الحياة مسرح كبير، ونحن جميعًا أبطال على خشبته، نؤدي أدوارنا بين قوى متضادة تشكل ملامح وجودنا. وفي هذا المشهد المعقد، يتأرجح الإنسان بين الانتماء الذي يمنحه الجذور، والارتماء الذي يسلبه هويته. وبين هاتين الحالتين، يتولد صراع داخلي لا يهدأ، حيث تتنازعه الرغبة في الثبات والاحتواء، والخوف من الضياع والذوبان في الآخرين.
الإنسان، بطبيعته، يبحث عن معنى، عن مكانٍ له في هذا العالم، عن أمان وسط الفوضى، عن دفءٍ في برد الحياة القاسي. لكنه في رحلته للبحث عن هذا الأمان، قد يجد نفسه ممزقًا بين حاجته للانتماء وخشيته من أن يتحول هذا الانتماء إلى قيدٍ يقيده أو يحرمه من فرديته. وهنا يبدأ الصراع الأبدي الذي يرسم ملامح حياته. الانتماء ليس مجرد شعور، بل هو احتياج عميق متأصل في النفس البشرية. منذ اللحظة الأولى التي يفتح فيها الإنسان عينيه على هذا العالم، يبحث عن حضن يحتضنه، عن يدٍ تربت على كتفه، عن كيان يستمد منه قوته. الأسرة، الوطن، القيم، الثقافة، المبادئ… كلها تشكل أوجه الانتماء التي تمنح الإنسان هويته، وتجعله يشعر بأنه ليس وحيدًا في هذا الكون الشاسع.
حين ينتمي الإنسان إلى شيء ما، فإنه يستمد منه القوة والدعم، يشعر أن هناك جذورًا تمتد في أعماقه، تمنحه الثبات في مواجهة العواصف. الانتماء يمنحه الشعور بأنه جزء من كلٍّ أكبر، وأنه ليس مجرد عابر سبيل في هذا العالم، بل له دور ورسالة.
ولكن، هل كل انتماء صحي؟ أليس هناك انتماءات تخنق الروح بدل أن تمنحها الحياة؟
الجواب نعم، فهناك انتماءات قسرية تُفرض على الإنسان، تجعله يذوب في الجماعة حتى يفقد فرديته. هناك انتماءات تفرض عليه قيودًا صارمة، تحد من تفكيره، تجبره على اتباع القواعد دون أن يكون له حق التساؤل أو الاعتراض. وهنا يتحول الانتماء إلى سجن، إلى قيد يكبل الحرية، بدل أن يكون سندًا يعززها.
على النقيض من الانتماء الواعي، هناك الارتماء، ذلك الاستسلام الأعمى الذي يجعل الإنسان يفقد إرادته في سبيل أن يكون جزءًا من شيء ما. أحيانًا يكون الارتماء نتيجة الخوف، وأحيانًا نتيجة ضعف، وأحيانًا بسبب رغبة ملحة في الشعور بالقبول والانتماء، حتى لو كان ذلك على حساب الذات.
الارتماء هو أن يعيش الإنسان وفق إملاءات الآخرين، أن يذوب فيهم حتى لا يبقى له لونٌ خاص، أن يتخلى عن صوته كي لا يكون نشازًا وسط الجوقة. وهو، وإن كان يمنح صاحبه شعورًا بالراحة المؤقتة، إلا أنه يسلبه جوهره ببطء، يجعل منه مجرد ظل، مجرد نسخة باهتة من الآخرين.
كم من شخصٍ ألقى بنفسه في أحضان أفكارٍ لم يؤمن بها حقًا، فقط لأنه خاف أن يكون وحيدًا؟ وكم من إنسانٍ خسر نفسه حين ارتضى أن يكون تابعًا بدلاً من أن يكون حرًا؟
قد يبدو الفرق بين الانتماء والارتماء واضحًا، لكنه في الحقيقة خيطٌ رفيع يفصل بين النور والظلام. ففي كل خطوة يخطوها الإنسان نحو الانتماء، هناك خطرٌ كامن بأن يتحول هذا الانتماء إلى ارتماء غير واعٍ. وفي كل محاولة للتحرر من الارتماء، هناك خطرٌ بأن يجد الإنسان نفسه منفيًا، بلا هوية أو جذور.
التحدي الحقيقي هو أن يجد الإنسان ذلك التوازن الدقيق، أن يكون قادرًا على الانتماء دون أن يذوب، أن يكون جزءًا من شيء أكبر دون أن يفقد ذاته. أن يمسك بيده جذوره، لكنه لا يسمح لها بأن تقيّده عن الطيران حين يشاء.
لكي لا يقع الإنسان ضحية للارتماء، عليه أن يسأل نفسه دائمًا:
إن كان الجواب نعم، فذلك انتماءٌ صحيّ يمنح الروح قوتها. وإن كان الجواب لا، فقد يكون الإنسان قد انزلق دون أن يدري إلى الارتماء، حيث يفقد نفسه ببطء دون أن يشعر.
في النهاية، مسرح الحياة لا يقدم لنا سيناريوهات جاهزة، بل يترك لنا حرية اختيار أدوارنا. لسنا مجبرين على الارتماء في شيء لا نؤمن به، ولا على الانتماء لما يسلبنا حريتنا. نحن قادرون على أن نصنع لأنفسنا انتماءً خاصًا، انتماءً يمنحنا القوة دون أن يقيدنا، يمنحنا الجذور دون أن يمنعنا من التحليق.
الحياة رحلة طويلة، وأجمل ما فيها أن نعيشها بصدق، أن ننتمي لما نؤمن به حقًا، وأن نرفض الارتماء في ما يسلبنا ذواتنا. فكن أنت، حتى في عالم يحاول أن يجعلك نسخة من الآخرين. كن أنت، لأن لا أحد يستطيع أن يكون مكانك في هذا المسرح العظيم.