18 ديسمبر، 2024 2:19 م

التوجيهي: مبالغة مجتمعية وتآكل في الوظيفة التقويمية

التوجيهي: مبالغة مجتمعية وتآكل في الوظيفة التقويمية

التوجيهي: مبالغة مجتمعية وتآكل في الوظيفة التقويمية[1]
كما في كل سنة تقريباً يتكرر السؤال حول ضرورة إعادة النظر في امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة (التوجيهي) من حيث وظيفته ومن حيث أسلوبه ومن حيث قدرته على كشف القدرات الحقيقية للطلبة التي تؤهلهم للخطوة التالية في حياتهم نحو التعليم الجامعي أو الحياة العملية. وفي هذا العام تعالت الأصوات في هذا الاتجاه انطلاقاً من النتائج التي حصل عليها الطلبة متمثلة في المعدل العام، والتي أظهرت تضخماً غير مسبوق وغير طبيعي في هذه المعدلات والتواءً غير عادي في منحنى توزيع هذه النتائج، بحيث كانت قمة المنحنى في نهايته العليا، عوضاً عن التوزيع الطبيعي المعتاد في مثل هذه الحالة، حيث تتوزع صفة التحصيل الدراسي توزيعاً طبيعياً في المجتمعات الإحصائية الكبيرة. هذا المنحنى الذي دعوته “توزيع صاروخي” أثار استغراب التربويين ووضع علامات سؤال حول علاقة هذه النتائج بالقدرات الحقيقية للطلبة خارج القدرة على الحفظ، أي في المستويات الإدراكية الأعلى من التذكر والحفظ وصولاً إلى حل المشكلة.

غني عن القول بإن مشكلة التوجيهي ليست منفصلة عن واقع النظام التعليمي ككل، والذي يشمل جميع جوانب هذا النظام: المحتوى، وأساليب التعليم والتعلم، والتقويم، وإلى جانبها جميعاً الإرشاد والإدارة. وبالتالي فإن أي تغيير منشود في وضع التوجيهي يجب أن يكون مرتبطاً بتغيير في النظام التعليمي يساعد في الوصول إلى هذا التغيير المنشود، وهذا يتطلب نية صادقة في الرغبة في التغيير وجهوداً منظمة واسعة ومتعددة الأطراف في رسم خطة التغيير وتنفيذها. لكن ذلك لا يعني عدم إمكانية البدء بعمل تغييرات تمهيدية ريثما تكتمل حلقات التغيير، من مثل طبيعة الأسئلة واعتمادها على قدرات تراكمية وليس مجرد أسئلة تلتزم بحرفية “الكتاب المقرر” خوفاً من تهمة وفزاعة “أسئلة من خارج المقرر”، وإعادة النظر بسياسة القبول الجامعي نحو سياسة نوعية تتعلق بالقبول في برنامج محدد دون غيره وعدم اعتماد المعدل العام كمعيار وحيد للقبول.

أتحدث هنا عن أربع نقاط في هذا المجال تتعلق بما صار يعرف بأزمة “التوجيهي”:

1- هل حقاً هناك مشكلة؟

الشعور العام يقول بأن هناك مشكلة فعلاً، لكن ينبغي إجراء دراسة عامة حول مصداقية المعدل العام في التوجيهي كمؤشر حقيقي للكفاءة المتوقعة في التعليم الجامعي من حيث المعدل التراكمي ودراسات في مجالات محددة تتعلق بجوانب الشخصية المختلفة المتعلقة بالتعلم (المعرفية، المهارات، والسمات الانفعالية)، دراسة يمكن أن تكشف في أي مجالات ينجح وفي أي مجالات يفشل.

لدي فرضية تؤيدها انطباعاتي في التعليم الجامعي لأربعة عقود ويمكن اختبارها من خلال مثل هذه الدراسات والتي تنص على عدم وجود فروق ذات دلالة إحصائية في مستويات التحصيل في الدراسة الجامعية تعزى للمعدل في امتحان شهادة الدراسة الثانوية، وفي اعتقادي أن هذه الفرضية ستكون أقوى في التخصصات التي لا تعتمد التلقين أو في المساقات التي يتم تدريسها بأسلوب يعتني بطرق التفكير ومهارات حل المشكلة بعيداً عن التلقين والحفظ.

2- العبء المجتمعي للصورة الحالية للتوجيهي

ترتبط الصورة الحالية للتوجيهي بمبالغة متصاعدة سنوياً في الهالة المرتبطة به، خاصة بعد أن أصبح الحصول على معدلات مثل 99.7 ممكناً، ووجود ترتيب الأول من العشرة الأوائل مكرراً لأكثر من عشرة، بحيث يخجل الحاصل على 90 مثلاً من نفسه. هذه الهالة التي تخلق حالة تنافسية غير حميدة وتكرّس بدرجات مضاعفة حالة “الدراسة من أجل العلامة Learn to score” التي تسيطر على العملية التربوية ككل، سواء من حيث أساليب التعلم أو من حيث أسلوب التعليم السائد، حالة يصفها باولو فيريري بالتعليم البنكي (banking education) نقيض التعليم النقدي (critical pedagogy)، تعليم يفترض بالمتعلم أن يكون صندوقاً يخزن فيه المعلم ما يعتبره مهماً وعلى الطالب أن يستعيده في الوقت المناسب: ساعة الامتحان “التي يكرم فيها المرء أو يهان”. يذكرني هذا الحال بما كان يقوله أحد أساتذتي الأفاضل من المتنورين في المدرسة الثانوية “في مدارسنا الفرق بين الشاطر وغير الشاطر مسألة عشر دقائق: الشاطر ينسى المعلومات بعد الامتحان بعشر دقائق، أما غير الشاطر فينساها قبل الامتحان بعشر دقائق”، مضى على سماعي لهذه المقولة أكثر من خمسة عقود وما زالت، للأسف، مسيطرة على تعليمنا إلى حد بعيد. تولّد هذه الصورة المتضخمة أعباء نفسية-اجتماعية-مادية على الطالب والأسرة والمجتمع، وصلت هذه السنة مستوى عالياً في تفاصيلها وفي قدرتها السلبية على جعل الاحتفال بالنجاح أهم من الحرص على السلامة وتجنب التجمعات كمصدر للعدوى والإصابة بالكورونا، مثل:

– اعتباره مصيرياً وما يشكله ذلك من عبء نفسي على الطالب/ة والأسرة

– العبء الاقتصادي المتمثل بالدروس الخصوصية التي أصبحت لا غنى عنها نتيجة الأجواء التنافسية.

– أجواء الاحتفالات المبالغ بها وما يرتبط بها من تكاليف مادية وممارسات مستهجنة في الهدايا الاستعراضية التي أصبحت موضع تنافس، حفلات كحفلات الزواج بتحضيرات مكثفة ودعوات و”نقوط” وموائد، إضافة إلى إطلاق النار على يد “مناضلين” والألعاب النارية “المهربة” من إنتاج المستوطنات، وما يرافق ذلك من الخسائر البشرية وفاة أو جراحاً.

ومن الآثار الملموسة لهذه الهالة المضخّمة تلك المتابعة المجتمعية الحثيثة لكل جلسة من جلسات الامتحان بمشاركة من الطلبة والأهالي مع اهتمام مجتمعي لأي شعور ب”الصعوبة” يعبر عنه الطلبة مما يجعل وزارة التربية والتعليم، شئنا أم أبينا، تحت ضغط الرأي العام الذي يرفع فزاعة “الأسئلة صعبة وانتقامية”. وتسبقها كذلك استجابات غير مباشرة لبعض الظروف الطارئة على المستوى الوطني تتطلب حذف أجزاء من المقرر “مراعاة للظروف”، وصلت حد القبول المجتمعي لمسألة الغش العلني المنظم في هذا الامتحان خلال سنوات الانتفاضة الفلسطينية 1987.

3- مدى مصداقية الوظيفة التقويمية للنتائج

نتائج هذا العام وتوزيعها غير الطبيعي تطرح التساؤل حول مصداقية هذه النتائج: هل نحن استثناء في توزيع قدرات طلبتنا خارج التوزيع الطبيعي للصفات التي ترتكز إليها النتيجة أم أن هناك خللاً في عملية التقويم يشمل أساساً محتوى التقويم (الأسئلة) ومجاله (المادة التي يغطيها) وطريقة التصحيح؟

هناك جانبان في المصداقية: أولاً اعتماد المعدل العام معياراً للقبول والذي يعتبر مضللاً، لا يفرق بين متطلبات دراسة برامج بعينها، وثانياً لاعتماده بشكل كبير على قدرة التذكر واقتصاره على تقويم يتعلق بمقررات السنة الدراسية الأخيرة وليس بحصيلة التعلم في المرحلة المدرسية التي تمهد لما بعدها. فأي ضجة ستحدث لو تضمن الامتحان سؤالاً يتعلق بمقررات الصف التاسع مثلاً؟

4- الأثر الممتد لأسلوب التقويم وطبيعته

جانب آخر من خطورة هذا الوضع أنه ينقل عدوى التلقين والحفظ في التعليم والتعلم خلال سنوات التعليم المدرسي إلى التعليم الجامعي تحت ضغوط طلابية بشكل مباشر تتمثل في احتجاجات وشكوى من متطلبات دراسية ما فوق الحفظ وبشكل غير مباشر من تأثير الجو العام وحالة القصور الذاتي التي ينتجها هذا الجو تحت ذريعة أن التغيير لا يمكن أن يحدث فجأة وأنه لا يمكن مطالبة من تعلموا تقليدياً في المدارس بالانتقال إلى التعليم والتعلم الإبداعي في الجامعة، وتتمثل الاستجابة لذلك، خاصة في العلوم الإنسانية، في تحديد صفحات معينة للامتحان من كتاب مقرر أو مادة معدة من المدرس بدلاً عن حفز الطلبة على تعدد مصادر التعلم واستثمارها في تحليلات واستنتاجات وحل المشكلة استناداً إلى ما تم تعلمه.

في الختام، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا يبقى المجتمع بكامله أسيراً لأسلوب في التقويم يسير بالقصور الذاتي والخوف من التغيير ويكلفه اقتصادياً ونفسياً واجتماعياً؟ أسلوب يثقل على الطلبة وأسرهم ومحيطهم في التحضير المسبق لهذه “المحطة المصيرية” وأثناء السنة النهائية “التي تفرض فيها حالة طوارئ تكتم الأنفاس”، وفي انتظار النتائج “على أحر من الجمر” والاحتفال بها “بعادات تتجدد في سوئها وتكلفتها”، إضافة إلى الخسائر اللاحقة نتيجة اعتماده معياراً للدراسة الجامعية مما يجعل الكثير من الطلبة يدخلون تخصصات لا تحظى أساساً باهتمامهم “لأن المعدل مرتفع خسارة (حيانة) أن يذهب لأقل من المهن الراقية”، فلا يبدعون أو يخسرون سنة أو سنتين من العمر والجهد يضطرون بعدها إلى تغيير التخصص؟

أليس الأجدى أن يكون إتمام المرحلة الثانوية والحصول على الشهادة المدرسية بنجاح مؤهلاً للدخول إلى امتحان مصمم للتخصص المطلوب الذي يريده الطالب بحيث يعتمد في قياسه على المعرفة المتراكمة (وليس الصف الأخير) وعلى مهارات تفكير تتعلق بالتخصص المطلوب؟

[1] مداخلة قدمت في ندوة “نتائج الثانوية العامة 2020-2021: بين الصدمة والنزعة للتغيير” التي عقدها مركز الدراسات والتطبيقات التربوية “كير”، 26-8-2021