23 ديسمبر، 2024 11:39 ص

التنميط الغربي للتاريخ العربي

التنميط الغربي للتاريخ العربي

ليس هنالك منصف ، على جبهتي الفالق العربي والإسلامي ، من ينكر الدور المشهود للعالم الغربي في الكشف عن كنوز ومطمورات العالم العربي ؛ إن في مجالات التاريخ والحضارة أو في حقول العلوم والمعارف ، بعد إن علاها صدأ الإهمال في مواطنها الأم ، وطوتها صفحات النسيان في بيئاتها الأصلية . كما لا يوجد من يتنكر لإسهامات علمائه وجهود مفكريه ، الذين قدحوا زناد ستتايم وعيهم وشحذوا أزاميل عدتهم المعرفية ، لإماطة اللثام عن الأصول التكوينية للمجتمعات والأرومات الإبداعية للعقليات ، التي كان للعرب قصب السبق في التعبير عن نزوعها والتدليل على إرهاصاتها ، وهو ما لم يتوانى الغرب في اقتفائه لاحقا”لأثر تلك الخطوات الجريئة والمبادرات الجسورة ، ومن ثم تلقفه لمعطياتها واستلهامه لنتائجها في الميادين كافة ، لكي يبني صروح حضارته المدنية ، ويشيد قواعد نزعته العقلانية ، ويؤسس لمنطلقات سطوته العلمية . وبمحاذاة هذه (الفضائل) التاريخية والحضارية ، هناك ما يفوقها من رذائل سياسية ونوازل اقتصادية وزلازل اجتماعية ، كان للغرب اليد الطولى في إشاعة مآسيها وتعميم فواجعها داخل بنى مجتمعات العالم الثالث بشكل عام والوطن العربي على نحو خاص ، عبر ممارسات الظاهرة الاستعمارية التي انتهجتها دوله وحكوماته ، طيلة قرون من القهر الإنساني والإذلال النفسي والتفكيك القيمي والتسطيح الثقافي والانتهاك القانوني والتمزيق الجغرافي ، تحت شتى أنواع الذرائع الكاذبة والمزاعم الباطلة ، التي لم يبخل أدب العلاقات الدولية بتوثيق مخازيها وأرشفة جرائمها ، بحيث أضحت من علائم نكوص الإنسان صوب مظاهر التوحش والبربرية . ولكي لا نذهب بعيدا”ونعطي للتفاصيل حيزا”لم يخصص لها ، فقد آثرنا أن يقتصر موضوعنا على أبرز القضايا التي تتعلق بالتوصيف المفاهيمي والتصنيف الدلالي ، التي أضفاها قاموس الغرب السياسي على خارطة الإقليم العربي ، سواء أكان ما يتعلق بحدوده الداخلية أو تخومه الخارجية ، أو ما يتصل بطبيعة تضاريسه الاجتماعية والرمزية ، أو ما يشي بأنماط عادته وضروبه السلوكية ، حينما كان داخلا”ضمن لعبة المحاصصة الكولونيالية بين ضواري العالم الغربي ، وما ترتب على ذلك من مساومات دبلوماسية وتسويات سياسية وتقسيمات جيوبولوتيكية ، كان لعواقبها الأثر المدمر على مصائر شعوب تلك البلدان المنتهكة الحقوق والمخترقة السيادة . ولأن حضوة اللغة تنبع من سلطان السياسة وقوة الاقتصاد وتقدم العلم وانتشار المعرفة ، فقد استطاع الغرب المتسلح بكل ما أوتي الإنسان من قدرة على الخلق المادي والإبداع الروحي ، إن يفرض إرادته ويروج رؤيته ويسوق مصالحه ، ليس فقط في مضمار العلاقات الدولية وما تمخض عنها من تبعية اقتصادية واستتباع سياسي وارتهان تكنولوجي فحسب ، بل وفي إطار نحت المفاهيم السياسية ، وصياغة المصطلحات الاجتماعية ، وبلورة المقولات الفلسفية . فبتنا نتعامل مع أصناف من الشرق ( الأقصى والأوسط والأدنى ) ، وأضحينا نتعاطى مع أنواع من الحضارات ( الغربية / الليبرالية والشرقية / الاستبدادية ) ، وأمسينا نتداول بأشكال من الديانات ( المسيحية / المتسامحة ، والإسلامية / المتعصبة ، والبوذية والكونفوشوسية / السلبية والمتقشفة) ، وشرعنا نتجادل بأنماط من الثقافات ( المادية / المثالية ، والعقلانية / الانفعالية ، والحداثية / الاتكالية ) .. الخ . والحقيقة إن هذا المنحى في التقسيم والتشطير وذلك المسعى في التبويب والتحقيب ، لم يكن بلا فوائد علمية أو مكاسب معرفية كان يمكن أن تجنيها الشعوب المعنية وتحوزها الأمم المقصودة  ، فيما لو تمت بوازع من إعانتها على تجاوز تخلفها المزمن وتخطي تأخرها المتوطن . ولكنه كان لأغراض استغلالية جشعة وتطلعات توسعية بشعة ، كلفت أبناء تلك الشعوب والأمم ليس فقط الملايين من الضحايا البشرية ، بل واستباحت أوطانهم وأهدرت ثرواتهم ومسخت تاريخهم ونسخت ذاكرتهم وشوهت شخصيتهم ، وأعاقتهم ، بالتالي ، من استثمار فرص النهوض من كبوتهم والتغلب على محنهم واستئناف تطورهم ، شأنهم في ذلك شأن البقية من شعوب المعمورة في جهات العالم الأربع . ولأن بواكير الدول الوطنية القائمة والحكومات المحلية السائدة ، لم يكن بمقدورها أن تتأسس بمقوماتها الذاتية في الحالة الأولى ، أو أن تتشكّل  بمواردها الخاصة في الحالة الثانية ، إلاّ بمعونات سخية وإشراف مباشر من لدن قوى الغرب ذاته ، الذي تصدق على شعوبها بما سمي (بالاستقلال) السياسي الشكلي ، بحيث تبقى تحت وصايته وطوع بنانه ورهن إشارته . ولأن جغرافية هذه الأوطان المستباحة رسمت وفقا”لمصالح وارادات غربية ، وليس وفقا”لإرادة أصحابها الفعليين وبناء على رغبتهم الشرعية . ولأن تاريخ هذه المجتمعات المخترقة كتب بوحي من أفكار ونظريات غربية ، وليس بناء على واقعية الحوادث التي انبثقت فيها وصحة الوقائع التي تمخضت عنها . ولأن الأطر الاجتماعية لتلك الشعوب تموضعت باستلهام من تصورات وفلسفات غربية ، وليس من منطلق حقيقة المكونات التي تتشكل منها وفعلية العناصر التي تنتمي إليها . ولأن القوانين الوضعية لهذه الأمم تبلورت وفقا”لقواعد وأعراف غربية ، وليس بوحي من أنماط تجاربها الخاصة وأشكال علاقاتها المميزة . ولأن التعليم في تلك البلدان شرع بناء على منظومات قيمية غربية ، وليس لاعتبارات رمزية مستنبطة من ثوابتها الوطنية وتراثها القومي . نقول لأجل ذلك كله ، فان الإنسان العربي لم يكن بمقدوره سوى التماهي مع كل ما تمخض عن تلك الظواهر من خيارات ورهانات ، حتى وان جاءت بخلاف مصالحه وضد حقوقه ، ولم يجد أمامه سوى اجتياف جميع ما أفرزته تلك الأوضاع من علاقات وتصورات ، حتى وان لم تكن من وحي إرادته الحرة ورغبته المشروعة . وهكذا تقولبت السساتيم العقلية ، وتنمذجت الأنماط السلوكية ، وتأطرت الصياغات المفاهيمية ، التي لم يسع الإنسان العربي لحد الآن نقد مصادرها ومساءلة صدقيتها وتعرية غاياتها ؛ إما بحكم الاعتياد النمطي والتواتر العرفي والتواضع الجمعي ، أو بواقع التضليل السياسي التجهيل الثقافي والتهويل الإعلامي . وهو الأمر الذي انعكست تبعاته المعرفية ومضاعفاته المنهجية على مجمل أطياف النخب العربية ، حين تضطرها الأوضاع الملتهبة والظروف المأزومة للخوض في أتون النقاشات السياسية ، والإدلاء بآرائها الإيديولوجية ، والتعبير عن مرجعياتها الرمزية ، ناهيك بالطبع عما يجيش في منظومات السيكولوجيا الاجتماعية ، المعبئة بالمسبقات التاريخية والمستنفرة بالإرهاصات الدينية . ولهذا فالحديث عن واقع المجتمع العربي وما ينطوي عليه من إشكالات ، لا يخلو من عواقب سوء الظن والتشكيك بالنوايا من لدن القارئ المحمول على أقنمة تصوراته وأصنمة قناعاته ، حالما يشعر بأن المسلمات المتوارثة التي تربى عليها والبديهيات المتعاقبة التي تغذى منها ، أضحت عرضة للنقد الجذري أو للمساءلة القاسية أو للتعرية الفاضحة . من هنا فان الباحث الذي يغامر بإماطة اللثام عن واقعة تاريخية معينة ضربت حولها أسوار من السرية والكتمان ، سيغدو خائنا”لوطنه ومأجورا”للأجنبي ، إن هو حاول تفكيك عناصرها وتغيير علاقاتها وتصويب معطياتها ، بما لا ينسجم والمغالطات التي أحيطت بها والإيحاءات التي ترتبت علبها والقناعات التي ترسخت فيها . والكاتب الذي يتجرأ على المس بثوابت الوعي الاجتماعي وما تشي به من حرمة مفترضة وقداسة مفتعلة ، ليكشف عوامل نكوصها وأسباب عيوبها ودواعي تخلفها ، سيوصم بالجحود الأخلاقي والتغرب القيمي والتكفير الديني ، إن هو اعتزم الخروج على الإجماع حتى وان كان مسيسا”، والانحراف عن التواضع حنى وان كان مستتبعا”، والانسلاخ عن التوافق حنى وان كان مستقطبا”. والحال إن التغلب على هذه المعضلة لا يكمن في تردد الكتاب وتهيب الباحثين من الخوض في غمار هذا المعترك ، وبالتالي عزوفهم عن المواجهة مع السائد من نلك الأفكار والرائج من تلك التصورات ، التي شوهت معطيات التاريخ والجغرافيا ، وهجنت مقومات الثقافة والهوية ، ومسخت مفاهيم الوطن والقومية . بقدر ما يكمن في شجاعة الطرح حتى وان كان يخدش الذهنيات المعلبة ، وجرأة التحليل حتى وان كان يؤذي العقول المنمطة ، وصرامة النقد حتى وان كان يضرّ بالمعتقدات المؤدلجة . فالواقع العربي بحاجة إلى النبش في تربته العفنة ، والعقل العربي بحاجة إلى الحفر في طبقاته المتحجرة ، والسيكولوجيا العربية بحاجة إلى التنقيب في طياتها المتكلسة . 

[email protected]