالحرف الواحد:- إننا اليوم سواء في العراق أو في أي قطر عربي نعيش ظاهرة دينية متمذهبة تتعدد الأسماء فيها ، واقع ينبغي أن يقرأ على ضوء تاريخنا وظروفنا الاجتماعية وأوضاعنا الاقتصادية والطبقية والإحباطات العديدة التي عاشتها الأجيال العربية منذ بداية ما سُمي بعصر النهضة إلى اليوم ، ثم تستخرج منه الخلاصات الكافية والضرورية بالوسائط الديمقراطية، ومن أجل التمكن من رسم صورة المجتمع العربي الديمقراطي مستقبلاً ، وأن العرب – ونحن منهم – منذ بداية تفكيرهم في النهضة وهم يتداولون مصطلح (الإحياء) ، لا بل ومنذ الإمام الغزالي ومازالوا إلى الآن لم يصلوا إلى أي إحياء حقيقي في الدين أو في غيره .
ولاشك أن الشرط الديمقراطي أول الميكانيزمات لبناء الصرح الإحيائي ، كما أن انتقاءه كان له الأثر في تولد التطرف الديني في مجتمعاتنا العربية التي عرفت دائماً إسلاماً سمحاً بسيطاً خالصاً من كل الشوائب . وإذن فالإشكالية أكبر من أن تكون دينية وحسب .
المراجـــع
1- عبد الباقي الهرماسي … وآخر – الدين في المجتمع العربي ، ط1 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2000
2- مجدي حماد .. وآخر – الحركات الإسلامية والديمقراطية ، دراسات في الفكر والممارسة ، ط 1 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1999