23 ديسمبر، 2024 4:12 م

التوترات المُفتعلة وإستراتيجيات المواجهه لإدارة الأزمات الداخلية التركية الأوربية

التوترات المُفتعلة وإستراتيجيات المواجهه لإدارة الأزمات الداخلية التركية الأوربية

قبل عام أو أكثر لم يكن ثمة حديث تركى – أوربى إلا عن التفاوض حول مزيد من الترتيبات المتعلقة بمباحثات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، فضلا عن الحديث عن اتفاقية اللاجئين التي تعهدت أوربا بمقتضاها بإعفاء الأتراك من تأشيرة الدخول إلى القارة الأوربية مقابل لجم طوفان اللجوء والهجرة الذي مثل تهديدا أمنيا وسياسيا واقتصاديا حينها لاستمرارية فتح الحدود بين دول القارة.
لكن العلاقة ما بين الطرفين انتقلت من النقيض إلى النقيض غُلفت بأسباباً عدة دفعت إلى تأزم الحوار، ورغم أن العنوان الرئيس للأزمة هو “التعديلات الدستورية المرتقبة في تركيا في أبريل المقبل”، إلا أن هناك ملفات أخرى متفجرة لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال تتجاوز ما يتم تصديرة من ورقة التعديلات الدستورية.
ملفات خلافية تتجاوز أزمة التعديلات الدستورية :
تبلورت فى الأونة الأخير ملامح لأزمة تركية أوربية تمثلت بالأساس فى رفض بعض الدول الأوروبية تنظيم تجمعات للأتراك المقيمين لديها ليشارك فيها وزراء أتراك بهدف الترويج للإستفتاء على التعديلات الدستورية المزمع إجراؤه في 16 من أبريل المقبل،وذلك على الرغم من سماح هولندا بتدشين فعاليات للتيار الرافض للاستفتاء الدستوري شاركت به شخصيات تركية معارضة بما يظهر الخلاف مع تركيا. وترتب على ذلك ردود أفعال غاضبة من الجانب التركي.
وقد بررت الدول الأوروبية رفضها تنظيم التجمعات التركية لأسباب أمنية وحقوقية ؛ فمثل تلك التجمعات بمثابة عمل يخالف القواعد الحقوقية فيها، وذلك وفق المادة 10 من اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية التي تسمح بحظر أي حملات دعائية سياسية تابعة للدول الأخرى على الأراضي الأوروبية.
وإستكمالا لمُعطيات الأزمة ؛ فقد أعلنت الدول الأوربية عن عدم إرتياحها للتعديلات الدستورية التي يرون أنها تتناقض مع الديمقراطية. أى أن سياسات المواجهة الأوروبية مع نشاطات الحزب الحاكم في تركيا ليست أكثر من تعبيرعن قلق أوروبي تجاه مستقبل الديمقراطية التركية ، لكن بالمقابل نجد أن تراخى الموقف الأوربى من عملية التحول الديمقراطي ودعم قوى الحرية والديمقراطية في دول ثورات الربيع العربى، فضلا عن الموقف المتردد والمتأخر من المحاولة الفاشلة للانقلاب العسكري في تركيا، جميعها شواهد لا توحي بأي حرص أوروبى على الديمقراطية التركية.
المتابع للشأن التركى يستطيع الجزم بأن هناك ثمة جدل كبير حول التعديلات الدستورية المُقترحة بتركيا، كما أن توجهه الناخبين منقسماً حول ما يعنيه تحويل نظام الحكم في البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي. وحتى اندلاع أزمة النشاطات الانتخابية بين تركيا من جهة، وألمانيا وهولندا من جهة أخرى، لم يكن هناك ما يشير إلى تبلور أغلبية تركية حاسمة مع إقرار هذه التعديلات، بما يرجح فرضية “أن هناك عدد من الأسباب الأخرى التى تتجاوز مدى ديموقراطية تلك التعديلات من عدمة، ومنها تلك الملفات محل الخلاف الدائر ما بين الجانبين:
1. إعادة توجية السياسية الخارجية التركية :
عمد أردوغان إلى إعادة هيكلة الأولويات الخارجية وفقا لإستراتيجيات تنوع الأذرع الخارجية لضمان التواجد ؛ فمنذ إعادة توجية البوصلة الروسية لملفات الشرق الأوسط ؛ وقد وجدت تركيا ضالتها كمرتكز رئيس بملفات المنطقة ؛ ساهم فى ذلك تعميق العلاقات ما بين الطرفين فى كافة المجالات والتى كان أخرها التعاون العسكري فى المجال الصاروخى (صفقة الصواريخ (S400؛ وذلك بالتزامن مع التقارب التركي المتصاعد مع الصين والهند وكوريا الجنوبية التي باتت تتخذ مكانة متقدمة في السياسة الخارجية التركية في ظل تراجع واضح في العلاقات التركية الأوروبية التي شابها الخلافات والمشكلات فى ظل التوجهات التركية في أكثر من ملف شرق أوسطي مشترك مع الدول الأوروبية وأبرزها ملفات مكافحة الإرهاب وتدفق اللاجئين والقضية الكردية، وهو ما يخالف إستراتيجيات الدول الأوروبية ورؤيتها حول إعادة الدور التركي الذي قامت به أنقرة أبان الحرب الباردة كحائط الصد الأول الذي يفصل بين أوروبا الغربية الليبرالية و دول الإتحاد السوفيتي الشيوعية، فالاتحاد الأوروبي يسعى لدفع تركيا كحائط صد يفصل بينه وبين دول الشرق الأوسط بكل ملفاتها المتداخلة.
2. مفاوضات تركيا للإنضمام للإتحاد الأوروبي:
إلحاقا بتعثر ملف إنضمام تركيا للإتحاد الأوربى ؛ و تزامنا مع الأزمة المفتعلة أعلن الاتحاد الأوروبي قراراً بوقف مساعداته المالية لتركيا بعد فشلها في تحقيق تقدم في الملفات المطلوبة كخطوة نحو حصولها على عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، وفى مقدمتها الملفات الحقوقية .
الجدير بالذكر ، أن الإتحاد الأوربى قد قدم لتركيا مساعدات مالية بقيمة 167 مليونا و300 ألف يورو ، من أصل مساعدات كانت مقررة بنحو 4 مليارات و450 مليون يورو في الفترة بين عامي 2016-2020، وذلك لتوفيق ملفاتها الحقوقية بما يتناسب مع عضوية الاتحاد الأوروبي كدولة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي ، وكنتيجة للتراخى التركى والإبتعاد عن الواجهه الأوروبية أعلنت بروكسل أن مفاوضات انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي توقفت بشكلٍ فعلي نتيجة عدم فتح أي ملفات جديدة بما يُعد محوراضمنيا أخر لإفتعال الأزمات التركية الأوربية.
3. المخاوف الأوربية من سلطوية ” العثمانية الجديدة”:
التعديلات الدستورية التى طرحها الرئيس التركى من شأنها العمل على تحويل تركيا لنظام حكم شمولي مُرسخه بذلك نظام الحزب الواحد وحكم الفرد، وبالتالى فالأحزاب المعارضة التركية أصبحت مجرد أحزاب كرتونية ليس لها قواعد انتخابية فاعلة فضلا عن محدودية تأثيرها وإنحياز بعضها للحزب الحاكم ؛ كأحزاب (الحركة القومية ؛ الوطن) .
التعديلات المُقترحة من شأنها أن تزيل أو تهمش ضوابط وتوازنات ضرورية في هوية النظام التركي وطبيعة العلاقة بين مؤسساته وهياكله، بما أدى إلى دعوة لجنة المتابعة لدى “الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا PACE” إلى وضع تركيا “تحت التدقيق رسميا”، وهو الإعلان الذي يمهد لضمها لقائمة الدول غير الديمقراطية، حيث أكدت اللجنة في تقريرها أنه تم اعتقال وفصل نحو 25% من القضاة وأعضاء النيابة العامة، و10% من قوات الشرطة و30% من الدبلوماسيين و5 آلاف أكاديمي في تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشل دون اللجوء للقضاء مما يعد مؤشرا لتدهور آليات عمل المؤسسات الديمقراطية في تركيا.
الجدير بالذكر ؛ أن من أبرز المواد المقترحة تنص على رفع إجمالي عدد النواب في البرلمان التركي من 550 إلى 600 نائب، وتمنح التعديلات الرئيس الحق في تعيين نصف أعضاء مجلس القضاء، وتعيين مجلس الوزراء وتعديل الحكومات، وتلغي منصب رئيس الوزراء، وفى حال الموافقة على التعديلات في الاستفتاء، يمكن أن يحكم أردوغان تركيا حتى عام 2029 وفقا للعديد من التحليلات السياسية المتداولة.
4. الجدال التركى الاوروبى حول إتفاقية اللاجئين:
لازالت تركيا تتعمد استخدام ورقة اللاجئين للضغط على الأوروبيين فى كل أزماتهم المُفتعلة، وهو ما يدفع بالتحرك الأوربى المضاد حماية لأمنها القومي وحفاظا على خريطتها الديموغرافية.
على أثر ذلك ؛ ففور اشتعال الأزمة هدد الرئيس التركي بإلغاء الاتفاق المُبرم مع الإتحاد الأوروبي لكبح الهجرة غير الشرعية وتدفق اللاجئين لأوروبا كما هدد بترحيل 400 ألف لاجىء شهريا لأوروبا.
ووفقا للاتفاق الذى تم توقيعة في مارس 2016، تحصل تركيا بموجبه على ما يقرب من ستة مليار دولار، فضلا عن إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة الدخول إلى البلدان الأوروبية مقابل حل مشكلة اللاجئين وتوطينهم داخل حدودها، بيد أن الاتفاق منذ ذلك الحين لم ينفذ بدقة، وتم انتهاكه من قبل الطرفين فلم يقدم الإتحاد الأوروبي المساعدات المالية المتفق عليها ، وكذلك لم تتمكن أنقرة من منع هجرة اللاجئين بشكل كامل.
5. الجدال حول الدعم الأوروبي للأكراد:
الملف الكردى من أكثر الملفات الحيوية خارجيا لدى النظام التركى وخاصة ما يتعلق بإنشاء كيان كردى على حدودها ، بالمقابل تهتم الدول الأوروبية لاسيما ألمانيا بتقديم دعم لوجيستي لحزب العمال الكردستاني الذي يتواجد له قواعد سياسية وإعلامية بالدول الأوروبية. لكن فى ظل المطالب التركية المتعددة بوقف الدعم الألماني للأكراد أصدرت برلين قرارًا بحظر شعارات (حزب العمال الكردستاني، ومنع نشر صور زعيمه عبدالله أوجلان) في التجمعات الكردية بألمانيا.
الجدير بالذكر، أنه على الرغم من تصنيف ألمانيا لحزب العمال الكردستاني على أنه منظمة إرهابية منذ عام 1993، إلا أنها تسمح لعدد كبير من القنوات الإعلامية والمراكز البحثية والأحزاب الكردية بالتواجد والعمل على أراضيها مُصدرة بذلك ورقة ” المؤازرة الأوربية للقضية الكردية وللمواطنين الأكراد الذين يتعرضون لانتهاكات جمة لحقوقهم في تركيا وإيران” ، لكنها سياسيا تستخدم الملف الكردى كورقة ضغط لتسوية مصالحها مع الطرف التركى.
6. التوتر التركى مع حلف شمال الأطلسى “الناتو”:
إتسمت العلاقات التركية مع حلف الناتو بالتوازن. وتُرجم ذلك بدعوة الأمين العام لحلف الناتو لكلاً من تركيا وهولندا بتخفيف حدة التوتر بينهما خاصة وأن البلدين أعضاء في الحلف ، وذلك إستنادا للعقيدة العسكرية للحلف والتى مفادها أن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض ولذا فالتصعيد المستمر بين أعضائه ليس من مصلحة الحلف في شىء بل أنه يمثل تهديدًا له ويؤثر بشكل غير مباشر على عمل الحلف، خاصة وأن الجيش التركي بقوامة الذي يبلغ مليون جندي هو ثانى أكبر جيش بالناتو .
التصعيد التركى ضد حلف الناتو تمثل فى إيقافها التعاون مع “النمسا” الشريكة فى الحلف ردا على إلغاء فينا اجتماعا لوزير تركي، بما خلق أزمة مع الناتو أكد من خلالها على أن القرار التركي بوقف التدريب العسكري لن يمس النمسا فحسب، بل سيطاول دولاً أخرى ليست أعضاء في الحلف، ودعا تركيا والأطراف الأوربية – للمرة الأولى – لحل خلافاتهم سريعا حتى لا يتأثر العمل داخل الحلف.
مسارات الأزمة :
على الرغم من أن سريان الأزمة وتبعاتها المختلفة ما بين الجانبين التركى والأوربى، وما لحق بذلك من تدخل أطراف أخرى كحلف الناتو وإستهجانه المُعلن من الأزمة وتبعاتها ؛ إلا أن بداية خلق الأزمة وأسبابها المُعلنه والضمنية توحى للمتابع للشأن الدولى أن مسارات الحل ستنحصر بدورها فى التالى :
المسار الأول : انتهاء الأزمة بعد النصف الأول من أبريل 2017 أى بعد انتهاء الاستفتاء على التعديلات الدستورية بتركيا، وهو علي الأرجح ما سيحدث لأن الدافع الرئيسى للتصعيد سيكون قد أنتهي بإنتهاء الاستحقاقات الانتخابية التركية.
السيناريو الثاني: انتهاء الأزمة الحالية مع استمرار الخلافات والملفات العالقة بين الطرفين، حيث إن تلك الملفات جميعها محل خلاف بينهما كملف الإرهاب واللاجئين، ومن الصعب التوصل إلى حلها جميعًا خاصة وان الخلاف حولها لم يُحسم نتيجة لعدم حسم ملفاته بالشرق الأوسط.
السيناريو الثالث: تدخل الأطراف الأوربية والدولية والعمل على احتواء الأزمة وتقريب وجهات النظر بين تركيا والدول الأوروبية . فضلا عن تدخل حلف الناتو الضاغط والقوى الكبرى التي لا ترغب في تصعيد الأزمات بين طرفي الأطلسي حتى لا تؤثر سلبا على الملفات المشتركة بينهما في الشرق الأوسط خاصة ملفى الإرهاب واللاجئين؛ وهو المسار الأقرب للحل بشواهدة المُختلفة والتى فى مقدمتها تصريحات رئيس الوزراء التركي الأخيرة “بن على يلدريم” بعدم رغبة بلاده في قطع العلاقات مع هولندا تماما.
تأسيسا على ذلك …،
نتيجة للتحديات الدولية والإقليمية المشتركة فإن الطرفين التركى والأوروبى بحاجة كلا منهما الأخر؛ فالاتحاد الأوروبي بحاجة لتركيا لتسريع حل أزمتي الإرهاب واللاجئين، والبقاء على نفوذه العسكري والسياسي في المنطقة، وتركيا بحاجة إلى الاتحاد الأوروبي، لتشكل عنصر موازنة بدعم رؤيتها حيال حل الأزمة السورية.
الاتحاد الأوروبي يُدرك إمكانية مخاطر تعرضة لنتائج سلبية في حالة ما إذا سمحت تركيا للاجئين بالانطلاق نحو بلدانها، وقد تتأثر تركيا سلبًا في حال تخلى الاتحاد الأوروبي عن دعمها في موقفها من حل الأزمة السورية، لا سيما في ظل ظهور بعض ملامح التنسيق الروسي الأمريكي في سوريا، تحديدًا في منبج، أما التداعيات الإيجابية من هذا التوتر، فبالنسبة للدول الأوربية ستشكل تلك التوترات بيئة خصبة لتصاعد النعرات القومية الشعبوية وفرض أجندات الأحزاب اليمينة على الشارع الأوروبى خاصة فى ظل الإنتخابات المرتقبة ؛ بينما بالنسبة لتركيا فتتمثل في ضمان مرور الاستفتاء الشعبي لصالح النظام الرئاسي، فضلا عن مزيد من التفاهمات السياسية مع الجانب الروسى فى ظل تصعيدات مؤقتة لا ترمى لأى تهديد للأجندات الثنائية التركية الأوروبية.