18 ديسمبر، 2024 6:04 م

كان صديقي سامح وهو شاب في حاصل على الماجستير في علم النفس، يحلم بدولة مدنية يتساوى فيها الجميع امام القانون ويحترم فيها أصحاب الكفاءات والشهادات.
عمل سامح بجد واجتهاد في النشاطات المدنية مع منظمات حقوق الآنسان، لبث الوعي المدني وزرع ثقافة الاختلاف وتقبل الآخر. لكن طاقته نفدت ولَم يعد يرى ان ثمة أمل في التغيير، لذلك قرر الهجرة ولكن هناك جزئية مهمة يجب ان اذكرها وهي ان سامح ينتمي للصابئة المندائيين، وما اكتشفته هو وجود جالية عراقية من الصابئة في استراليا! في مؤشر على هجرة مستمرة لابناء هذه الديانة دون ان ينتبه لذلك الإعلام او الحكومة !
الصابئة المندائيون لمن لا يعرفهم او كون عنهم صورة نمطية، هي ديانة قديمة يعيش اتباعها قرب ضفاف ودجلة، تعايشت مع سكان المنطقة بسلام، اشتهروا بالعمل في صياغة الذهب والفضة، ويعرفون بين الناس المحليين “بِالصَّبْة” اما هم فيعرفون أنفسهم بأنهم “مندائيون”.
كما انهم أهل علم وفن واخرجوا لنا شخصيات علمية وثقافية محترمة أبرِّزهم العالم عبد الجبار عبد الله، والمترجم غضبان رومي والشاعرة لميعة عباس عمارة (رشيد الخيون؛ 2106)
صورة الصابئة في الثقافة الشعبية تعبر عن مدى العنف الرمزي والاقصاء الاجتماعي الذي يتعرضون له فهم بعين المجتمع المحلي “انجاس” رغم انهم اكثر من يهتم بالماء والطهارة وهذان امران لا تهاون فيهم لدى الصابئة، اضافة الى ذلك هم موحدون للذات الإلهية، ولفرط رقتهم يعتذرون ويستغفرون بعد ذبح الطير او الحيوان.
تعرض الصابئة الى حملات تكفير واتهامات بارتكاب الزنا والسحر، ولذلك اصدر شيخ الطائفة المندائية (ستار جبار الحلو) بيانا بعد سقوط النظام البائد، وهو بمثابة نداء الى المجتمع العراقي والدولي أشار فيه الى الاعتداءات المبرمجة يتعرض لها الصابئة المندائيين من قتل وسلب وتضييق على الحريات.
بعد كل هذا من الطبيعي ان يهاجر سامح وغيره من الأقليات الدينية لأنهم يعيشون في بغداد التي اختيرت أسوأ مدنية للعيش! لانها كما يقول الروائي العراقي أحمد سعداوي ” لكي تعيش فيها عليك ان تتنازل كل يوم عن فرديتك ومزاجك الخاص ولونك الذي يميزك لكي تغطس في اللون الموحد الأمن” في إشارة الى رفض المجتمع للاختلاف والتنوع والتعدد وعدم القدرة على استيعاب ذلك يرجع لأسباب تاريخية وثقافية وسياسية.
الصابئة وغيرهم من الأقليات الأثنية عليها ان تتدرع بدرع العشيرة والطائفة والميليشيا لكي تعيش في مجتمعنا، وهذا ما رفضته او ما لم تستطع التكيّف معه.
هجرة المندائيين تمثل خطرا عليهم وعلى العراق لانه يفقد طيفاً حيوياً مهماً من اطيافه الاجتماعية.
هجرة الأقليات هي صرخة احتجاج على تراجع القانون أمام الجماعات الفرعية، وغياب مفهوم المواطنة.
خروجهم هو جرس إنذار يجب ان ننتبه له لنعيد النظر في النظام السياسي والاجتماعي القائم على المحاصصة، ونتجه نحو نظام مدني محايد دينيا يعتمد على المواطنة والمساواة واحترام حقوق الانسان.