17 نوفمبر، 2024 11:38 ص
Search
Close this search box.

التنافس على المصالح واستراتيجية الهيمنة والتسليح ومحاور مكافحة الإرهاب

التنافس على المصالح واستراتيجية الهيمنة والتسليح ومحاور مكافحة الإرهاب

شهدت الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب خلال عقدين – منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي نفذها تنظيم القاعدة، والتي أسفرت عن مقتل 2977 شخصاً، حتى قرار إدارة الرئيس جو بايدن الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من أفغانستان بعد عشرين عاماً من حرب مكلفة مالياً وبشرياً – تغيرات وتحولات في محاورها، وفي مهام القوات الأمريكية المقاتلة المنتشرة في الدول التي كانت توفر ملاذات آمنة للتنظيمات الإرهابية؛ لبروز تهديدات وتحديات أمنية للولايات المتحدة أكثر أهميةً في ظل نظام دولي يشهد جملة من التطورات أضحت أكثر تهديداً للأمن والمصالح القومية الأمريكية من تلك التي تُشكلها التنظيمات الإرهابية، بعد النجاحات التي حققتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية وديمقراطية، في القضاء عليها، وتحول التركيز الأمريكي من مواجهة الإرهاب خارجياً إلى تحدي الإرهاب المحلي الذي يهدد أمن الأمريكيين أكثر من احتمال تنفيذ تنظيم إرهابي من الخارج ضد الأراضي الأمريكية مجدداً.

تتمثل أبرز ملامح التحول في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب مع الذكرى الحادية والعشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، والذكرى الأولى لانتهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان، فيما يلي:

1– تراجع مركزية “مكافحة الإرهاب” لدى واشنطن: مثلت قضية الحرب على الإرهاب أولوية في الاستراتيجية الأمريكية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وعسكرة السياسة الخارجية الأمريكية لإدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، وقيادة الإدارات الأمريكية المتعاقبة تحالفاً دولياً لمكافحة الإرهاب عالمياً في إطار الحرب الأمريكية ضد التنظيمات الإرهابية، ولا سيما حربَي أفغانستان في أكتوبر 2001، والعراق في مارس 2003. ولكن مع النجاحات التي حققتها الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب، بتراجع العمليات الإرهابية لتنظيم القاعدة، ونهاية الخلافة المزعومة لتنظيم داعش الإرهابي، مع بروز تحديات دولية أكثر تهديداً للأمن والمصالح القومية الأمريكية، ولا سيما الصعود الصيني، وتحديه مصادر قوة الولايات المتحدة عالمياً وقيادتها المنفردة للنظام الدولي، وتبني روسيا والصين رؤية تعديلية له؛ تراجعت مركزية قضية مجابهة التنظيمات الإرهابية لصالح ظاهرة “التنافس بين القوى العظمى” مع تزايد التهديدين الروسي والصيني لقواعد ومؤسسات النظام الراهن، وبروز قضايا أمنية وسياسية أكثر أهميةً للولايات المتحدة وللأمن والاستقرار الدوليين.

ويأتي تراجع مركزية قضية مكافحة الإرهاب على أجندة صانع القرار الأمريكي متسقاً مع تغير الرأي العام الأمريكي حول أهم التهديدات للأمن القومي الأمريكي؛ فبعد سيطرة تصدُّر الحرب على الإرهاب أولويات الناخب الأمريكي عقب أحداث سبتمبر الإرهابية، أضحت قضايا الهجمات السيبرانية، والمعلومات المضللة، بعد عقدين من حروب أمريكية لا نهائية، هي الشاغل الأكبر بين الأمريكيين الذين شملهم استطلاع مركز بيو للأبحاث، الذي نشرت نتائجه في 31 أغسطس الفائت، مع غياب ذكر الهجمات الإرهابية باعتبارها تهديداً للمصالح والأمن القومي الأمريكي.

2– أولوية المهام المحدودة والخاطفة ضد الإرهاب: كانت القوات الأمريكية المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية خلال الحرب الأمريكية الدولية على الإرهاب عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تنخرط في المهام القتالية للقضاء على التنظيمات الإرهابية. ولكن مع النجاحات التي تحققت بخُفُوتها، تحوَّلت مهام القوات الأمريكية إلى تنفيذ عمليات محدودة، وبصورة خاطفة ضد مناطق انتشار التنظيمات الإرهابية وقياداتها، والعمل من خلال الشركاء المحليين، ومعهم لتنفيذ عمليات عسكرية ضد الإرهابيين، بجانب تقديم الاستشارات والتدريبات للقوات الوطنية لتعزيز قدراتها لمكافحة الإرهاب، بحيث يكون لها الدور الرئيسي في شن العمليات العسكرية ضد التنظيمات الإرهابية على الأرض.

3– استهداف قيادات التنظيمات الإرهابية من الجو: مع تحول مهام القوات الأمريكية في عديد من الدول التي تشهد نشاطاً للتنظيمات الإرهابية، ركزت الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب على استهداف العديد من قيادات التنظيمات الإرهابية في الصفين الأول والثاني من هيراركية التنظيم، من خلال الطائرات بدون طيار، أو بوحدات من الكوماندوز؛ فقد نجحت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، في ٢ مايو 2011، في اغتيال زعيم تنظيم القاعدة الأسبق أسامة بن لادن، في أبوت أباد بباكستان. ونجحت – كذلك – إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في اغتيال الزعيم الأول لتنظيم داعش أبو بكر البغدادي، في ٢٧ أكتوبر 2015. وفي فبراير الماضي، نجحت إدارة الرئيس جو بايدن في استهداف الزعيم الثاني للتنظيم أبو إبراهيم الهاشمي القرشي. وفي يوليو الفائت اغتالت الولايات المتحدة ماهر العقال زعيم تنظيم داعش ونائبه في سوريا. وأخيراً استهدفت زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، في عملية استخباراتية نفذت في 30 يوليو الفائت، تعد نصراً كبيراً للإدارة الأمريكية؛ نظراً إلى تاريخه الإرهابي.

4– توظيف التكنولوجيا المتقدمة ضد الإرهابيين: استخدمت الولايات المتحدة مع تحول استراتيجيتها في مكافحة الإرهاب من نشر قوات أمريكية على الأرض، إلى استخدام أسلحة متقدمة لتنفيذ عمليات عسكرية من الجو ضد التنظيمات الإرهابية الرئيسية، على غرار الطائرات بدون طيار التي قتلت الظواهري في العاصمة الأفغانية، واستخدام صاروخ هيلفاير (R9X Hellfire) الذي صُمِّم لتجنب التسبب في أضرار جانبية؛ حيث يضرب الهدف بشكل مركز دون انفجار؛ ما يُقلِّص دائرة الاستهداف كثيرًا.

5– تبني واشنطن خططاً لتقليل استهداف المدنيين: مع تعدد الانتقادات التي وجهتها العديد من المنظمات الحقوقية الدولية والأمريكية لتزايد عدد الإصابات بين المدنيين خلال الهجمات العسكرية التي تنفذها القوات الأمريكية ضد التنظيمات الإرهابية وقياداتها؛ أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في 25 أغسطس الفائت عن خطة عمل تهدف إلى تخفيف الأضرار المدنية خلال العمليات العسكرية الأمريكية، وتقديم الاستجابة السريعة لها. وبالفعل لم توقع عملية استهداف الظواهري أي إصابات بين المدنيين؛ حيث قال الرئيس بايدن خلال كلمته في 2 أغسطس 2022 للإعلان عن اغتيال زعيم تنظيم القاعدة إنه تم التخطيط لها بعناية، ولذلك لم يُصَب أي من أفراد عائلته، ولم تقع إصابات بين المدنيين كما كان يحدث في السابق عند استهداف قيادات التنظيمات الإرهابية.

6– تصاعد الاهتمام بمجابهة الإرهاب المحلي: مع ارتفاع عدد القتلى خلال عمليات إطلاق النار الجماعي، والعنف والكراهية داخل الأراضي الأمريكية، بما يفوق عدد ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ حدث تحول في القناعة التي كانت مسيطرة على التفكير الأمريكي عقب تلك الأحداث الإرهابية؛ من أن التنظيمات الإرهابية الدولية، مثل تنظيم القاعدة وداعش، هي التهديد الأكبر للأمن القومي للولايات المتحدة إلى أن الإرهاب المحلي، بما يشمله من أعمال عنف وكراهية، وهجمات مسلحة ينفذها المنتمون إلى اليمين المتطرف والقوميون البيض، أضحى الأكثر تهديداً. ولتزايد خطر الإرهاب المحلي وجه الرئيس بايدن، خلال أول أيامه في البيت الأبيض، فريقه للأمن القومي بمراجعة شاملة لجهود الحكومة الأمريكية للتصدي للإرهاب المحلي خلال مائة يوم. وقد أفضت تلك المراجعة إلى إطلاق الإدارة الأمريكية الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب المحلي في يونيو من العام الماضي.

برغم النجاحات التي تحققت مع التغييرات المتتالية في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب خلال عقدين من أحداث سبتمبر الإرهابية، فإن العديد من المسؤولين الأمنيين السابقين، وجهوا بعض الانتقادات لها، ومن أهم تلك الانتقادات ما يلي:

1– جدل حول تراجع نفوذ التنظيمات الإرهابية: رغم العديد من الانتقادات التي وجهت إلى إدارة الرئيس جو بايدن عقب عملية الانسحاب الفوضوية من أفغانستان قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر في 31 أغسطس من العام الماضي، وعدم أخذ بايدن بتوصية كبار مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية بالحفاظ على وجود عسكري أمريكي – وإن كان محدوداً – في أفغانستان، خوفاً من إعادة تنظيم القاعدة تجميع قواه في أفغانستان، وتشكل تهديد للولايات المتحدة وحلفائها في غضون عام أو عامين؛ أشارت تقديرات استخباراتية أمريكية إلى أن التنظيم لم يُعِد تشكيل وجوده في أفغانستان منذ أن غادرت جميع القوات الأمريكية البلاد، وأن أعضاء التنظيم في أفغانستان ليسوا متورطين في التخطيط لهجوم خارجي، وأنه لم يعد لديه القدرة على شن هجمات ضد الولايات المتحدة أو مصالحها في أفغانستان أو خارجها.

بينما ترى تقارير أمريكية أخرى أن التنظيمات الإرهابية لا تزال تشكل تهديدات للولايات المتحدة وحلفائها؛ حيث أشار التقييم السنوي لمجمع الاستخبارات الأمريكية للتهديدات خلال عام 2022، الذي أصدره مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكي (ODNI) في 8 مارس الفائت، إلى أن التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيمي داعش والقاعدة، سيستغلان ضعف سيطرة بعض الدول في منطقة الشرق الأوسط على حدودها وتحول بعضها إلى دول فاشلة لمواصلة التخطيط لهجمات إرهابية ضد الأمريكيين والمصالح الأمريكية، حتى داخل أراضي الولايات المتحدة بدرجات متفاوتة، ومُفاقَمة عدم الاستقرار في مناطق مثل أفريقيا والشرق الأوسط. وترى تحليلات أمريكية أن التنظيمات الإرهابية في تزايد من حيث العدد والنطاق الجغرافي والتقدم التقني والعسكري على مدى العقدَيْن الماضيَيْن.

2– عدم تحقيق الاستقرار في أفغانستان: تُوجَّه العديد من الانتقادات إلى قرار إدارة بايدن الانسحاب من أفغانستان؛ حيث حكمت حركة طالبان الدولة مرة أخرى، ومنحت تنظيم القاعدة ملاذاً آمناً مثلما كان الحال وقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ فقد أشار تقرير لمنظمة الأمم المتحدة صدر في أبريل من العام الماضي أن طالبان والقاعدة لا يزالان متحالفَيْن بشكل وثيق، ولا يُظهران أي مؤشر على قطع العلاقات بينهما. ويؤكد استمرارَ العلاقة بين الحركة والتنظيم انتقالُ الزعيم السباق للقاعدة أيمن الظواهري إلى العاصمة الأفغانية عقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.

3– عدم تعلم الولايات المتحدة درس العراق: دفعت عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وإنهاء الوجود العسكري الأمريكي، الكثيرين داخل الولايات المتحدة إلى استرجاع خبرة الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق في 2011، الذي أدى إلى ظهور تنظيم داعش الإرهابي، الذي سيطر بحلول صيف عام 2014 على مساحات شاسعة في سوريا والعراق لتأسيس خلافته المزعومة، وهو ما استدعى عودة القوات الأمريكية المقاتلة مرةً ثانيةً إلى العراق لهزيمة التنظيم؛ ولذلك يرى عديد من القادة العسكريين الأمريكيين أن سحب القوات الأمريكية من الدول الهشة التي تفقد السيطرة على أراضيها، وتقدم ملاذاً آمناً للتنظيمات الإرهابية، عادةً ما يزيد الأمور سوءاً، ويفضي إلى ظهور تنظيمات إرهابية جديدة أكثر قوة وتدميراً، وهو ما يستدعي عودة الجنود الأمريكيين مرةً ثانيةً للقضاء على تلك التنظيمات.

خلاصة القول: رغم نجاح الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب خلال العقدين الماضيين في خفض تهديد التنظيمات الإرهابية للولايات المتحدة بدرجة كبيرة؛ ما سمح لصانعي القرار بتقليل الاهتمام بمكافحة الإرهاب، والتركيز على تهديدات أخرى أكثر أهميةً وعلى قضايا محلية؛ فإن توطين التنظيمات الإرهابية حالياً لأهدافها، والتركيز على “العدو القريب”، وتراجع الاهتمام بـ”العدو البعيد”، لا يعني تراجع تحدي التهديدات الإرهابية ضد الولايات المتحدة وحلفائها.

وبينما تركز الولايات المتحدة على منافسة القوى العظمى والتحديدات التي تشكلها ظاهرة تغير المناخ، فإن تحديات الإرهاب وتهديداته راهناً ترتبط بصورة جوهرية بديناميكيات تلك القضايا التي تركز عليها واشنطن، وترتبط بها، وتعتمد عليها، وفي بعض الأحيان تستفيد منها؛ حيث لا يوجد في الواقع فصل بينها؛ فعلى سبيل المثال، يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم عدم الاستقرار، والتدهور الاقتصادي، وهي أوضاع تستغلها التنظيمات الإرهابية في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط لصالحها، فضلاً عن أن منافسة القوى العظمى تنقل تركيز المجتمع الدولي إلى قضايا أخرى، ومناطق استراتيجية أكثر أهميةً؛ ما يقلل الاهتمام العالمي بالمناطق التي تنشط فيها التنظيمات الإرهابية، ولا سيما بعد تحول أجندتها إلى التركيز على قضايا محلية.

 

يتصاعد الزخم في واشنطن للابتعاد تدريجيا عن مكافحة الإرهاب نحو منافسة القوى العظمى.. اولا واخرا

بدلا من النظر إلى مكافحة الإرهاب ومنافسة القوى العظمى على أنهما نموذجان متنافسان، يجب أخذهما بمثابة قضيتين متكاملتين.

لا تزال الولايات المتحدة تواجه تهديدات كبيرة من الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وسيكون من الأهمية بمكان ألا تتجاهل الدروس المستفادة من العقدين الماضيين.

لا ينبغي للاعتراف المتزايد بالحاجة إلى التصدي للتهديدات الجيوسياسية التي تشكلها روسيا والصين أن يمحو الاهتمام بمكافحة الإرهاب.

أصدرت إدارة بايدن مؤخرا «توجيهاتها الاستراتيجية المؤقتة للأمن القومي». ويظهر من الاستراتيجية الجديدة تراجع أولوية مكافحة الإرهاب لصالح التركيز على الأبعاد الجيوسياسية ومنافسة القوى العظمى، وهذا قد يثير المخاوف من غياب التوازن في السياسة وتجاهل نجاحات مكافحة الإرهاب خلال العقدين الماضيين. وبحسب ما ذكر في الوثيقة على صفحتها التاسعة عشر «يجب علينا تكييف نهجنا لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك مواءمة مواردنا مع التهديدات الصاعدة». وتجسد هذه العبارة الروح الحالية المهيمنة في واشنطن، فقد قلّ الاهتمام بمكافحة الإرهاب، وحلّ التعب بعد ما يقارب عشرين عاما من القتال في ما يسمى بالحرب العالمية على الإرهاب. وببساطة، من الواضح أن التهديدات الأكثر إلحاحا التي تشكلها الدول المتنازعة والمنافسة الجيوسياسية، على خلفية وباء عالمي وتحديات محلية عاجلة تتطلب استثمارات ضخمة، قد قللت من التركيز على مكافحة الإرهاب، فانقلبت كفة الميزان نحو الاتجاه المعاكس، فجرى الابتعاد عن الاهتمام بالجهات الفاعلة غير الحكومية وتركيزه على الدول القومية؛ وبات التهديد يتركز في أبعاده الجيوسياسية في دول مثل إيران وكوريا الشمالية، وفي أبعاده التنافسية في دول مثل روسيا والصين.

ومع ذلك، فنحن لسنا بالضرورة أمام خيارين متعارضين لا يمكن الجمع بينهما. إذ يجب أن تكون الولايات المتحدة قادرة على مكافحة الإرهاب للتصدي للتهديدات القادمة من الجهات الفاعلة غير الحكومية في الوقت الذي تتنافس فيه مع خصومها الرئيسيين من الدول القومية. وعلاوة على ذلك، فإن التهديدات التي يشكلها الإرهابيون والمتطرفون ليست بعيدة عن التهديدات التي تشكلها الدول التي قد تتلاعب بالحلفاء والوكلاء الإقليميين، وهذا شائع منذ القدم في تاريخ الحروب. وبالتالي، فإن هذين الخيارين هما خياران متكاملان كما أبرز ماثيو ليفيت ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في تقرير جديد بعنوان «إعادة التفكير في الجهود الأمريكية لمكافحة الإرهاب: نحو خطة مستدامة بعد عقدين من أحداث 11/9». ووفقا لذلك، فإن النظر إلى مكافحة الإرهاب ومنافسة القوة العظمى في آن معا يمكّن الولايات المتحدة من صوغ استراتيجية شاملة تستخدم فيها أدوات القوة الصلبة وأدوات القوة الناعمة معًا.

وعلى هذا، فإذا اتّفق المرء مع التقويم القائل إن الصين هي الشاغل الاستراتيجي الأكثر إلحاحا للولايات المتحدة في المستقبل المنظور، فإن عليه بلا شك أن يقرّ بضرورة تخصيص المزيد من الموارد للتعامل مع هذا التحدي، ولكن ذلك لا يعني أن عليه أن يتخلى عن مكافحة الإرهاب بوصفها واحدة من أهم المهام الدائمة للولايات المتحدة. ولا ينبغي أن ننسى أن الدول المنافسة نفسها توظّف مجموعة واسعة من المقاربات الاستراتيجية، بما في ذلك تعيين مواطنيها في المناصب العليا داخل المنظمات الدولية، أو الاستثمار في مشاريع التنمية الطويلة الأجل فضلا عن تعزيز العلاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين.

وعلى مدى العقدين الماضيين، وظّفت الولايات المتحدة عديدها وطاقتها وكثيرا من مواردها المالية لتطوير بنى تحتية شاملة لمكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم. ويشمل ذلك الابتكارات التكتيكية والعملانية، وبناء القدرات العالية في مجال الاستخبارات والرصد والاستطلاع، وشراكات التعاون الأمني الدائم مع دول من تمتد من دول الساحل الإفريقي إلى جنوب شرق آسيا. كما قادت الولايات المتحدة عددا من الجهود في المجال الدولي، بما في ذلك تطوير إطار قانوني دولي غير مسبوق وشامل من خلال مجلس الأمن الدولي، كما أنها قادت إنشاء المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب، الذي يجمع 29 دولة والاتحاد الأوروبي لدعم الدول ببناء القدرات المدنية. ويبرز خطر كبير في السماح لهذه المنجزات جميعا بالتآكل. نعم، تتفق معظم الآراء على أن إعادة النظر في مخصصات مكافحة الإرهاب في الميزانية (بل وفي مخصصات أي بعثة أمنية وطنية) تعد أمرا مسوغا وضروريا. وهذا ما أشارت إليه وثيقة استراتيجية إدارة بايدن عندما تحدثت عن مواءمة الموارد مع التهديد، وهو هدف حكيم بامتياز. ولكن يكمن القلق في أن يكون تقويم التهديد نفسه خاطئا، مما يؤدي إلى تخفيض الموارد المخصصة، وجعل الولايات المتحدة عرضة للأخطار التي تشكلها مجموعة من المنظمات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية. وبطبيعة الحال، إن الهجمات الإرهابية هي هجمات سرية، وقد أعطت هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 درسا للولايات المتحدة بضرورة الاستعداد الكامل للرد على أي مفاجأة استراتيجية.

ومما لا شك فيه أن قوة التنظيم المركزي للقاعدة قد تراجعت، لكن فروعها الإقليمية في جميع أنحاء العالم لا تزال تشكل تهديدا خطيرا. وقد خططت العديد من الفروع التابعة لها لعمليات خارجية متطورة على مدى السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية الذي يتخذ من اليمن مقرا له وحركة الشباب في الصومال. كما نمت قوة الجماعات الجهادية المرتبطة بالقاعدة في جميع أنحاء غرب إفريقيا. ويراقب إرهابيو القاعدة في جنوب آسيا الأحداث في أفغانستان عن كثب. وبالمثل، ففي حين دُمرت الخلافة المزعومة لداعش، فإن المنظمة بعيدة عن الهزيمة. ولا تزال أيديولوجية تنظيم داعش وخلاياه تشكل تهديدا كبيرا، وكذلك فروعه الإقليمية. ويبحث كل من تنظيم القاعدة وداعش عن فرص لتنظيم عودة ناجحة، وهما يستعدان لملء الفراغ الأمني الذي يمكن أن ينتج عن نقل القوات العسكرية الغربية من قواعد العمليات الأمامية إلى المقرات الإقليمية. إن مخيمات النزوح التي تعاني من ضعف البنية التحتية أو ضعف المساءلة، مثل مخيم الهول، لا تسهم إلا في تفاقم هذه الدينامية ، فهي توسع فرص التطرف أو التجنيد أو الهروب المحتمل. ومن المعروف منذ فترة طويلة أن النزاعات المطولة، وزيادة الاضطراب الأمني، والخسارة والقلق الاجتماعيين، وضعف السيطرة الحكومية تخلق بيئات مضيافة للجماعات الإرهابية، ويمكن أن تمكّن ظروف ما بعد الوباء والصراعات المختلفة هذه المجموعات من إعادة تجميع صفوفها أو إحداث انطلاقات جديدة.

وعلاوة على ذلك، ومع تزايد التهديد الذي تشكله جماعات العنصريين البيض المتطرفة العنيفة العابرة للحدود، سيكون من الأهمية بمكان الحفاظ على الشراكات القائمة في مجال مكافحة الإرهاب وترتيبات تبادل المعلومات الاستخباراتية. وهذا يشمل بالضرورة توظيف الدروس المستفادة من الكفاح ضد الجماعات الجهادية في مواجهة النازيين الجدد وغيرهم من المتطرفين اليمينيين. وقد صيغت عدة أطر قانونية وسياسية دولية على أنها «موجهة لمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره». وأثبتت دول مثل المملكة المتحدة أن تدابير مكافحة الإرهاب قد تكون تدابير عامة تتصدى لطائفة واسعة من التهديدات ذات الدوافع الأيديولوجية المتناقضة. ويكافح شركاء الولايات المتحدة وحلفاؤها من النمسا إلى أستراليا التحدي المتزايد المتمثل في جماعات العنصريين البيض المتطرفة العنيفة العابرة للحدود، ولذلك يتعين على الدول الغربية الانخراط في تعاون وثيق لمعالجة وباء التطرف اليميني كما فعلت لمواجهة التهديد الذي تشكله الجماعات السلفية الجهادية.

إن الاعتراف بالحاجة الملحة للتصدي للتهديد الذي يشكله صعود الصين وعدوانية روسيا وهجوم إيران وحضور تركيا القوي لا يلغي الحاجة إلى عمليات مكافحة الإرهاب وإقامة الشراكات لتبادل المعلومات والبيانات الاستخباراتية. والواقع أن اثنين من البلدان المذكورة أعلاه يقعان على خط التماس بين مكافحة الإرهاب ومنافسة القوى العظمى. ويعد الانفصاليون الروس في أوكرانيا والحوثيون في اليمن مثالين نموذجيين على التلاقي بين جهود مكافحة الإرهاب ومنافسة القوى العظمى. فكلاهما عناصر فاعلة عنيفة غير حكومية مدربة تدريبا جيدا، تدعمها دول قومية قوية، ومجهزة بأسلحة عالية التقنية، بما في ذلك مجموعة من الصواريخ المتطورة. وكما أثبتت الصراعات الأخيرة في ليبيا وإقليم ناغورنو كاراباخ، فإن الاعتماد على الجهات الفاعلة العنيفة غير الحكومية قد يكون فعالا في قلب توازن القوى. ولعل هذا هو الاتجاه الذي من المحتمل أن نرى المزيد منه في المستقبل. وتتمتع كل من روسيا وتركيا وإيران بدرجات متفاوتة من النجاح في استخدام الشركات العسكرية الخاصة والمقاتلين الأجانب والميليشيات الطائفية. وأصبح العمل من خلال هذه الجهات الفاعلة الوسيلة المفضلة في كثير من الحالات، لما يخلقه ذلك من التشويش والغموض مع تجنب التصعيد المباشر. وفي حين أن بيروقراطية الأمن القومي الأمريكية تتجادل حول تعريف «عمليات المنطقة الرمادية» و«الحرب المختلطة»، فإن موسكو وأنقرة وطهران تقوم بتدريب قوات غير نظامية وتجهيزها ونشرها للانخراط في حروب غير متكافئة، غير مبالية بالتعريفات والعقائد القتالية، ولكنها تركز على تأمين أهداف سياستها الخارجية بأي وسيلة ضرورية. ولذلك كله فإن مكافحة الإرهاب جزء لا يتجزأ من معالجة الأولويات الجيوسياسية وأولويات منافسة القوى العظمى.

وبمعزل عن الأصوات المتنامية في دوائر صناعة القرار في واشنطن العاصمة التي تؤكد أن مكافحة الإرهاب باتت في خبر كان، فإن على إدارة بايدن أن تقاوم النزعة نحو التغيير الحاد في السياسات لئلا ينقلب تصحيح السياسات إلى أخطاء فادحة. وبعد عقدين من وتيرة العمليات التي لا هوادة فيها وملاحقة الإرهابيين في المناطق النائية من العالم، فإن الدخول في مرحلة من الفتور نتيجة حتمية. ولا ينبغي أن تكون مكافحة الإرهاب بديلا عن الاستراتيجية الكبرى، ولكن لا ينبغي في الوقت نفسه رفضها بصفتها من مخلفات السنوات الماضية. فهي لاتزال جزءا لا يتجزأ من النهج الشامل للأمن القوم الأمريكي ولا يمكن فصلها تماما عن منافسة القوى العظمى. إن الإرهاب تكتيك متبع، ولن تزول الجماعات الإرهابية بالتوقف عن مكافحتها. وفضلا عن ذلك، يمكن للدول التحكم بالجماعات الإرهابية من أجل تحقيق أهدافها الخاصة في منافسة القوى العظمى. وقد نسحب أيدينا من قضية الإرهاب، ولكن هذا لا يعني أن الإرهاب سيدعنا وشأننا.

 

شكل ظهور الإستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب، البداية الفعلية لمراجعة أمريكية شاملة للأهداف والوسائل والتحديات التي تواجه الأمن القومي الأمريكي في المراحل السابقة لأحداث 11 أيلول /سبتمبر 2001. إذ سعت الولايات المتحدة لإعادة تعريف وتحصين أمنها القومي وفقاً لإدراكها لما تواجهه من أنماط تهديد جديدة، والتي يعد الإرهاب من أبرزها. فقد لبى الأخير حاجة الولايات المتحدة الى عدو مركزي تستهل به القرن الحادي والعشرين. فليس بإمكان الولايات المتحدة أن تعيش بدون ضد تقهره، ومقاوم تسلبه أرادته، ومستقل تزرع لديه هواجس الخوف من مصير مجهول بعد أن تشوش أهدافه. وقد تجلى ذلك حال تسلم إدارة الرئيس بوش الابن مسؤولياتها في يناير 2001. إذ مارست سلوكاً متشدداً أفصحت عنه مجموعة من السياسات التي عكست بمجملها رؤية محافظة تجاه القضايا والملفات التي تتعامل معها الولايات المتحدة الأمريكية داخلياً وخارجياً. وذلك عبر تأكيد إعمال القوة الأمريكية، و يرى في ذلك كثير من الجمهوريين ومعهم عناصر مؤثرة في الإدارة الأمريكية. فالولايات المتحدة ترى نفسها وطناً استثنائياً وتاريخي النشأة، لابد من أن يسود ويهيمن، ولا بأس من ممارسة القوة في سبيل ذلك. وعلى الرغم من ان (الحرب على الإرهاب) أصبحت العنوان الرئيس للإستراتيجية الأمريكية في مرحلة ما بعد أحداث أيلول / سبتمبر 2001، فالإدارة الأمريكية لم تطرح تعريفاً محدداً لما أعلنت الحرب عليه. إذ راح المسؤولون الأمريكيون يكررون حديثاً عاماً عن شبكات وتنظيمات إرهابية ونظم ترعى الإرهاب وتقدم له المعونة، وجهات تقوم بتمويله …الخ. وفي هذا الإطار أصبح العرب والمسلمون في بؤرة التعريف الأمريكي للإرهاب. فالعديد من التنظيمات التي أدرجتها الإدارة الأمريكية على لوائحها كتنظيمات إرهابية موجودة في دول عربية وإسلامية، كما ان الإدارة الأمريكية عدت الأسلوب العسكري/ الأمني هو المدخل الرئيس لمكافحة الإرهاب في حرب ستكون طويلة وممتدة ومتعددة الجبهات والأساليب، حسب التوصيف الأمريكي الرسمي لها، بكل ما يعنيه ذلك من تجاهل أمريكي ربما كان مقصوداً للأسباب والعوامل البنائية التي خلقت الإرهاب ولم تزل تغذيه. أي أن الإستراتيجية الأمريكية تقوم على التعامل مع مظاهر الإرهاب وليس مع جذوره وأسبابه. مقوضة لأي تمييز بين الإرهاب من ناحية، والحق المشروع في مقاومة الاحتلال الأجنبي من ناحية، وهو حق يقره القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فضلاً عن تجاهلها الدعوات كافة التي طالبت بعقد مؤتمر دولي في إطار الأمم المتحدة للاتفاق على تعريف لمفهوم الإرهاب وتحديد سبل مكافحته استناداً الى الشرعية الدولية. ومما زاد من ضبابية الموقف الأمريكي من الإرهاب، إصرار الإدارة الأمريكية وربما قناعتها بأنها تستمد قدراً كبيراً لنفوذها من القبول الواسع لدورها حول العالم‏.‏ فهي ترى ان الدور الأمريكي لم يكن مقبولا فقط‏،‏ وإنما كان مطلوبا بشدة أيضاً‏‏ في معظم القضايا الدولية‏،أثارت دون أي أدراك للشكوك القوية التي تنال من مصداقية ذلك الإصرار ولاسيما في ظل حربها على الإرهاب،‏ والتي أثارت تساؤلات عميقة بشأن مدى رشادة الإستراتيجية الأمريكية بكليتها، هذا من جانب، ومن جانب آخر فمن المعروف أن استحواذ الولايات المتحدة على مكانة القوة العظمى الوحيدة في العالم هو بحد ذاته أمر يستفز الكثير من القوي الدولية التي تخشى تقليديا من هيمنتها‏.‏ وهو ما ستحاول هذه الدراسة أن تصل اليه من خلال فهم طبيعة العلاقة بين إستراتيجية مكافحة الإرهاب الأمريكية من جهة والهيمنة الأمريكية من جهة أخرى.

 

على الرغم من كل الحديث عن تغيير حالة الأمن القومي الأمريكي، إلّا أن الواقع هو أن تكثيف جهود مكافحة الإرهاب والتنافس مع روسيا والصين يمكن أن يعزز كل منهما الآخر بقليل من التخطيط الاستراتيجي.

تَميز نهج الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر بموقف عالمي قائم على الدفاع الأمامي العدواني. وكما قال وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس، “من الأفضل محاربتهم على خط العشر ياردات لديهم بدلاً من مقاتلتهم على خط العشر ياردات لدينا”. وقد حقق هذا المشروع لمكافحة الإرهاب نجاحاً ملحوظاً من منظور تكتيكي، حيث أسفر عن إحباط هجمات وتعطيل شبكات إرهابية. وتتطلب الحماية من الهجمات المستقبلية تيقظاً وحذراً مستمرين، ولكن بعد مضي ما يقرب من عشرين عاماً على أحداث 11 أيلول/سبتمبر، هناك إجماع متزايد على أن موقف الدفاع الأمامي الذي تنتهجه الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب غير مستدام مالياً وغير متوازن استراتيجياً مع احتياجات الموارد الخاصة بتهديدات الأمن القومي الأخرى. وقد اتفقت الإدارتان الأمريكيتان السابقتان على وجوب قيام الولايات المتحدة بتقليص وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم، وعكْسْ النموذج القائم منذ وقت طويل لنهج مكافحة الإرهاب العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة ويمكّنه الشركاء، وتركيز جهودها على الجماعات الأكثر قدرة على استهداف الوطن [الأمريكي]. وكما توضح “استراتيجية الدفاع الوطني” لعام 2018، فإن “التنافس الاستراتيجي بين الدول هو اليوم الشاغل الرئيسي للأمن القومي الأمريكي، وليس الإرهاب”. ولكن مع بدء إدارة بايدن في تنفيذ قرارها بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان، أثبتت ترجمة هذه الأفكار على أرض الواقع أنها هدف بعيد المنال.

“أخبِرْني أين يجب أن ننفق مواردنا”

تستحوذ الهجمات الإرهابية على انتباه الجمهور، فتؤدي إلى انحراف العملية السياسية بطبيعتها المتمثلة في تطوير الاستجابة الوطنية للإرهاب وتزويدها بالموارد، لا سيما بمرور الوقت. إلّا أن الولايات المتحدة تواجه مجموعة واسعة من تهديدات الأمن القومي – البرامج النووية، والأمن السيبراني، والتحديات البيئية، والتجسس الأجنبي، والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، وأمن الانتخابات، والدول الفاشلة، على سبيل المثال لا الحصر – والحقيقة هي أن عقوداً من الاستثمار للتصدي لتهديد حاد يمكن أن يأتي، بمرور الوقت، على حساب الاستثمار في مواجهة تهديدات أخرى بنفس القدر من الإلحاح. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2019، قال القائم بأعمال “مدير المركز الوطني لمكافحة الإرهاب” [في الولايات المتحدة]، راسل إي ترافرز، “لن نقضي على الإرهاب قط، ولكن تم إنجاز قدر هائل من الأعمال الهامة، مما يسهل إجراء محادثة حول المخاطر المقارنة”.

في عام 2013، أصدرت إدارة أوباما تعليمات للبنتاغون بالتركيز على آسيا، إلا أن هجوم بنغازي عطّل هذه الخطط. فبدلاً من نقل الجنود من أفريقيا إلى آسيا، أرسل باراك أوباما في النهاية المزيد من الموارد إلى أفريقيا أكثر مما كانت عليه قبل التحوّل إلى التركيز الجديد. ولم تكن النتيجة تحولاً نحو آسيا بل نحو أفريقيا، والذي وصفه بعض المسؤولين بأنه “استدارة 360 درجة نحو آسيا”. وفي عام 2016، دعا الرئيس أوباما إلى تبني “نظرة طويلة الأمد للتهديد الإرهابي”، والتي لا بد من أن تكون “استراتيجية ذكية قابلة للاستمرار”. وأضاف أن أساس إعداد استراتيجية مستدامة لمكافحة الإرهاب “يعتمد على إبقاء التهديد في إطاره الصحيح” وتجنب التجاوزات. وأكدت الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب التي وضعها الرئيس دونالد ترامب أنه “كلما كان ذلك ممكناً، يجب على الولايات المتحدة تطوير مناهج أكثر كفاءة لتحقيق أهدافنا الأمنية، والاعتماد على حلفائنا للقضاء على الإرهابيين والإبقاء على الضغط المستمر ضدهم.” ويعني ذلك التعاون لكي تأخذ الحكومات الأجنبية زمام المبادرة حيثما كان ذلك ممكناً، والعمل مع الآخرين لكي يتمكنوا من الاضطلاع بالمسؤولية في الحرب ضد الإرهابيين.

وإدراكاً منها أن الأحداث التي تزامنت مع عهد أوباما طغت على جهود إدارته الرامية إلى اعتماد مثل هذا الإطار، أصدرت إدارة ترامب سلسلة من الوثائق الاستراتيجية للأمن القومي في محاولة لتوفير إطار لمثل هذه المقاربة. ولكن عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب، قدمت الاستراتيجيات توجهاً استراتيجياً متضارباً. وفي حديثه في شباط/فبراير2017، طرح رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال جوزيف إي دانفورد إطار عمل “4 + 1” يعمل على توجيه وزارة الدفاع لتحديد أولويات التهديدات الدولية والقدرات اللازمة لمواجهتها. وتتعلق الأولويات الأربع الأولى بالمنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا، يليها التهديدان الإقليميان اللذان تطرحهما إيران وكوريا الشمالية. أما مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف فتمثلا بـ “زائد واحد” في إطار “4 + 1”.

وفي السنوات التي تلت ذلك، ساد الارتباك في النقاش الدائر حول كيفية تفعيل هذا التحول المعلن من حيث تخصيص الموارد أو تحديد أولويات المهام. ولم يؤدِّ إنتاج ثلاث استراتيجيات للأمن القومي غير متوائمة إلى حد كبير أثناء إدارة ترامب سوى إلى تفاقم المشكلة. وعلى حد تعبير مسؤول أمريكي سابق رفيع المستوى في مكافحة الإرهاب، “أتحدى أي شخص بأن يقرأ “استراتيجية الأمن القومي”، و”استراتيجية الدفاع الوطني”، و”الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب” ويخبرني أين يجب أن ننفق مواردنا”. وفي غضون أسابيع من تولي بايدن منصب الرئاسة، أصدرت إدارته ورقة توجيهية مؤقتة لاستراتيجية الأمن القومي، تشير فيها إلى الحاجة إلى “مواجهة التحديات ليس فقط من القوى العظمى والخصوم الإقليميين، ولكن أيضاً من الجهات العنيفة والإجرامية غير التابعة للدول والمتطرفين”، من ضمن تهديدات أخرى بدءً من التغير المناخي وإلى الأمراض المعدية وغيرها. ولكن على غرار استراتيجيات إدارة ترامب، تفتقر هذه الورقة الإرشادية المؤقتة إلى توجيهات بشأن كيفية تخصيص موارد محدودة لمواجهة هذه التهديدات.

مكافحة الإرهاب كعملة في تنافس القوى العظمى

في نظر البعض، يمكن للولايات المتحدة إما الاستعداد للمنافسة بين القوى العظمى أو خوض “حروب هامشية” في أماكن مثل سوريا أو اليمن التي هي من مخلفات حرب على الإرهاب عفا عليها الزمن، وليس كليهما. وفي الواقع، على الرغم من كل الحديث عن التحوّل بعيداً عن مكافحة الإرهاب ونحو المنافسة بين القوى العظمى، فإن الحقيقة هي أنه من خلال تأمين حد أدنى من التخطيط الاستراتيجي، تعزز هذه الجهود بعضها البعض، ولا تلغي الواحدة الأخرى. وتُعدّ عمليات الانتشار العسكرية القليلة الضرورية للمحافظة على موقف فعال لمكافحة الإرهاب الطرف النقيض لـ “الحروب اللامتناهية” من حيث الحجم والتكلفة والمخاطر، ويجب السعي إليها لدعم التحالفات الدولية والحلفاء المحليين. وإلى جانب قيمة هذه التحالفات في مكافحة الإرهاب، فإنها ستثبت أهميتها في صد المنافسين ذوي القوة العظمى والمشابهة.

ويتطلب التنافس العالمي مع دول أمثال روسيا والصين أن تأخذ الولايات المتحدة بعين الاعتبار ليس فقط مجموعة المصالح الخاصة بها ولكن أيضاً احتياجات وتصورات التهديدات الخاصة بشركائها المحليين. فالتركيز على تنافس القوى العظمى فحسب في علاقة الولايات المتحدة مع الدول الأخرى قد يؤدي إلى تجاهل مخاوف تلك الدول المتعلقة بمكافحة الإرهاب (وغيرها من المخاوف)، والتي غالباً ما تكون من بين أولوياتها القصوى. وكما يشير بريان مايكل جينكينز، إنّ “المساعدة في مكافحة الإرهاب هي عملة”. ويمكن من خلال هذه العملة شراء نوايا حسنة وشراكات متمحورة حول مجموعة واسعة من المصالح الأخرى، بما فيها تنافس القوى العظمى. والعكس صحيح أيضاً: إذا رفضت الولايات المتحدة مساعدة الدول الأخرى على تلبية احتياجاتها المتعلقة بمكافحة الإرهاب، فذلك يخلق فراغاً ستملؤه دول مثل روسيا والصين، أو إيران وتركيا. ولن تتدخل هذه الدول بطرق مفيدة، بل ستستخدم قوة محدودة لتحقيق تأثير هائل. ويوضح وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن أن مفتاح التعامل مع الصين “يأتي أولاً وقبل كل شيء من العمل بالتنسيق الوثيق مع الحلفاء والشركاء الذين قد يكونون متضررين بالمثل من بعض ممارسات الصين. وعندما تعمل الولايات المتحدة على افتعال معارك مع حلفائها عوضاً عن العمل معهم، فإن ذلك يضعف قوتها في التعامل مع الصين”. ويمكن أيضاً الاستفادة من علاقات مكافحة الإرهاب مع الدول التي تعتبر تلك المسألة الهاجس الأمني الرئيسي لها لأغراض أخرى، بما في ذلك تنافس القوى العظمى.

لنأخذ على سبيل المثال أنشطة مكافحة الإرهاب الأمريكية في أفريقيا، التي تمثل حوالي 0.3 في المائة من أفراد وموارد الميزانية الخاصة بوزارة الدفاع وتتضمن بشكل أساسي أدواراً تدريبية وإرشادية. ففي كانون الأول/ديسمبر 2019، وفي إطار المراجعة التي أجراها وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر لعمليات الانتشار العالمية، قدم “مقترحات لخفض كبير في عدد القوات الأمريكية، أو حتى سحبها بالكامل من غرب أفريقيا”، مع التركيز على “الدفع باتجاه تقليل البعثات التي تم إرسالها ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر لمحاربة الجماعات الإرهابية، وبدلاً من ذلك إعادة تركيز أولويات البنتاغون على مواجهة ما يسمى بالقوى العظمى مثل روسيا والصين”. وقبل بضعة أشهر فقط من ذلك التأريخ، في آذار/مارس 2019، أدلى الجنرال توماس والدهاوزر، قائد “القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا” (“أفريكوم”)، بشهادته أمام الكونغرس الأمريكي، مفيداً أن “التهديدات التي نعمل ضدها لا تشكل بالضرورة تهديداً للوطن [الأمريكي] وقد لا تشكل تهديداً للمنطقة ككل”. وعلى الرغم من النقص المزمن في عدد أفرادها، شهدت “أفريكوم” تخفيضات وصلت إلى 10 في المائة من قواتها في القارة الأفريقية، من أجل التصدي لتحديات أمنية في أماكن أخرى. وهنا ننتقل بسرعة إلى كانون الأول/ديسمبر 2020، عندما وجهت وزارة العدل الأمريكية لائحة اتهام ضد مواطن كيني بتهمة التآمر لاختطاف طائرة من أجل تنفيذ مخطط إرهابي على غرار هجمات 11 أيلول/سبتمبر بالنيابة عن جماعة “الشباب” الإرهابية التي تتخذ من الصومال مقراً لها. وتتطور هذه التهديدات بسرعة عندما يعمل الإرهابيون في ملاذات آمنة نسبياً، مما يقوض فعالية الاختبار الحاسم للتهديدات اللاحقة بالوطن [الأمريكي].

وسواء كان تنظيم «القاعدة» أو «الدولة الإسلامية» أو الجماعات الإرهابية الأخرى في أفريقيا تشكل تهديداً مباشراً للوطن الأمريكي اليوم أم لا، فقد أصبحت أفريقيا بؤرة إرهابية سريعة النمو، حيث تتضاعف حوادث التطرف العنيف في منطقة الساحل كل عام منذ 2015. ومن الحماقة الانتظار إلى أن ينتشر هذا التهديد ويشكل فجأةً تهديداً للوطن [الأمريكي] قبل اتخاذ قرار بالانخراط بشكل ناشط للمساعدة في مكافحة الإرهاب في أفريقيا. ويمكن أن تكون هذه الجهود بقيادة الشركاء ويتم تمكينها من قبل الولايات المتحدة مع التركيز على الاستفادة من القدرات الاستخباراتية الفريدة للولايات المتحدة، ولا تتطلب بالضرورة نشر أعداد كبيرة من الجنود. ومن المؤكد أن عليها التركيز ليس فقط (أو حتى بشكل أساسي) على الدعم العسكري بل على بناء القدرات المدنية لمكافحة الإرهاب. إن البدء في إعادة الانتشار من أفريقيا، وهو أمر صغير وميسور التكلفة وفعّال، بشأن الحاجة إلى التحول نحو تنافس القوى العظمى، يبدو غير منطقي نظراً لأن القارة الأفريقية تشكل مرتعاً للأنشطة الروسية والصينية.

ليست جميع عمليات الانتشار “حروباً لا نهاية لها”

بالعودة إلى عام 2020، أشار قائد “القيادة المركزية الأمريكية”، الجنرال ماكنزي، إلى أن “روسيا والصين استغلتا الأزمات الحالية والإقليمية، والاحتياجات المالية واحتياجات البنى التحتية، والتصور حول تراجع المشاركة الأمريكية، والفرص التي أتاحتها جائحة فيروس كورونا (“كوفيد-19″)، لتعزيز أهدافهما في جميع أنحاء الشرق الأوسط”. وتقدم سوريا، على وجه التحديد، مثالاً واضحاً آخر على انتشار عسكري صغير وغير مكلف وقليل الخطورة أنتج مكاسب كبيرة في مجال مكافحة الإرهاب ومنع انتشار صراع إقليمي خطير. وفي المقابل، “كان الدافع الأساسي للكرملين في سوريا هو الحد من النفوذ الأمريكي في الشؤون العالمية وإبراز المكانة الخاصة للكرملين كقوة عظمى، وليس محاربة الإرهاب”.

وتُعتبر البعثة التي تقودها الولايات المتحدة في شرق سوريا، والتي تنطوي على مشاركة كبيرة من الشركاء الدوليين والمحليين، الركن الأساسي في الجهود المستمرة التي يبذلها التحالف الدولي لمحاربة العناصر المتبقية من تنظيم «الدولة الإسلامية» ومنع عودته في أعقاب هزيمته في المنطقة في آذار/مارس 2019. وبحلول أواخر عام 2019، قام حوالي 2000 عنصر من “القوات الخاصة” الأمريكية في سوريا بإرساء قوة محلية قوامها حوالي 60 ألف مقاتل سوري لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». كما تدعم القوة الأمريكية في سوريا الجهود الحالية لاستهداف عناصر تنظيم «القاعدة» في سوريا، بمن فيهم أولئك الذين ينوون تنفيذ هجمات تستهدف المصالح الأمريكية، مثل تنظيم «حراس الدين». وفي أيلول/سبتمبر 2020، أسفر هجوم أمريكي بطائرة بدون طيار بالقرب من إدلب عن مقتل قيادي بارز في تنظيم «القاعدة»، الذي وفقاً لبعض التقارير كانت شبكته تخطط لشن هجمات ضد أهداف غربية، من بينها الولايات المتحدة. وتشكل القوات الأمريكية في قاعدة “التنف” العسكرية أيضاً حصناً ضد القوات الروسية والإيرانية وتلك التي تعمل بالوكالة عن إيران. إن سحب القوات الأمريكية المنتشرة على نطاق صغير في سوريا – والذي أعلن الرئيس ترامب عدة مرات أنه يعتزم القيام به – قد يخلق فراغاً في السلطة ستملأه روسيا. على سبيل المثال، بعد وقت قصير من تخلي القوات الأمريكية عن قاعدة عسكرية بالقرب من حلب، استولت القوات الروسية على المنشأة التي بنتها الولايات المتحدة. ووفقاً لكل المقاييس، تتواجد السياسة المتعلقة بسوريا عند تقاطع التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وتحديات المنافسة بين الدول. ويقول المنسق السابق للتحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، بريت ماكغورك، “باختصار، إن الحملة الأمريكية ضد تنظيم «داعش» ليست – ولم تكن أبداً – «حرباً لا نهاية لها» أسوةً بتلك التي شجبها ترامب في خطابه عن «حالة الاتحاد» في شباط/فبراير 2019”.

وفي حديثه في آب/أغسطس 2020، توقع قائد “القيادة المركزية الأمريكية” الجنرال كينيث ماكنزي جونيور أن تحافظ القوات الأمريكية وقوات “حلف شمال الأطلسي” (“الناتو”) على “وجود طويل الأمد” في العراق، ليس فقط لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكن أيضاً لردع أنشطة إيران ووكلائها في العراق. وتُعتبر عمليات الانتشار هذه ضرورية لاحتواء التهديدات والتحقق من أنشطة الجهات الحكومية، مع بناء قدرة الشركاء المحليين للإضطلاع بهذه المهام بمفردهم. وبحلول شباط/فبراير 2021، أوضح الجنرال ماكنزي هذه النقطة: “هدفنا في المرحلة القادمة هو الاستمرار في تطوير قدرة شركائنا المحليين على مواصلة القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في مناطقهم وتمكين هذه القدرة دون مساعدة خارجية”.

يتمثل أحد المظاهر الشائعة بشكل متزايد لتنافس القوى الاستراتيجي بين الدول في استخدام الوكلاء المتشددين والإرهابيين. لنأخذ مثلاً الدور الواسع للميليشيات الشيعية في سوريا التي تعمل بالوكالة عن إيران وروسيا، أو الميليشيات الشيعية التي تعمل بالوكالة عن إيران في العراق، أو المرتزقة الروس الذين يقاتلون في ليبيا بدعم لوجستي من الحكومة الروسية، أو تقديم روسيا مكافآت للمقاتلين الأفغان مقابل قتلهم جنود أمريكيين في أفغانستان. وقد استخدم المتمردون الانفصاليون في أوكرانيا أسلحة متطورة تلقوها من روسيا، في حين مكّنت إيران “الحوثيين” في اليمن من نشر صواريخ أرض-أرض وصواريخ مضادة للسفن موجهة بدقة، وتنفيذ هجمات “سربية” مسلحة بطائرات بدون طيار. وتضمن هجوم إيران على منشآت النفط السعودية في بقيق طائرات بدون طيار أطلقتها جماعات مسلحة شيعية في العراق، بينما سلطت هجمات الطائرات بدون طيار التي استهدفت السعودية عام 2021 الضوء على الأنشطة العملياتية المتكاملة بشكل متزايد لوكلاء إيران في العراق واليمن. وفي الواقع، تشير جماعات مثل «حزب الله» إلى اهتمام أمريكا في التحول إلى تنافس القوى العظمى مع روسيا والصين كدليل على أن الولايات المتحدة قد تفكر في التعامل مع الجماعات المسلحة بشكل مختلف. ولكن أي جهد للتعامل مع إيران يجب أن يتصدى لحرب طهران غير المتكافئة في المنطقة الرمادية بين الحرب والسلام. وسيشمل صد المغامرات الروسية والصينية في جميع أنحاء العالم مجالات العمليات التي يمكن فيها لأدوات مكافحة الإرهاب وشراكاتها أن تلعب أدواراً حاسمة في تنافس أوسع بين الدول.

وبينما تقوم إدارة بايدن بمراجعة السياسات الحالية لمكافحة الإرهاب، يجب أن تبذل كل ما في وسعها لعدم النظر إلى كل من مكافحة الإرهاب وتنافس القوى العظمى من منظور ثنائي قائم على النصر أو الهزيمة، بل كجهود مستمرة – بخلاف الحرب والسلام – تُستخدم فيها أدوات فتاكة وغير فتاكة لمنافسة الخصوم وعرقلة الأعمال الإرهابية. وفي إطار أي عملية إعادة تنظيم، سيستمر الجيش الأمريكي في الاضطلاع بأدوار حاسمة في مكافحة الإرهاب، من خلال توليه زمام القيادة في الحالات التي يهدد فيها الإرهاب الوطن [الأمريكي] أو مصالح الولايات المتحدة في الخارج، ودعم الجهود التي يقودها الشركاء في أماكن أخرى حول العالم. ومع ذلك، يجب اتخاذ هذه القرارات بشكل استراتيجي واستناداً إلى قائمة الظروف التي يمكن في ظلها نشر الأصول العسكرية الأمريكية في الخارج، ضمن مناوبات صغيرة ولكن غير محددة زمنياً أو ضمن قوات رد سريع تضطلع بأدوار قيادية أو داعمة. ويمكن أن تشمل الأمثلة التهديدات اللاحقة بالوطن [الأمريكي]، أو فرص مكافحة الإرهاب منخفضة التكلفة وذات الأرباح الكبيرة، أو خطر رفض المشاركة في جهود مكافحة الإرهاب الذي يمكن أن يؤدي إلى تكاليف مرتبطة بتنافس القوى العظمى.

وقد تكون البعثات الصغيرة لمكافحة الإرهاب في أماكن مثل أفغانستان والعراق وسوريا وأفريقيا ضرورية لمنع الجماعات الإرهابية من السيطرة على الأراضي أو التخطيط لهجمات خارجية انطلاقاً من ملاذات آمنة للإرهابيين. ولا ينبغي أن تنطوي عمليات الانتشار هذه بعثات بقيادة الولايات المتحدة؛ إذ يمكن أن تدعم مبادرات يقودها الشركاء مثل عملية “برخان” بقيادة فرنسا في منطقة الساحل. وفي العراق، حيث ينتشر 2500 جندي أمريكي، أعلن حلف “الناتو” عن خطط لزيادة انتشاره العسكري من 500 إلى 4000 جندي وتوسيع مهمته التدريبية إلى خارج بغداد. وحتى في أفغانستان، من المرجح أن تسعى حكومة كابول إلى الحصول على تمويل أمريكي من أجل الإبقاء على المتعاقدين الغربيين للمساعدة في تلبية مجموعة متنوعة من الاحتياجات الملحة، بما فيها الأمن. وعادةً ما تلعب هذه النقاط الساخنة أيضاً أدواراً مهمة في تنافس القوى العظمى. وبينما يعمل فريق بايدن على تطوير تقرير “التوجيه الاستراتيجي للأمن القومي” الذي أصدره حديثاً، فمن الأفضل أن يدرك أن التداخل بين مخطط “فين” لمكافحة الإرهاب وتنافس القوى العظمى يقدم فرصاً أكثر من التحديات.

أحدث المقالات