8 أبريل، 2024 10:23 ص
Search
Close this search box.

التوبة الابستمولوجية: استجابة لمابعد الحداثة

Facebook
Twitter
LinkedIn

Epistemological Repentance:
A Response to Post-Modernism
Jerry L. Sherman, Ph.D.
ترجمة ومراجعة
د.حارث محمد حسن
د.باسم علي خريسان
مقدمة:
   سأركز اهتمامي في البداية على المواقف المتاحة للباحث المسيحي في استجابته لتأثير ما بعد الحداثة في المجال الاكاديمي،ثم انصرف الى واحد فقط من هذه البدائل،اي ما اسميه  بـ((التوبة الحيادية)) كبديل اقتصر في تطبيقه على مجال الابستمولوجيا فقط.ان التوبة الابستمولوجية هي الاعتراف بأن طريقتنا في معرفة العالم خلال المراحل الزمنية المتأخرة هي طريقة تكنلوجية،اي انها طريقة تقوم على السيطرة وتطبعنا بنوع من الوثنية .وقد ينجح المفكرون ما بعد الحداثيون في استكمال اراء الكتاب المقدس والتعبير فلسفياً عن  الموقف من هذه الوثنية ،وبرز منهم في هذا المجال نيتشة وهيدجر.لكنني اتساءل في النهاية ،اي جزء من التقليد الانجيلي قادر على الصمود في مواجهة التحدي ما بعد الحداثي؟.
   وتتضمن الاستجابات الممكنة لما بعد الحداثة تجاهل التحدي،او الاستسلام له، او احتضانه بطريقة نبوئية،او مقاومته،او الاعتراف بالكيفية التي يؤثر علينا فيها،وهو مايقودنا الى الندم والتوبة في بعض المجالات.وهناك نقاط ايجابية لصالح كل واحد من هذه الخيارات ،لكن التوبة الحيادية تمنحنا ما هو مهم في هذه الحركة وتجعلنا قادرين على الانتقاء بين مزاعمها.
  التوبة الخاصة التي ساركز عليها اكثر هي تلك المتعلقة بحاضر السيطرة في المحاولة الانسانية للتعرف على العالم،فلأننا لانستطيع ان نسيطر على العالم ككل فان طريقتنا في المعرفة يجب ان لاتنساق خلف التكنولوجيا التي تمنحنا السيطرة على نواحي محدودة من المعرفة.لقد منحنا كل من نيتشة وهيدجر رؤية في الوعي التكنلوجي الذي قد يكون أحد جوانب المنظور العالمي المسيحي السائد.ويمكن للتوبة هنا ان تنتج تجربة اكبر في العبادة.
   لكن القيام بتفكيك جزء من منظورنا العالمي بالطريقة النيتشوية لايعني القبول بالقول بأن هذا التقليد بأكمله هو تقليد فاسد. وتبقى فقط مهنة الاستكشاف الدقيق للاشياء التي لايمكن تفكيكها بالمنظور الانجيلي العالمي.
  ان الباحث المسيحي الذي يواجه تحديات التفكير ما بعد الحداثي  قد يختار أن يتجاهل التحدي ، او ان يستسلم له،او يحتضنه برؤية نبوئية او يقاومه. اخيراً قد نعترف بشرعية جزء من هذا التحدي ، ونتجه الى الندم و التوبة في مجالات اخرى من الفكر. ومعظم هذه الاستجابات تحتوي على عناصر مفيدة،الا ان التوبة الحيادية هي  الخيار الافضل للتفكير المسيحي.
  فتجاهل ما بعد الحداثة قد يكون مبرراً في مجالات الدراسة التي لاتتأثر كثيراً بهذه الحركة . وقد يكون من المستحسن تجاهل ما بعد الحداثة ،عملياً،في مجالات مثل اللغة الانكليزية عندما تتطلب ما بعد الحداثة عملياً وجود معلماً يتجاهل الادب المهم او يعيق العملية التعليمية.ومن المستحسن في هذه المجالات تجاهل اتجاه قد لايمس التجربة الحياتية للطلاب واساتذتهم.وبغض النظر عن الكيفية التي تمارس فيها ما بعد الحداثة تأثيرها،فان لها علاقة قوية بالثقافة التي نعيش في ظلها.
في الفلسفة يكاد يكون مستحيلاً ان نتجاهل ما بعد الحداثة لانها تبدو فعلياً بداية مرحلة جديدة في التاريخ الفلسفي. واعتقد ان التاريخ هو نوع من الرحلة الطويلة والتي تشهد مراحل بارزة تقودها الى نتيجة محددة،فان مابعد الحداثة هي فصل قاتم لكنه مهم في هذه القصة.
   لايمكن للباحث المسيحي ان يتجاهل ما بعد الحداثة،لكنه لايستطيع ان يستسلم لها ايضاً.فالمسيحية تتعامل مع العالم ومع الفكر السائد فيه،والفكر مابعد الحداثي فكر معادي جداً للمنظور المسيحي العالمي، من الناحية الفلسفية يبدو ان ما بعد الحداثة تحتوي اساساً على أدعائين الأول،العدالة هي القوة فقط وهي فكرة احياها نيتشة والثانية ليست ((الحقيقة)) سوى رؤية ذاتية.وهي فكرة ظهرت في الماضي وعادت مجدداً بفضل نيتشة ايضاً.وهذين الادعائين يشكلان الهجوم ما بعد الحداثي على الاخلاقيات التقليدية والابستمولوجيا.وهم شديدا الترابط ،ذلك ان القوة بهذا المعنى لاتكمن وراء الاخلاق فقط بل وراء الحقيقة نفسها .أولئك الذين يمتلكون القوة و أولئك الذين يمتلكون النفوذ هم اعداء لمن يخضعون لهم.
  يخبرنا الجانب الثقافي والسياسي لما بعد الحداثة ان التفكير الاوربي لايمتلك ليقدم اليوم سوى التبرير والاعتذار ،ذلك ان الاوربين قاموا بأقصى ما يقوم به الحيوان البشري، والحيوان البشري بشكله المختلف عن الطبيعة والحيوانات بشكل عام ،يحتاج ايضاً للتبرير والاعتذار- لكن هذه الرؤية السلبية للوجود الثقافي والانساني الغربي ليست ندماً وتوبة.فالتوبة غير ممكنة بدون وجود شيْ بديل، والبديل الأصيل الوحيد للخطيئة الانسانية يختفي  ضمن الثقافة الغربية الكريهة جداً. لقد بقينا مع انسانية تكره نفسها لكن لايمكن تركها تسير بنفسها،انسانية فقدت نقاءها وفتننتها ،انسانية تبدو اكثر جرأة وصرامة.
  ان ذلك شيء لا نريد ان نستسلم له وعلينا ان نقاومه، وألا فيمكننا ان نحتضنه كمرحلة نهائية في العصيان البشري الى لله. وقد برز هذا البديل بشكل خاص في عدد حزيران من مجلة( الكتب والثقافة) عند استطلاع ثلاثة كتب مسيحية عن ما بعد الحداثة،ويفترض تصميم الغلاف والعنوان ان العالم يسير الى نهايته بشكل مشوش وان بامكاننا مشاهدة ذلك بنوع من المتعه. لكن المطلع يلاحظ ان هناك شيء غير مناسب حول الاستمتاع بالنهاية الثقافية.انه موتنا-جزئيا على الأقل- وانا اعترف بأن هذه الأزمة تحصل لنا فعلاً،ليس مجرد أزمة تحيطنا. ولأننا منشغلين في  المشاريع التي تحاول ما بعد الحداثة الإطاحة بها، فلا يمكننا ان نتقبل ذلك بامتنان باعتباره  مجرد ألام احتضار يعيشها العالم. يمكننا ان نقر بانشغالنا، وندمنا وتوبتنا، لكن  ذلك لا يمنحنا مكانا مريحاً نستند عليه.اننا لا نمتلك جزيرة للثقافة المسيحية نتطلع  منها الى العالم وهو يتفكك الى قطع ، او ننطلق منها في شن هجومنا المقابل . ولكننا غير معنيين أيضا من دخول معركة الدفاع عن الثقافة .فالعائلة والعملية التعليمة مثلا، نعتبرهما من الضرورات التي أرادها الله للحياة على الأرض ويستحقان ان  نقاتل لاجلهما قتالاً حقيقياً. كذلك فان خيار الاحتضان الرؤوف لما بعد الحداثة ،قد يكون جزاُ  من الاستجابة المسيحية ، لكن هذا الخيار بذاته لا يحدد لنا مساراً للتصرف. ونظراً للشرور الخطيرة في الفكر ما بعد الحداثي ،فانه يجب ان يمضي بدون مقاومة. لكننا بحاجة الى الاعتراف بالندم عندما توجه لنا ما بعد الحداثة اتهامات مشروعة. هذه هي ((التوبة الحيادية)) التي أوصي بها.
    ان مقاومة ما بعد الحداثة قد تعني اننا لانتفهم زملاءنا وطلابنا. وحتى ان لم نهتم باتجاه هذه الأفكار ،فإننا قد نعالجها بطريقة رافضة لا تمكننا من فهمها من الداخل.القول ان النسبية تفند نفسها لن يغير الكثير من العقول ذلك ان الرأي يعتمد على فكرة المجادلة نفسها وهي فكرة غير مرغوبة أيضا. اعتقد أننا بحاجة بدلا من ذلك الى التفكير بما يعنيه القول ان طالبا ما لا يؤمن بالحقيقة والرأي. اعتقد انه يشعر بأنه لا يوجد شيء يمكن الوثوق به كحقيقة نهائية،لذلك فانه عليه ان يثق بنفسه. الأيمان بالحقيقة هو نوع من المساومة تقوم به ثقافته مع الله او الطبيعة، لكنه يشعر ألان بعدم وجود احد  في الطرف الثاني مع المساومة . والفكرة هنا هي ان النسبي يؤدي الى الانافة ( نظرية تقول بأن لا وجود لشيء غير الأنا) وان هذه الانافة لن تنجح في الحد من اللاعقلانية ،لأن وحدة الانافة هي حقيقة.
  كذلك فان العقل مابعد الحداثي يضفي الذاتية على عملية الأيمان بالعدالة المتسامية ولن يرضى بالقول ان العدالة شيء أكثر من سلطة الأقوى، وسيعتبرها كتعبير سياسي  من الزعماء الثقافيين. ولكنه رأي ينطوي على مغالطة ، لكنه رأي يتجه الى لوم كل السلطات، ومنها سلطة الله حتماً. لذا فان الناس لم يعودوا يثقون بأحكام الحقيقة والأخلاق التي كان يعتقد سابقاً أنها تعكس حكم الله. وألان (( الحقيقة و العدالة بموجب هذا الرأي ليست سوى مناورة  يقوم بها الأقوى، فان على الناس ألان ان يكونوا مراكز السلطة  والحقيقة الخاصة بكل منهم سواء على صعيد فردي أو قبلي ، ويمنحوا التخويل في ذلك لأنفسهم.
  ان فهم هذه المشاعر التي يعبر عنها المنظور ما بعد الحداثي لايعني اعتمادها ، لكنه يتطلب التأمل الجدي في مزاعمهما واذا كنا نقوم أساسا بمقاومة ما بعد الحداثة فان المخاطرة الثانية هي اننا سنفقد مرحلة مهمة من التأمل تعيشها ثقافتنا. واذا كان الطالب المؤمن بالنسبية لا يؤمن بالحقيقة لانه لا يثق بشيء خارج ذاته، اذن ما الذي يجب ان نقوم به نحن الذين نؤمن بالحقيقة؟ وهذا يعني ، انه كان رأي قيم في منظور الشخص للحقيقة فما هو الرأي القيم  الذي نقوم نحن التقليديين بصنعه؟.
   ان ثقتنا بالله هي التي تؤسس رؤيتنا العالمية وهو ما يفسر عدم استسلامنا للتفكير ما بعد الحداثي.
   عندما سمعت لأول مرة بالعبارة (( خلق حقيقتك الخاصة)) اكتشفت أنها عبارة بلا معنى لان ((الحقيقة)) بالنسبة لي هي الشيء الذي لا اخلقه بل الذي خلقت منه. فإذا لم أؤمن بأن الله خلقني،فأنني سأؤمن بأنني ظهرت من قوى طبيعية  تتجاوزني. لكن بعد دراستي الفلسفة وإطلاعي على مواقف طلابي اليوم، بدأت أدرك ان أيماني بحقيقة موضوعية هو رأي قيم، قرار عن الشيء الذي نثق به. الواقعية هي اعتقادي  ان هناك شيء اكبر من نفسي يمكن ان اعتمد عليه، وانجذب له، ومعه. والشخص الذي يتحدث عن خلق حقيقته الخاصة يكون قد حكم بعدم وجود مثل هذا الشيء ولذا فانه عليه ان يتولى هذه المسؤولية. انه يعرف بأنه لا يستطيع ان يغير مجرى النجوم ولكن فيما يخص المواضيع الشخصية، وتجربته الحياتية، ومعتقداته وأحكامه وسياساته ، فانه يشعر بأن عليه ان يختار لنفسه نوع الحياة التي سيمتلكها. انه يسلم بضرورة القانون الطبيعي للتكنلوجيا، لكنه لا يعتبره شيء أساسي بالنسبة لرؤيته للعالم.لذلك يشعر بأنه حر في الحديث عن خلق حقيقته الخاصة به.
  ان الواقعية التي أومن بها هي أساسا واقعية العلوم الطبيعية.لذلك فانا اعتقد بوجود قوانين يمكن التفكير بها والانجذاب أليها ثم التفاعل معها من اجل فائدة الحياة الإنسانية. لكن طلابي الشباب المتأثرين أكثر مني بفكر أواخر العشرين وهم يقفون عند المرحلة الأخيرة في التأمل الفلسفي لا يتبنون نفس الرأي نفس الرأي.وهم يستخدمون العلوم الطبيعية كمرادف للتكنلوجيا ،لكنهم لا يتخذون ذلك كمنظور عالمي.و هم لا يعتقدون ان العلوم تعطيهم عالم قابل للمعرفة، بل عالم قابل للاستخدام . انهم يحملون رأي هيدجر عن الوعي التكنولوجي، وحتى لو لم يكونوا يعرفون رأي هيدجر  ولا يتأملون بما قاله عن كيفية عيشهم.
    لقد سؤلت أيضا عما اذا كانت العلوم الطبيعية بذاتها قادرة على إشباع حاجتنا للحقيقة  المدركة. لكنني بقيت أتمتع بالسلام لعشرين عاما مؤمنا بوجود معنى للحياة بسبب المسيح. لقد كان كافياً ببساطة كي استمتع بالسلام وشكر الرب على هذا الكون المتقن الذي تعتمد تقنيتنا عليه بدون ان أفكر كثراً بالكيفية التي افهم الحقيقة من خلالها.
 ورغم أنني اطلعت عنوة على دراسات خطيرة في هذا المجال فان أيماني لم يهتز لكن أرائي الميتافيزيقية قد تغيرت. فعن طريق كانط والبراغماتين والنيتشين اكتشفت ان ( الحقيقة الموضوعية) كانت بنائي الأساسي. يقول المسيحيون ان الخلق هو البناء الإلهي وليس بناءنا، لكن عند هذه النقطة افترضت تبني الحذر: اننا لا نعرف بعد الكيفية  التي ستبدو عليها الحقيقة عندما نراها كما يراها الله، وربما نراها اليوم  جزئياً كما يراها الله، وكما اخترنا نحن ان نراها جزئياً،ويعني ذلك، ان لدينا رؤية مختلفة للحقيقة تجمع التوحيد مع الواقعية التي لديها جذور خارج التوحيد وهذه الواقعية ليست شيئاً أساسيا للمسيحية لكنها تتعايش معها. ويبدو لي أنها متكيفة تاريخياً لأنها موجودة أكثر في جيلي قياساً بالجيل التالي.
  أننا نميل الى التفكير بهذه الواقعية باعتبارها التفكير نفسها، لكنني اعتقد انها نوع معين من التفكير، او ما اسماه هيدجر بـ((الوعي التكنولوجي)) الذي كان سائداً في الحقيقة الحديثة وأصبح مرئياً-بسب التفكير النقدي-في الحقبة ما بعد الحداثية. يمكن ان يبقى المسيحيون ، لا سباب غير بريئة. واذ كنا نقاوم أساسا الفكر ما بعد الحداثي، فأننا قد نتفادئ مرحلة مهمة في الرحلة الفلسفية الإنسانية، الزمن الذي نصبح فيه مدركين للدوافع الكامنة وراء منظورنا العالمي، والعدمية التي تنتجها  هذه الدوافع. ان (( الوعي التكنولوجي)) او (( التقانة)) كما اسماها هيدجر هي  نوع من التفكير. انها الطريقة الإنسانية للتفكير الذي يشكل الحقيقة كمادة للسيطرة الإنسانية. وبالتالي فان الحقيقة هي مادة متحررة من القيمة. ان لدينا أغراضا  نفرضها عليها لكنها لا تفرض علينا أي غرض. انها رؤية عالمية ترفع الاستقلالية الإنسانية الى أقصى حدودها وتنتج العدمية. هناك مقدمة جيدة لفهم هذا المفهوم مثلتها مقالة  مايكل زيميرمان ((ما وراء الإنسانية)): فهم هيدجر للتكلوجيا، يشرح زيميرمان رأي هيدجر في الكيفية التي يدرك بها الإغريق الوجود والذات والكينونة والذي تم استبداله فيما بعد بادراك الكائنات ،أي الأشياء. (( الحقيقة الغريبة هي ان هناك شيء ما وليس لاشيء ، ان الكائنات قابلة نوعاً   للوصول الى الإنسان، وهذه الحقيقة يتم تجاهلها)). تمضي التقانة فعلاً بالاعتماد على فكرة ديكارت.ففي سعيه لليقينية بمعزل عن السلطة جعل من الإنسان المحدد لما هو حقيقي.والآراء الميتافيزيقية تعكس اختيارات الناس غير الآمنة حول المكان الذي ينبغي ان يضعوا ثقتهم فيه، وديكارت قادنا باتجاه الثقة بأنفسنا التي غيرت رؤيتنا للعالم. وأصبحت الحقيقة هي ما يمكن السيطرة عليه. وكما يخبرنا زيميرمان: ((بالنسبة للإغريق كانت حقيقة الشيء هي وجود دائم . وبالنسبة لإنسان العصر الوسيط ، فان الوجود كان حتمياً بالنسبة للحقيقة : الوجود المطلق للإله حافظ  على وجود كافه مخلوقاته. مع ديكارت اكتشفت حقيقة النظام الكوني المتناغم بأكمله كوجود ، لكن كشيء موجود للذات المتأكدة من ذاتها (الإنسان).الكينونة كانت تعني ان يتم إدراك من خلال الذات. وعن طريق الذات وان تبقى بمواجهة الذات . كل شيء يغدو محدداً ومقيماً من وجهة نظر الإنسان.
  لقد كانت رغبة ديكارت هي المعرفة الأكيدة لكن الطريقة لذلك كانت إدراك الحقيقة ،كشيء يمكن معرفته بشكل مؤكد .لذا فان المنهج الابستمولوجي أظهر تأثير ميتافيزيقيا ، وكما يرى زيميرمان فان (( الكون يقف ألان مكشوفا كمجال للطاقة قابل للإحصاء الكمي حسابياً موجود كموضوع للذات)). وهذا هو (( فجر عصر التكنلوجيا، وينبغي ان يكون واضحاً ان ماهية التكنلوجيا ليست شيئاً تقنياً. بل هي حقيقة  ان كينونة او حقيقة الأشياء قد اكتشفت كشيء قابل للعد،وعقلاني بشكل تام (حسابي)، وبالتالي يمكن ان يخضع للسيطرة)).
  هذا الفهم للتجربة الإنسانية الحديثة هي جزء من التحليل العدمي. والقسمة الخالية من القيمة واللالاهوتية للحقيقة هي  نتيجة لموقفنا المسيطرة الجذري تجاهها.فإذا كنا نحن المؤمنين لا نكافح العدمية بمنظورنا العالمي، فان هذا التفكير بمصدره قد لا يكون مهما لنا.
   لكن ربما نحن نعيش مع العدمية في حياتنا اليومية. وربما تكون تجربتنا في العبادة محدودة ومحاطة بالممارسات الدينية بسبب الطريقة التي اعتدنا من خلالها ان ننظر الى العالم تحت  سحر التقانه.
 لايمكن ان تكون التكنلوجيا شيئاً،فلم تعد الحياة الإنسانية ممكنة دونها، لكن اذ كانت التكنلوجيا تمنحنا عالمية فأننا قد نحتاج عندها لأن نتصارع حول الكيفية التي يتلائم فيها ذلك المنظور العالمي مع المنظور الذي أظهره الله لنا.
 وادعي اننا نحتاج الى نوع من الشك النيتشوي.اننا نقدم لطلابنا رؤية عالمية مليئة بالحقيقة والكثير من اليقينيات  المركبة، ونحن نقدمها كبديل للرؤية العالمية التي يكون فيها كل شيء مجرد لعبة سلطة. اعتقد ان نيتشه أحس بالتدين  المتطرف او التقييد الحرفي أو العقلية المزدوجة الموجودة على الدوام في الكنسية،واعتقد ان هذه هي القصة بأكملها،أنها ماهية الكنيسة. ويعني ذلك ان نيتشة هو مخطئ في النهاية، ولكن لا ينبغي ان نتجاهل  انتقاداته لاننا قد نكون مشتركين في الظواهر الخاطئة التي عابها على المسيحية.
  نحن نقول ان الله وهبنا قوانين الطبيعة، او انه عبر عن نفسه من خلال هذه القوانين ، اذن فاننا نستطيع ان نتفاعل بنجاح مع الطبيعة. لكننا قد نخطئ عندما لاندرك ان الله وهبنا ايضا بقاءنا وليس فقط القوانين التي نستخدمها من اجل البقاء. والبرهان على ذلك هو ان الله قادر على إيقاف بقاءنا رغم كل التكنولوجيا التي نمتلك..لدى نيتشه بديل فهم لهذا الرأي .اسمه (( التشاؤمية المعرفية)) وهي ليست نوع من التشكيكية ، ان نيتشه لم يكن متشائماً حول مسألة ، ما اذا كانت أفكاره تتطابق مع العالم الحقيقي او تنسجم مع كافة الأفكار  الموجودة ،لقد فهم المعرفة ليس باعتبارها رابطة بالموضوع بل باعتبارها محاولة للقيام بشيء. ان الدوافع الإنسانية تنتج المكونات نسميها بالحقيقة الموضوعية، والتشاؤمية المعرفية تتعامل مع هذه الدوافع مع ما نحاول ان نفعله. المعرفة هي محاولة لإقامة علاقة سلطة مع العالم وطريقة للتعامل معه. وتشاؤمية نيتشه تكمن في استنتاجه بأنه لا يمكن عمل شيء تجاه ذلك، باستثناء  سيطرة جمالية ممكنة.العالم يجب ان يؤكد هذا الأمل بالسيطرة ، لكن نيتشة يشعر بالفهم بعيد المدى لكل أنواع التكنلوجيا. وللمعرفة المدركة تكنلوجياً، يكتب نيتشه في (( ما وراء الخير والشر)) ان (( المفسر الجديد)) قد يجد ان للعالم ((ضرورة )) ومسار(( قابل للتنبوء)) ليس بسبب القوانين الكامنة فيه بل لغياب هذه القوانين بشكل مطلق.. ويشير هيدجر (( الفوضى الضرورية للصيرورة الأزلية)) والى الفكرة الأكثر جهنمية ،في انه عالم لايمكن فعل شيء معه. وبهذه الرؤية فان المكونات المقننة التي نستخدمها للتعامل مع الحقيقة ليست هي الحقيقة الفعلية، واذا كان الكون يفتقر للقوانين فاننا لن نعرف عندها كيف نتفاعل بنجاح  معه.
 بالطبع ان نيتشة ادرك بأن التكنولوجيا هي تفاعل ناجح مع عالم مقنن لكنه لم يكن خاضعاً لهذه القدرة وحافظت تشأوميته على الاعتقاد بحقيقة ان التكنلوجيا في المدى البعيد لاتحل المشكلة الإنسانية. انها لا تستطيع ان تتجاوز الموت.ان بامكاننا ان نقوم بأشياء محدودة، لكن في النهاية لن يعطي العلم معنى للعالم.
  ويبدو ذلك ان ذلك شيء سلبي للمسيحيين الذين يمجدون الله على وجود عالم مقنن. ولكن اذا كنا ندرك ان المعرفة التكنولوجية هي محاولة منا لفهم عقدة العملية وبالتالي يجعل الكون يسير بالاتجاه الذي نريد، فان بامكاننا ان نعترف مع نيتشه ان هذه المحاولة ستكون عقيمة في المدى البعيد. لقد أراد نيتشه وهيدجر طريقة أخرى في معرفة العالم ،جمالياً، وللمسيحيين طريقة أخرى في معرفة الحقيقة روحياً، وهي تتطلب أيضا التخلي عن مهمة البقاء.
  اذا كان منظور العالمي تكنلوجياً فاننا سنقول بان العالم قابل للإدراك والفهم وهو ما يعني أننا نستطيع معالجة . اننا نؤمن جزئياً بإمكانية السيطرة عن طريق التفاعل المقنن. ونحن نفهم العلاقات الشرطية التي يحتويها العالم وهي تعطينا بعض القوة،  والقبول بالتشاؤمية النيتشوية يعني الاعتراف بعدم وجود قيمة نهائية لذلك كله. هذه التشاؤمية لا تبقينا أحياء ولا تشبع حاجاتنا الحقيقة.
 التوبة الابستمولوجية هي اعترف بأننا نضع ثقتنا بالحقائق المشكلة، وخلافاً للنيتشويين، يتوفر لدينا طريق التوبة الفعلي لأننا نثق باله شخصي وخير.وأدعو هنا الى اتخاذ موقف سلبي من التكنلوجيا ، بل أقول اننا نفصلها عن المعرفة الروحية. ان البحث عن عالم مدرك أدى الى الخلط  بين محاولتنا للسيطرة وبين عبادتنا المحتملة ، واذا ما قمنا بالفصل بينهما فبامكاننا ان نستخدم التكنلوجيا ونستمتع في ذات الوقت بالعبادة.
 بداية هذا العام شاركت في مؤتمر عن (( الطبيعة، والتوحيد، والمشروع العلمي))، في اوستن، وقلت في ورقة قدمتها ان الموحدين الذين يبحثون عن  الأصول يميلون الى تحويل الله الى عله  كافية في نظامهم القائم على الإدراك العلمي، وأشرت بدلاً من ذلك إلى ان الأيمان بصورة الله هو رأي قيم عن الحقيقة وليس طريقة لاستكمال التفسير العلمي. ان استخدام الله في تفسير علمي يعني جعل موضوعه متلائم مع بناءنا، مما يشعرنا بالقوة، أنها محاولة لتوسيع طريقة التفكير المصممة من اجل التطبيق المحدود للتكنولوجيا مع منظورنا العالمي.
وافترض في هذه الورقة ان ذلك المنظور يحجم من التجربة العبادية لدى المسيحيين.
 ان تفسير شيء يعني القول لماذا يكون هذا الشيء حسن بطريقة وسيء بطريقة أخرى. لقد انتبه سقراط الى مجي الفكر التكنولوجي، لكنه قاومه مفضلاً نظريته عن الأشكال . الشيء عنده جميل لانه يشترك في الجمال المطلق. لذا فان مثل هذا ((التفسير))) للشيء  عظيماً اذا كنا نريد ان نؤكد الخير الذي يتجاوزنا ، ففيما يتعلق بأصل الكون والحياة ليس هناك الكثير مما نفعله.. انه شيء ذو معنى ان نفكر بادراك العالم من ناحية خيريته، وان نتخلى عن التفكير العلمي الذي نستخدم لتعزيز أنفسنا في زوايه صغيرة من العالم. الحقيقة المتسامية قد لا تكمن في تلك اليقينيان التي نتبعها، بل في الله الذي نعبده والذي لايمكن معرفته من طريق التفكير التكنولوجي وعندما (( نعرفه)) بالقوانين العلمية والمنطق، فأننا نخلط حبنا له بمحاولتنا للسيطرة.

[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب