23 ديسمبر، 2024 7:14 م

التنافس لايعني التخاصم

التنافس لايعني التخاصم

-1-
أصحاب الفنّ الواحد غالباً ما يقع بينهم التنافس، وقد يقود الى مواقف فيها من الاحتقان والتشنج الشيء الكثير ..!!

ذلك أنَّ كلّ متنافسٍ من المتنافسين قد يرى نفسه الأكبر والأشهر في فنّه، وبالتالي فهو الذي يجب ان يتقدّم على غيره ، بينما لايشاركه الآخر رأيه ..

-2-

ومن النادر أنْ تجد من يلجأ الى المعايير الموضوعية للتفاضل بين المتنافسين ويذعن لمقتضياتها .

والصفوة غالباً ما تكون نادرة الوجود .

-3-

ومن الطريف ان ننقل هنا ما جرى بين (اسحاق الموصلي) وبين (الاصمعي) .

قال اسحاق :

هل الى نظرة اليك سبيلُ

فيروّى الصَّدى ويُشفى الغليلُ

انّ ما قلَّ منك يكثرُ عندي

وكثيرٌ من الخليل القليلُ

والبيتان جميلان فالقليل من الخليل كثير .

يقول اسحاق :

أنشدت الاصمعي هذين البيتين على أنهما لشاعر قديم ، فتعجب منهما وقال:

هذا والله الديباج الخسرواني ، فقلتُ له :

هو ابن ليلة

-يعني أنه جديد ، وانه هو من قالهما –

فقال الاصمعي :

لاجَرَمَ أَثَرُ التوليد فيه ، فقلتُ :

لاجَرَمَ أثر الحسد فيك

يلاحظ هنا :

ان (الأصمعي) طرب وتفاعل حينما قيل له :

ان البيتيْن لشاعر قديم، ولكنه سرعان ما غيّر رأيه حينما علم أنهما لاسحاق الموصلي المعاصر له ..!!

-4-

ان ما وَقَع بين (الرصافي) و(الزهاوي) من مشاكل، وقع نظيرُه بين (شوقي) و(حافظ) شاعِريْ مصر الشهيرين .

ومن طريف (التراشق) بينهما قول (شوقي) :

وأودعتُ انساناً وكلباً أمانةً

فضيّعها الانسانُ والكلبُ (حافِظُ)

وهكذا عرّض بصاحبه ،

وقد قال – حافظ – بالمقابل :

يقولون : إنّ الشوق نارٌ ولوعةٌ

فمالُ (شوقي) الآن أصبح باردا

انهما قد عمدوا الى (التورية) و(والتلميح) واستعاضا بهما عن التصريح وذكر القبيح …

-5-

وليت السياسيين المحترفين يلتزمون بما التزم به الأدباء في مضمار التنافس بينهم، ولا يخرقون الخطوط الحمراء ، ولايتجاوزون الحدود الاخلاقية، ولكنهم يخوضون معارك (كسر العظم) التي لاتُبقى للأخر من باقية..!! ويسهمون في تسخين الأجواء وتعقيدها الى الحدّ الذي يزّهد الناس بهم وبما لديهم ..!!

وهكذا تكون الخسارة فادحة شاملة ..!!

-6-

ان هناك من لايعترف لك بسِمَةٍ من سمات الفضل والابداع مادمت حيّا ، فوجودك على المسرح يشكّل تحديداً مستمراً له ، يدفعه الى الاستمرار في مواقفه الانفعالية البعيدة عن الصواب .

ولكنه يغيّر رأيه ومنهجه بالكامل اذا سبقتَهُ الى (دار البقاء) ، ويكون من أكثر الباكين عليك والمتألمين لفقدك ..!!

شهدنا المعارك الضارية بين أبناء الخط الواحد ، والتي استعملت فيها كل الاسلحة الخبيثة ما عدا (الناريّة) منها … وشكلّت تلك المعارك بجملها ملفاً رهيباً ، حتى اذا ما أزفت ساعة رحيل بعضهم ، وجدنا أصحاب الألسنة السليطة، يتقدمون الناس في تسليط الأضواء على ما كان يحظى به (الراحل الكبير) من مناقبٍ ومواهب … كانت كلها محل جحود ونكران في حياته..!!

يقول الشاعر :

ترى الفتى يُنكر فضل الفتى

مادام حيّاً فاذا ذَهَبْ

لَجَّ به الحرصُ على نكتةٍ

يكتبها عنه بماءِ الذَهَبْ

-7-

اننا لابُدَّ ان نشيع ثقافة احترام الآخر ، وثقافة الاعتراف بما يملكه الآخرون من مزايا وسجايا، لكي نمزّق شرنقة (حب الذات) و (النرجسية الضيّقة) في جميع المجالات وعلى الصعد كافة .

في المجال الأدبي كما في المجال الاجتماعي والسياسي …

والبلد بحاجة الى رجاله النابهين ، وأدبائه اللامعين ، والى ذوي الكفاءة والمهارة والابداع في كل الحقول والمجالات، في الطب كما في الهندسة، وفي الاقتصاد كما في الصناعة، وفي الزراعة كما في التعليم، وفي الصحة كما في النقل وهكذا …

ان الانسان لن ينمو روحياً وأخلاقياً الاّ حينما يخطو نحو (نكران الذات) واحترام ذوي البراعات والمهارات .

*[email protected] www.almnbeir.com