26 ديسمبر، 2024 6:38 م

التنوع الثقافي والتنمية البشرية في الاقليم

التنوع الثقافي والتنمية البشرية في الاقليم

التنوع الثقافي :واقع وتطلعات
التنوع الثقافي في الحضارات القديمة
ليس ممكنا الحديث عن مجتمعات تخلو تماما من تنوع ثقافي،وفيما لو وجدت مثل هذه المجتمعات التي تخلوا من التنوع فهي ليست سوى ضربا من الخيال،أو انها مجتمعات كانت فيما مضى عند مراحل متقدمة جدا من عمر البشرية .

التنوع يعني ثراء في الروافد الثقافية للمجتمعات يمنحها قوة وخصوصية وحيوية، ولن ينتقص التنوع من اهميتها ومكانتها فيما لو قورنت مع مجتمعات اخرى تبدو لنا للوهلة الاولى ــ على الأقل ظاهريا ــ انها مجتمعات لايشكل التنوع فيها سمة اساسية تستحق التوقف عندها .

تاريخيا،رافق التنوع اولى الحضارات البشرية،ومنها حضارة وادي الرافدين على سبيل المثال،التي جمعت في محطاتها تاريخية من عمرها عديد الشعوب التي تنتمي الى اجناس مختلفة، كما في الامبراطوية الاشورية،نتيجة انتصاراتها العسكرية التي التي امتدت على مساحات حتى وصلت حدود الامبرارطوية الفرعونية غربا والخليج العربي جنوبا،فتتداخلت فيها شعوب وثقافات مختلفة ضمن الامبراطويات الكبيرة .

التنوع الثقافي في حضارتنا المعاصرة

اليوم تبدو لنا صورة المجتمعات عبارة عن خليط من الاجناس،اي تنتمي لثقافات وبيئات وحضارات متنوعة،هذه الصورة تبدو واضحةللعيان.

إلاَّ اننا ينبغي أن نؤكد على أن التنوع الثقافي،الناتج عن تنوع المكونات،يبدو اكثر فاعلية وحضورا في مجتمعات تتسم بالانفتاح ،حيث التأثير المتبادل وعبر حوار حيوي نجده شاخصا في تفاصيل الحياة الصغيرة للبشر وليس مقتصرا في المؤتمرات التي تلتقي فيها النخب ذات التنوع الثقافي،وهذا يعود الى طبيعة النظام السياسي القائم على احترام وتقديس التعددية ولنا في هذا كثير من الامثلة كما هو الحال في عدد من الدول الاوربية مثل السويد والنرويج والدانمارك وغيرها من البلدان .

بينما على العكس من ذلك نجد نقيض هذه الصورة في مجتمعات تكان ان تكون سمتها الرئيسة الانغلاق على ذاتها، وشيوع مشاعر الريبة والشك والكراهية تجاه الشعوب والمجتمعات الأخرى خارج دائرة حدودها الجغرافية،نتيجة خضوعها لأنظمة سياسية تتسم عادة بالقمع والشمولية والتعصب القومي، فكان لها الاثر الجوهري في ان يكون مواطنوها بهذه الصورة من التقوقع على ذواتهم ازاء الآخر،والامثلة هنا ايضا كثيرة جدا سواء في منطقة الشرق الاوسط او في مناطق اخرى من اسيا وافريقيا .

وبناء على ذلك يجد التنوع الثقافي فرصته في الظهور والحضور المؤثر،كلما وجد بيئة منفتحة،تتيح له التعبير والتواجد والتفاعل .

ولكي تصبح هذه البيئة سياقا عاما للحياة،ينبغي ان تتوفر لها جملة من الاحكام والقوانين،تنظِّم عملية التعايش والتفاعل الانساني بين المكونات،بدونها يصبح مستقبل التنوع محفوفا بجملة من المخاطر،قد يتعرض بموجبها الى القمع والضمور.

ونظرا لما يتمتع المجتمع العراقي من تنوع كبير في مكوناته،تبرز قضية التنوع الثقافي في العراق الى مقدمة القضايا من حيث الأهمية التي تفرض تحديات حقيقة

أمام المجتمع بفعالياته الثقافيةاضافة الى الدولة بكل مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية،وحتى هذه اللحظة لايبدو لنا ان هنالك رؤية واضحة حول هذا الموضوع ، طالما لم نجد على الارض فعاليات وممارسات جدية تضطلع بها الدولة ومنظمات المجتمع المدني في تكريس هذه الرؤية فيما لو سلمنا جدلا انها حاضرة .

الانظمة السياسية والتنوع

تاريخيا نجد أن التنوع الثقافي في المجتمع العراقي شابه كثير من الضرر والاذى بسبب السياسات التي كانت تنتهجها انظمة الحكم التي تعاقبت على ادارة الدولة العراقية منذ تأسيها عام 1921 ،وإن كان ضررها بدرجات متفاوتة بين نظام وآخر.

وهنا بهذا الصدد،لابد أن نشيرإلى أن الثقافة العربية كانت هي المهيمنة والسائدة ،خاصة في الاطار الرسمي(في المدراس والمؤسسات الحكومية والمطبوعات،الى غير ذلك من اليات التعبير والافصاح الثقافي)مقابل شبه غيابٍ لبقية الثقافات الاخرى مثل:الكوردية والسريانيةاضافة الى بقية الثقافات الاخرى التي تعكس ذاكرة اقليات ومكونات اصيلة في بنية المجتمع العراقي كالايزيدية والصابئة والشبك. واسباب ذلك لاتعود إلى أن العرب يشكلون اغلبية سكانية،إنما يعود أُسْ المشكلة الى شيوع الافكار الايدلوجية السياسية القومية التي تُعلي من شأن كل ماهو عربي، مقابل إهمال كل ماله صلة ببقية المكونات الاخرى.

هذا النمط من الفكر القومي المنغلق،كان سمة عامة وغالبة لعقائد الاحزاب العاملة أو الحاكمة في المنطقة العربية ومنها العراق،والتي كانت تعيش ــ انذاك ــ عصرها الذهبي،ابتدأ من مطلع القرن العشرين وحتى نهايته التي شهدت افول نجمها لتحل بدلا عنها احزاب دينية يشكل التخندق الطائفي المذهبي سمتها الجوهرية،وهذه الاحزاب ــ هي الاخرى ــ زادت من خطورة الأمر على التنوع الثقافي وشلل الحوار بين الثقافات المتنوعة في مجتمعاتها،ذلك لأنَّ ايدلوجية هذه الاحزاب لاتعترف في مبادئها ومنطلقاتها الفلسفية بالخصوصيات والثقافات المتنوعة للمجموعات البشرية، مقابل اعترافها بالهوية الدينية المذهبية فقط.

من هنا يمكننا القول بأن الفكر بشكله القومي والديني على حد سواء،عندما يتحول الى ايدلوجيات حزبية وسياسية يتحول بالنتيجة الى وقود للصراع وليس للحوار ،ويحيل الحياة الى ساحة حساسة جدا قابلة لاشعال الحرائق تحت اقدام الجميع،انها ــ اي الاحزاب القومية والدينية ــ تعجل في امكانيات الاحتدام مع الآخر بأعتباره كيانا آخر،منفصلا عن الآخر في بنيته الثقافية،التي تشكلها عوامل جوهرية ابرز علاماتها :القومية والدين والمذهب .

الخطورة لاتكمن في الانفصال بين(الأنا والآخر)على اعتبارات:القومية والدين والمذهب،بقدر ما تكمن في الانفصال الوجداني،الذي تكرِّسهُ وتنظِّمهُ وتؤطِّرهُ وتخندِقهُ المنظومة الايدلوجية،بوجهيها القومي والديني في نسيج الممارسات والسلوكيات والمواقف داخل البيئة الأجتماعية،لتكون نتيجتها الحاق الضرر الأكبر في المساحات التي يمكن أن يتحرك فيها التنوع والحوار الثقافي داخل مفاصل واوجه الحياة الانسانية .

وفيما لو افترضنا حسن النيّة كانت متوفرة لدى بعض الانظمة التي سبق أن حكمت العراق خلال القرن الماضي في أن تسلك ماهو اقرب الى الانصاف ــ كما يبدو ذلك نظريا ــ في سياساتها تجاه الثقافات الاخرى التي تشكل هوية الاقليات والمكونات للمجتمع،إلا أننا نستطيع بهذا الصدد أن نجزم بالغياب شبه التام لستراتيجيةٍ واضحةٍ بهذا الصدد،تملك منظومتها الفكرية،وآلياتها التي تستند إليها في التعامل مع هذه الموضوعة بالشكل الذي يحافظ على التنوع والحوار الثقافي المتبادل،ويزيح من امام المكونات الثقافية كل عوامل الخوف والقمع ،مثلما هو الحال مع تلك القرارات التي كانت قد صدرت لإنصاف بعض المكونات الثقافية المختلفة التي يتشكل منها المجتمع العراقي،مثل قانون منح الحقوق الثقافية للناطقين باللغة السريانية،الذي صدر في مطلع سبعينات القرن الماضي،والذي لم يكن سوى حبر على ورق،طالما غابت عنه الخطوات العملية التي تؤكد حضوره على ارض الواقع بشكل جاد،وهذا يعود إلى أن الهدف من اصدار مثل هذه القرارات كان بقصد تحقيق اغراض سياسية مرتبطة باأزمات واختناقات سياسية واجتماعية يعانيها النظام القائم انذاك

فكانت تلك القرات بمثابة سبيلا للخروج او التخفيف منها،اكثر مما كان تهدف الى فتح الابواب امام الثقافة السريانية لكي تتحرك آليات عملها الثقافي .

هذا المبدأ لم يقتصر بطبيعة الحال على الناطقين باللغة السريانية بل تعدى ذلك ليشمل كافة المكونات التي يتشكل منها المجتمع العراقي وفي مقدمتها الثقافة الكوردية التي بقيت معزولة تماما عن محيطها العراقي،على الرغم من أن الكورد يشكلون النسبة الثانية من حيث العدد بعد العرب في إطار الدولة العراقية،ويمكننا هنا أن نشير إلى قضية مهمة جدا ليس صعبا تلمسها مجتمعيا وذلك بانعدام الحوار والتفاهم والتواصل مابين الثقافتين العربية والكوردية عبر اللغة الكوردية،مابين العرب والكورد،واقتصار التفاهم عبر اللغة العربية فقط،وهذا مايمنحنا ابلغ صورة على التعالي والتجاهل والقمع الذي تسببت به سياسات الانظمة التي حكمت الدولة العراقية جميعها دون استثناء.

التنوع الثقافي بعد العام 2003

هنا يطرح سؤال جوهري:هل حصل ماكنا نتمناه من تغيّر في الرؤى والمناهج والسياسات ازاء قضية التنوع الثقافي بعد العام 2003 ؟

للوهلة الأولى يبدو وكأن هنالك تصالحا مع الذات قد بدأ يفرض حضوره،خاصة وان الاصوات باتت تعلوا وتكشف عن نفسها وخصوصيتها في التعبير واللفظ .

هذا التحول لايمكن تجاوزه أو انكاره،فهنالك مطبوعات وكتب واصدارات اضافة الى القنوات الاعلامية الاخرى، كما هو الحال مع البث الفضائي الذي يعكس هذه الحقيقة،فقد امست أدوات الاتصال والتعبير مفتوحة امام التنوع الثقافي لكي يكشف عن مكنوناته .

لكن مازال هنالك طريق طويل لكي تتحقق الاماني الكبيرة على طريق التنوع الثقافي كما ينبغي،بعد أن تترسخ قيم الديموقراطية في منظومة الحياة،ويبدو لنا صعوبة هذا المسار،طالما نواجه في حياتنا اشتداد نبرة التطرف الديني،التي باتت

تعلن عن نفسهاهنا وهناك، وهذه علامة بلاشك على صعوبة المسار امام مايواجه قضية التنوع والحوار الثقافي .

تصحيح المفاهيم

ولكي يكون المسار صحيحا ينبغي اولا تصحيح الفهم الخاطىء حول قضية التنوع الثقافي،فقد شابت الرؤية الجمعية بعد العام 2003 والمتعلقة بهذا المفهوم كثير من الفوضى،بالشكل الذي اصبح هنالك خلط كبير بين ماهو ثقافي وماهو سياسي،الى الحد الذي تسببَ في الحاق ضرر كبير للمفهوم ذاته مِن قبل المكونات والاقليات ذاتها التي كانت متضررة طيلة العقود الماضية،حتى بدت الصورة بسبب هذا الخلط وكأن البلاد ماضية الى التمزق .

الخطأ هنا يكمن في سَحب ماهو سياسي من حيث المفهوم الى ماهو ثقافي وبالعكس،حتى بدا وكأن المسألة ليست سوى قضية صراع على المناصب والحصص السياسية بأسم المكونات،وليس تأكيدا على الهوية الثقافية وحضورها وفاعليتها في تشكيل الوجدان الفردي والمجتمعي ضمن اطار الدولة والمجتمع بهويته الوطنية.حتى اصبحت قضية المكونات بتنوعها الثقافي لا تُطرَح على اعتبارها قضية هوية ثقافية،بقدر ما اصبحت تطرح على انها جزءا من المعركة السياسية بين المكونات الثقافية ــ كل واحدة منها ضد الأخرى ــ سعيا للحصول النفوذ والمكاسب والمناصب السياسية،في محاولة حثيثة لكل مكون ثقافي التعويض عن سنوات القمع والحرمان التي مرَّ بها.وبتقديرنا المتواضع هنا تكمن الاشكالية في هذا الموضوع،ومن هنا تأتي الاسباب الجوهرية التي تقف وراء مازقنا الأجتماعي/الثقافي الذي يبدو لنا وكأنه قد وصل الى مرحلة الانسداد نتيجة هذا الخلط في المفاهيم.

التنوع الثقافي في الاقليم

بالنسبة لي كان تجربة العيش الشخصية منذ العام 2006 في اقليم كوردستان،تملك خصوصيتها،نظرا لانني قد انتفلت فيها من عالم الى عالم آخر له ملامحه الخاصة الثرية،بجوانبها الانسانية التي تنبثق من تنوع الروافد والخصوصيات الانسانية التي

تشكل ثقافته،رغم انني لست غريبا عن مثل هذا التنوع في بيئتي الاولى داخل مدينة الموصل وفي الحي الذي ولدت وعشت فيه طيلة حياتي،فالمنطقة السكنية التي نشأت فيها وتُعرفُ بمنطقة خزرج،تقع في وسط الموصل القديمة،ويشكل المسيحيون فيها ثُقلا مُهماً،اضافة الى الكورد والتركمان والايزيدية،فكانت تتعايش في تلك البيئة عائلات متنوعة الاعراق والديانات والقوميات،من هنا تفتحت ذاكرتي على هذا التماهي والتفاعل بين ثقافات متنوعة،لذا لم اجد غرابة عندما انتقلت للعيش في اربيل،فتكاد ان تكون هنالك الكثير من المشتركات مابين البييئتين.

ان التنوع كانت سمة غالبة وطاغية على المجتمع العراقي،وبتقديري لم يكن يحمل هذا المجتمع المتنوع عوامل الاحتدام والتنافر الشديد،مثلما كانت تحمله الانظمة السياسية التي توالت على حكم العراق،والتي اخطأت جميعها في التعامل مع موضوعة التنوع الثقافي،فبدلا من ان يكون في فلسفتها طاقة ايجابية في التواصل والبناء،كانت تنظر اليه من منظار ضيق،ولهذا كانت النتيجة كارثية بعد العام 2003 ،عندما انفجرت الاحلام والتطلعات الثقافية المكبوتة لدى مختلف المكونات دفعة واحدة،بالشكل الذي ذهبت فيه الى مسار هو اقرب الى التطرف في الرؤى والتطلعات منه الى التصور الواقعي.وهذا يعود بالتالي في اسبابه الى تراكمات الاخطاء التي خلفتها سياسات الانظمة السياسية التي تعاقبت على حكم العراق ازاء التنوع الثقافي في المجتمع العراقي .

خلاصة القول

إن التنوع الثقافي،لكي يبقى عاملا فاعلا ومؤثراً في بنية المجتمية الكوردستاني ينبغي اضافة الى ماهو قائم من حضور مشرق،العمل على تأطير هذا الحضور في اطار عمل مؤسساتي مُشرعَن بقوانين يقرها الدستور،وأن لاتبقى في اطار العمل والجهد الفردي الذي يخضع للظروف،وان يكون محكوما باليات مؤسساتية تجعله جزءا من بنية المجتمع ومؤسسات الاقليم الرسمية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات