18 ديسمبر، 2024 8:04 م

إن وضع أيّ اشتراطات مسبقة أمام النّص لهي خيانة كبيرة لروح الإبداع وإهانة صريحة توجه لروح النّص، مهما كانت المبررات التي يسوقها أصحاب هذا التوجه.

عندما كان العرب يعيشون في البادية غلب على شعرهم طابع البداوة، وأقصى تمرّد بلغوه في الصورة الشعرية كان عند عمر بن ربيعه حين أنشد “قلي بربك هل ضممت إليك ليلى”، لكنهم عندما فتحوا العراق والشام ثم بلاد فارس وشاهدوا النِعم وآيات الجمال ونعومة العيش، سرعان ما رقّوا، فرقّ شعرهم وتلاقح مع موسيقى المستعربين من سكان تلك البلدان الأصليين، وعندما فتحوا إسبانيا وابتعدوا عن مصادرهم الأصولية نسبيا تفجرّت قرائحهم فكتبوا في الشعر أعذبه، ثم فككوا موسيقاهم ومزجوها مع موسيقى الطوائف وارتقوا بالعزف إلى مراتب الرقي، ثم تفلسفوا فبزوا الغرب بنظرياتهم، حتى أن الأوربيين استكثروا عليهم تفوقهم في الفلسفة فغيّروا اسم ابن رشد إلى (Averroes).

وكما خرجت الرقّة في شعر الغزل من معطف التصوف، وهو وجه آخر من وجوه التديّن، خرج الغناء الحديث مطلع القرن من عباءة التديّن أيضا، يوم كان التدين مبنيّا على التسامح وطيب النفوس ومديح صنع الخالق في الجمال، فكانت أم كلثوم، الفتاة المنشدة للمديح في حلقات الذكر وأغلب معلميها كانوا من الشيوخ، حتّى أن الشيخ مصطفى عبدالرزاق رحمه الله كتب في العام 1926 يقول، وإني كلما ذكرت الشيوخ ذكرت أم كلثوم أميرة الغناء في وادي النيل، فإن لها هي أيضا شيوخا يحفون بها في عمائم مرفوعة، وأكمام مهفهفة، وقفاطين زاهية لامعة، وجبب طويلة واسعة.. عن اليمين شيخان وعن اليسار شيخان، ومازال جمهور سيِّد درويش والكثير من محبيه يطلقون عليه لقب الشيخ أو “شيخ سيِّد”، وهو لقب يخلع على من يجيد الغناء ويرتقي إلى تلك المرتبة من رقّة الصوت وعذوبته في المديح.

ولم تركن النفوس المُحبة للطرب والتهذيب لسماع فتاوى التوحش، فتحايلت على الأمر بالتجويد في أحلك الظروف قمعا وتشدّدا، وراح المجوّدون يشذبون طرقهم في الأداء بعد أن دخل الإسلام العراق والشام ومصر والأندلس، وراح المجيدون منهم يعملون على ضبط إيقاعهم وفق مقامات الغناء وأصولها التي دخلت العراق من بلاد فارس، لكن دهاقنة التوحش والمنظرين له والساعين لتحكيمه بالأحاديث المُدلسة أو الموضوعة، ظلوا حتّى يومنا هذا يقاومون الجمال والرقّة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، حتّى جزعت النفوس من تصحّر أفكارهم السود وراحت تبحث عن متنفس ما للتطبيب والتطيّيب، فظهر التناقض في الحياة العامّة، لكن ظلت الرقّة مثل النبت الطيّب تنبثق براعمها الخضر النضرة وسط صخور تحنط يخمش الأرواح ويعذّبها، لعل من تمظهراته في عصرنا تلك التابوهات التي يضعها البعض بدعوى الفضيلة ومحاولاتهم المستمرة تحويل النصوص الإبداعية إلى مسوخ خالية من الروح وبذرة التمرّد ونزعة الخلق، حتّى جزعت نفوس المبدعين وضاقت عليهم فسحة النشر والانتشار، وما هي سوى ردّة إلى مفهوم التصحر إيّاه وما أكثرها من ردّات شهدها العرب على مرّ التاريخ، لكنّ يبقى الإبداع المحض عصيّا على التشذيب والعقلنة والاستسلام ومازال يبتكر أدواته وحيله ليرتقي ويجسد معجزاته الصغيرة في منح القارئ تلك الأجنحة الرقيقة الكفيلة بحملة إلى عالم من الخيال الآسر.

إن وضع أيّ اشتراطات مسبقة أمام النّص لهي خيانة كبيرة لروح الإبداع وإهانة صريحة توجه لروح النّص، مهما كانت المبررات التي يسوقها أصحاب هذا التوجه، وبما أن الكتاب تجربة حياة مطوية بين دفّتيه وينام وديعا على الرفوف بانتظار من يتطوّع لاقتنائه وقراءته، فهو لا يفرض نفسه على أحد ولا يدخل بيوت “الفضلاء” عنوة كما يفعل التلفزيون مثلا، فإن فرض التابوهات عليه ومحاولة عقلنته وترويضه يبقيان عملية بائسة ومريضة في أحسن الأحوال.
نقلا عن العرب