18 ديسمبر، 2024 6:09 م

التناقض في السلوك الاجتماعي التغريبي

التناقض في السلوك الاجتماعي التغريبي

  تكمن المشكلة الأساسية في خطاب التغريب، والسلوكيات الاجتماعية التي يفرزها، في أن المتغرب يفكر بأسلوب غربي في بيئة ليست غربية، ويتشبه بالغرب في واقع غير غربي، ويريد تطبيق النتاجات الفكرية والثقافية الغربية في مناخات لاعلاقة لها بمناخات الغرب التي انتجت تلك الأفكار والثقافات والسلوكيات عبر تراكم تاريخي طويل، مثّل صراعاً قاسياً بين الاستبداد الثيوقراطي المطلق الذي يمثله تحالف السلطات الثلاث: سلطة الكنيسة والسلطة الملكية المطلقة وسلطة أصحاب المال من جهة، والشعوب الاوروبية المستعبدةمن جهة أخرى، وقد أدى حراك هذه الشعوب المتأثرة بالفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين التحرريين، الى ظهور عقائد جديدة متناقضة،مناهضة للمسيحية والدين عموماً، ومناهج التفكير السائدة، والأعراف والتقاليد السياسية والثقافية والاجتماعية، وقد تمثلت هذه العقائد في الإلحاد الماركسي والوجودي، والعلمانية والليبرالية والاشتراكية والرأسمالية. وربما كان من الطبيعي أن تفرز تلك المناخات الأوروربية وصراعاتها التراكمية هذه العقائد والمناهج الفكرية والسلوكيات الفردية والمجتمعية، ولكن من غير الطبيعي ان تستورد مجتمعات لها مناخاتها وواقعها التراكمي الديني والاجتماعي والثقافي المختلف كلياً، تستورد تلك الثقافات والأفكار والسلوكيات وتمارسها داخل بيئتها المتعارضة.    

   ومن جانب آخر؛ إن الإطار الذي يجمع في داخله مظاهر السلوك التغريبي في المجتمعات المسلمة، هو التناقض والتضاد المتزايدان والحادان أحياناً، في الظواهر والسلوكيات الاجتماعية القائمة؛فالانزواء والرهبنة – مثلاً – يقابلهما الانفتاح المطلق على الثقافة الغربية والفساد الخلقي والعبثية. وفضلاً عن التناقض الاجتماعي، فهناك تناقض آخر يعيشه الفرد والمجتمع أيضاً، هو الازدواجية بين الفكر والمعتقد والادعاء، وبين التطبيق والممارسة والسلوك العملي.

   وعلى مستوى الأخلاقيات الاقتصادية، هناك تمايز طبقي واضح يكمل التصّدع الاقتصادي، الناتج عن التضخم والغلاء المعيشي والتسوّل والبطالة والديون الحكومية. وحين تنعكس هذه المظاهر على العلاقات الاجتماعية فإنها تخلق تفاوتاً اجتماعياً طبقياً كبيراً في المجتمع الواحد، على مستوى الملكية الخاصة ورأس المال، وعلى نوعية التعامل المتقابل بين الطبقات، وستشح عندها مظاهر التكافل الاقتصادي والاجتماعي.

   وتبرز من خلال ذلك أخلاقية اقتصادية فظة، تتمثّل في تحوّل العملية الاقتصادية في المجتمع إلى هدف بنفسها، أي أن الغاية من ممارسة المهن والحرف – على اختلافها – ستختصر في تحصيل المال وكنزه، على حساب الفضائل والعواطف، فيتعامل الطبيب – مثلاً – مع المريض كآلة فيها عطل، يجب أن يحصل على أكبر مبلغ من المال ليقوم بإصلاحها، بصرف النظر عن الأخلاق الطبية والعواطف الإنسانية. في حين أن قيمة العمل في الإسلام تقاس بغاياته المعنوية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن تحصيل المال وسيلة لإمرار المعاش. فالطبيب ليس لعمله قيمة إلا بمقدار تحقيقه للغاية في العمل، والمتمثّلة بتقديم الخدمة للمرضى بهدف شفائهم بإذن الله.

   وبشكل عام؛ فإن أساس هذا السلوك التغريبي وأمثاله هو فقدان الفرد والمجتمع للجانب المعنوي والروحي في شخصيتهما. وهو الأمر الذي يحدث في التعامل مع التقنيات العلمية الحديثة أيضاً. فمن مظاهر السلوك التغريبي في هذا المجال هو قبول المجتمع لخيار التكنولوجيا على حساب الأخلاق – كما يصف بعضهم الظاهرة؛ حتى أصبح وجود وسائل التكنولوجيا الحديثة في عمليتي الإنتاج والاستهلاك أهم غايات الحياة، طبقاً للشعار الغربي القائل: «أنتجوا أكثر استهلكوا أكثر، واستهلكوا أكثر لتنتجوا أكثر»، بدل الغاية الأساسية المتمثّلة في رضا الله تعالى، من خلال التمسك بالأخلاق والعقيدة والشريعة. وفي الواقع، إن هذا التناقض – الموهوم غالباً – بين الأخلاق ومفهوم التكنولوجيا، هو من صادرات الغرب إلى المجتمعات الإسلامية أيضاً.

غربة الأخلاق والنفس عند بعض المسلمين

   نلاحظ ـــ على المستوى الأخلاقي العام ـــ تكريس ظاهرة غربة الأخلاق وتغرّبها، من خلال مجموعة من المظاهر القاتلة، أهمها: الانتشار الواسع لما يعرف بمجتمعات الشباب، والمراقص والحفلات الماجنة، وعلب الليل وأماكن الدعارة، وحانات الخمور، والشواطئ والمسابح المختلطة، والأزياء، والأسماء والمسميّات الشخصية والعامة الغربية، والعلاقات المفتوحة بين الرجل والمرأة، والاختلاط بين الجنسين في مختلف الأماكن والميادين، والسفور، ووسائل الإعلام الماجنة، ومراسم عرض الأزياء، وحفلات اختيار ملكات الجمال، والتي حوّلت – بمجموعها – المرأة إلى سلعة تباع أجزاء منها وتشترى، كما يحدث في الغرب تماماً. هذا فضلاً عن ظواهر أخرى تعادلها أو تزيد عليها في الخطورة، أهمها الشذوذ الجنسي، الذي بات موضوعاً مصيرياً لدى الدول الغربية؛ إذ لاتكتفي بشرعنته والدفاع عنه باستماتة في بلدانها، بل تعمل بكل الوسائل على الترويج له كحالة إنسانية طبيعية في المجتمعات المسلمة، إضافة الىارتفاع نسب المدمنين على المخدرات، ونسب ارتكاب الجرائم الأخلاقية، التي تعدّها القوانين الوضعية أيضاً جرائم تستحق العقاب، في حين أن هذه القوانين تغضّ الطرف عن تلك الجرائم والممارسات اللاأخلاقية – التي سبق ذكرها – بل تقنّنها وتنظم حركتها.

   كما ظهرت أنواع متخلّفة وأكثر إثارة للاشمئزاز من التيّارات الاجتماعية الغربية المتمرّدة والضائعة نفسها، كالهيبيز والبانكس والربيين. ونقول أكثر إثارة للاشمئزاز؛ لأن الهيبسم – مثلاً – ظهرت في الغرب كفلسفة شاذة تؤمن بالحرية المطلقة في السلوك الاجتماعي، وبالسلام المطلق، وترفض الحياة المادية، استناداً إلى مبدأ أصالة اللذّة والمتعة (في مقابل الرهبنة وقتل اللذّة بالمطلق) وصولاً إلى السعادة المنشودة في الحياة، وهي الغاية النهائية لديهم في الحياة. أما (الهيبيون) الذين ظهروا في المجتمعات المسلمة، فهم لا يفقهون من (الهيبيسم) شيئاً سوى المظاهر الخارجية البشعة، نتيجة التقليد الأعمى، والغربة عن النفس (Alienation)، والفراغ الفكري والثقافي. إضافة إلى العبثية واللاهدفية في السلوك والفكر والثقافة وفي العادات والتقاليد. ((ما يأتيهم من ذكر ربهم محدّثٍ الاّ استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسرّوا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلاّ بشر مثلكم)).

   هذه الغربة عن النفس والأصالة التي يعيشها الفرد والمجتمع هي غربة الإيمان أساساً، وتعد القاسم المشترك لمعظم السلوكيات التغريبية في مجتمعات المسلمين. ومن الإفرازات البارزة لهذه الحالة، تزايد الأمراض النفسية والعصبية، أو ما يعرف بأمراض العصر، التي نشأت في الغرب نتيجة لأنماطه المعيشية، ثم انتقلت إلى المجتمعات المسلمة بالتدريج. يقول مفكّر أمريكي: «إن العالم الغربي يزداد كل يوم قلقاً، وجذور القلق عميقة في داخل شخصية الإنسان الغربي. إن خلاص الغرب من الهلاك الحتمي لن يكون إلا بالعودة إلى جنّة الإيمان».

   وقد بلغ شيوع السلوك التغريبي مرحلةً، كما أشرنا؛ أصبح فيها الشخص الذي لا يمارس نوعاً من أنواع السلوكيات التغريبية، كالسفور وحضور الحفلات المختلطة والعلاقات الجنسية المفتوحة – مثلاً – يعد متخلّفاً ورجعياً، في حين أن الجماعة – أو الفرد التيتعترض وتنبه على الخطر وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أو تدعو الى الأخلاق الفاضلة، حتى لو كانت هذه الدعوة بعيدة عن الدوافع العقيدية؛ تتهم بالتحجر والتخلّف والسلفية والعداء للحرية الشخصية والاجتماعية والثقافية. أما من يتخذ أساليب فيها نوع من الردع خلال ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعتبر «مخرّباً» وربما «إرهابياً». وهذا النمط من التفكير هو ذروة السلوك التغريبي، بل وذروة الانحراف عن المبادئ والقيم الفطرية والعقلائية والعقيدية، ونتائجه المرعبة معروفة سلفاً كما يقول النبي محمد (ص): «لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت عنهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء».

التيارات التوفيقية تجاه قضية تغريب مجتمعات المسلمين

   على صعيد النظام الاجتماعي، ظهرت في مجتمعات المسلمين تيارات واسعة، تمثل السلوك التغريبي في جانبه العقائدي السياسي كالإلحاد والعلمانية، وهي عناوين لفكرة أساسية، تتمثّل في فصل الشريعة عن الحياة، وفصل العقيدة عن النظام السياسي، على اعتبار أن السياسة والاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا والفنون والآداب، هي نظم وعناصر مستقلّة عن العقيدة والأخلاق.

   واستمراراً لهذه التيارات، ظهرت تيارات توفيقية أصبحت – هي الأخرى – تمثل ظواهر اجتماعية واسعة، وهي إن كانت تراعي جملة المبادئ والقيم الدينية، إلا أن خطورتها لا تقل عن خطورة التيّارات الأصلية، لأن تيّارات الإلحاد والعلمانية تتبنى مقاطعة الدين وعقائده بالكامل، في حين أن التيّارات التوفيقية ترفع بعض الشعارات الإسلامية، بل وتسند نظرياتها أحياناً إلى نصوص وتحليلات دينية، ومنها التيّارات التي تدعو إلى الدولة العلمانية، بحجة عدم وجود نص على قيام دولة تتبع ديناً بعينه. إضافة الى طرح بعض المغالطات الفكرية في مواجهة مبدأ الدولة الإسلامية أو دولة الأديان المتعايشة، والدعوة للنظام الليبرالي وتبني فلسفة الديمقراطية (مذهباً وآليات)، وعدم أدلجة السياسة والاقتصاد، ودعوى تقدّم الحقيقة على الشريعة، وطرح إشكالات من قبيل؛ أيهما يكشف عن الآخر: الحقيقة أم الشريعة، وأيهما في خدمة الآخر: الدين أم الإنسان؟، وهي مغالطات وشبهات يطرحها العمانيون والتوفيقيون في قبال النص القرآني: ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)).

   هذه المناهج تفرض جملة في التساؤلات عن إمكانية الفصل بين الديمقراطية كمذهب والديمقراطية كآلية لممارسة السلطة، والليبرالية كمذهب والليبرالية كنظام سياسي، وقبول هذين المذهبين القسمة على نفسيهما، وكونهما مما يسمّى بالعام المشترك بين البشرية كافة. فإذا تمت الاستفادة من بعض أفكار وآليات الليبرالية الديمقراطية، دون كامل الليبرالية الديمقراطية كمذهب، فلماذا الإصرار على تسميته بالليبرالية الديمقراطية؟ ثم ما هو مثال الليبرالية الديمقراطية أو التجربة الليبرالية الديمقراطية التي يمكن الاستعانة بها؟ هل هي الطبعة الانجليزية أو الأمريكية؟ أم ديمقراطية أنظمة البلدان المسلمة؟ ثم؛ هل انتهت الخيارات أمام المجتمعات المسلمة لتجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: أما القبول بفلسفة الليبرالية الديمقراطية ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعي وإما الوقوع في شرك الدكتاتورية؟ فلمَ تقرن الدكتاتورية دائماً بالليبرالية الديمقراطية، وتوضع الأخيرة حلاً وحيداً لمشكلة الدكتاتورية؟!. والحال؛ أن المجتمعات المسلمة لديها خياراتها التي تفرزعها عقيدتها وشريعتها وفقهها السياسي الإسلامي، وليس كما يزعم الغرب بأن أمام المجتمعات المسلمة خياري الليبرالية الديمقراطية أو الدكتاتورية ولاخيار  ثالث معهما.

   وفي هذا الخصوص يقول السيد محمد باقر الصدر: «إن الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء». والخطورة تكمن في أن الإنسان الغربي، حتى الذي آمن بالمسيحية؛ حرّف المسيحية من دين سماوي إلى حاجة أرضية. فالغرب استطاع «أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضي»، وهذا السلوك الغربي يمارسه كثير من المسلمين مع دينهم أيضاً.

بين السلوك الغربي والسلوك التغريبي

   يكمن الفرق بين السلوك الغربي والسلوك التغريبي، في أصالةالسلوك الغربي، بوصفه إفرازاً لمدنيته ومناهجه الفلسفية والفكرية والايديولوجية الحديثة، التي أخذت تبرز تدريجياً في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم لتتبلور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهي المرحلة التي أعقبت العصور الأوروبية المظلمة. أما السلوكيات التغريبية التي تمارسها المجتمعات المسلمة، فهي سلوكيات دخيلة ناتجة عن هزيمة داخلية وتقليد أعمى ونفوذ خارجي، لأنها ليست نتاجاً لحضارة المسلمين وعقيدتهم وفكرهم، وإنما هي نتاج غريب عن كل ما له صلة بأصالتهم وحقائقهم.

   وكواقع تاريخي يؤكد وعي الغرب، منذ أكثر من ثمانية قرون،بالفرق بين التفاعل والمثاقفة والإستفادة من نتاجات الآخر الحضارية والفكرية والثقافية والسلوكية، وبين التبعية الفكرية والسلوكية؛ فحين كانت حضارة المسلمين في فترة ازدهارها حضارة متألقة غالبة؛حصل الاحتكاك بينها وبين المجتمعات الأوروبية التي كانت تعيش أبشع مظاهر الظلم والظلام والتخلف، وبات الأوروبيون يعيشون حالة شبيهة بالحالة التي تعيشها مجتمعات المسلمين الآن تجاه حضارة الغرب، لكن مع فارق كبير، وهو أن الحضارة الإسلامية ذات جذور دينية أخلاقية، بحيث عاد السلوك التأسلمي ـــ مقابل التغريبي إن صح التعبير ـــ على الأوروبيين بخير وفير؛ إذ استفادوا من نتاجات الحضارة الإسلامية، ومناهجها في البحث وقواعدها في التفكير، وفي كل ما لا يفسد عقائدهم وأيديولوجياتهم، ولم يتمسّكوا بظواهرها وشكلها الخارجي في صقل ثقافتهم وأنماطهم المعيشية، فلم يلبسوا العمائم وأزياء الشعوب المسلمة، ولم تلبس نساؤهم الحجاب أو الخمار، ولم يفصلوا في المحافل والمجالس بين الجنسين، ولم يمتنعوا عن شرب الخمر، ولم يدعوا إلى قيام نظام اجتماعي إسلامي، أو إلى اقتصاد إسلامي، أو علاقات مالية لا ربوية… إلخ، بل ظلوا متمسكين بعاقداتهم وتقاليدهم وسلوكياتهم وثقافتهم المجتمعية والسياسية والدينية، بعد أن اخذوا من الحضارة الإسلامية ماينفهم وينسجم مع عقائدهم وثقافتهم، وضربوا بالباقي عرض الجدار. يقول المفكّر الإنجليزي «بريفولت»: «ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوروبي إلاّ ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤشرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة». في حين يستلهم بعض المسلمين – اليوم – من الغرب كل ما يسيء لعقيدتهم وثقافتشهم ونمطهم في المعيشة.

   ولاشك؛ أن انحدار المجتماعات المسلمة نحو المزيد من التبعية السلوكية الساذجة للغرب، وسط غزو ثقافي غربي متصاعد، وعجز أو تقصير من الجهات المسلمة المعنية بالمواجهة والردع والرد والتحصين، سواء الدولة أو المؤسسات الثقافية أو التعليمية او الدينية او الجماعات الإسلامية؛ يعني حثّ الخطى باتجاه الانهيار النهائي وحدوث الكارثة، وفقاً لكل الحسابات والمبادئ، الدينية والوضعية؛فإذا وضعنا السنن الإلهية جانباً، ووقفنا على أفكار الفلاسفة والمؤرخين الغربيين في القرن العشرين، أمثال: “شبنغلر” و”اشفيتسر” و”توينبي” و”دوبو” حول سقوط الحضارات، أو – تحديداً – تفسّخ الحضارة الغربية، سنرى أن عدوى الكثير من الشواهد والمظاهر والأمراض، التي يستدلون بها على احتمالات انهيار الحضارة الغربية، لا زالت تنتقل إلى مجتمعات المسلمين انتقالاً سريعاً. وبما أن مجتمعات المسلمين لا تمتلك اليوم ما يمكن تسميته بالحضارة بالمعنى العلمي لها، كما هو عليه الغرب، بل تمتلك أنماطاً اجتماعية دينية ثقافية؛ فإن مخاطر الانحدار الثقافي والسلوكي التي تتعرض لها مجتمعات المسلمين، أكبر من أي وقت آخر، وتنطبق عليها محاذير السنن الإلهية والتاريخية.

   وعليه؛ فإن بذل الجهود من قبل الجهات المعنية المذكورة لدراسة السلوك التغريبي كظاهرة اجتماعية متفشية ومتصاعدة في مجتمعات المسلمين، وكذا دراسة أنماطها وأساليبها ووسائلها ومظاهرها وطرق مواجهتها، دراسة واسعة ومعمّقة، تستوجب استحداث أقسام ودوائر خاصة بدراسات التربويات الوافدة، وعلم اجتماع الغزو الثقافي وعلم نفس الغزو الثقافي، في المؤسسات المختصة ومراكز الأبحاث والجامعات الإسلامية، فتلك الحقول تمثّل الموقع المناسب لدراسة السلوك التغريبي في مجتمعات المسلمين، انطلاقاً من فهم إسلامي واعٍ ومركّز وتخصصي. أما تجاوز حقائق السلوك التغريبي الاجتماعي، والمرور إلى جانبها دون استشعار أخطارها، ودون إخضاعها للبحث الموضوعي والحوار العلمي الجاد من خلال منهج إسلامي أصيل، فهو ما ينذر بوقوع الانهيار الثقافي التدريجي التام للمجتمع الإسلامي، وحدوث الكارثة.