معلوم ان أي ضدين لو تناحرا يكون هناك بالنتيجة غالب ومغلوب، وكل طرفين يقتتلان يكون هناك -عادة- منتصر وخاسر، وهذا مادأبت عليه الخليقة مذ بدئها أمما وحضارات. اليوم تشهد الساحة العراقية تناحرا واقتتالا يختلفان كل الاختلاف عن تلكم التناحرات والاقتتالات.
هناك حكاية قديمة من تراثنا العراقي تقول أن هناك أبا له من الأولاد اثنان، لم يكونا على وفاق يوما، وما انفكا عن التناحر فيما بينهما ساعة حتى يعودا الى الشجار ساعات، فأراد الأب ان ينقل لأبنائه صورة عن نتيجة الاقتتال بينهما وما تسفر عنه الأيام القادمة لو استمرا على نهج الخلاف هذا. فأشار اليهما ان يأتيا بعصاتين كان قد صنعهما من ساق شجر نفيس واحتفظ بهما لقيمتهما المادية الثمينة، وطلب منهما ان يتنازلا أمامه باستخدام العصاتين، وجعل العصا التي يحملها الفائز هدية له. فاحتدم العراك حتى كسر الأول عصا الثاني، وفاز الأول بالمنازلة، فصارت العصا ملكه.
ثم طلب منهما أن يأتي كل منهما بـ (تنگه) -وهي المشربة المصنوعة من الطين المفخور- وطلب منها أن يتنازلا أمامه باستخدام كل واحد منهما الـ (تنگه) التي في يده، ولما بلغ النزال أشده ضرب كل منهما الآخر بما في يده، فما كان من الـ (تنگتين) إلا ان تناثرتا على الأرض كلتاهما، وخرج الإثنان من النزال خاسرين. كان ذلك درسا بليغا أراد الأب ان يوصله الى ولديه، هي ان الصراع بينهما لن يسفر عن فائز او رابح او غالب، فالإثنان سيهزمان ويخيبان في نزالهما. ومثلهما كمثل الـ (تنگتين) فكلاهما من طين.
أرى ان لهذه الحكاية اليوم مايحاكيها في حيثياتها وصورها، وحتما سيحاكيها في نتائجها، وهو مايحدث من صراعات بين الساسة وأرباب الكتل والأحزاب فيما بينهم، باستخدام وسائل التشهير وكيل الاتهامات، فضلا عن نشر غسيل بعضهم أمام مرأى الجميع في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، الأمر الذي يخرج من طور التنافس المشروع، ويدخل في طور التنافس اللاأخلاقي وغير المشروع، وبالنتيجة تكون المردودات والنتائج في مصلحة تنأى عن مصلحة المواطن والمصلحة العامة.
وقد فات أولئك الساسة المشاركين في ماراثون المصالح والمآرب الأنانية، ان كل متسابق له من النتائج إثنان لاغيرهما، فأما النجاح وأما الخسارة، إلا سباقهم فهم سينحون منحى ابنَي صاحبنا في حكايتنا المذكورة، فجميع من تنافس منهم من دون وجه حق او بتشويه حق الآخرين، لن يحصدوا غير الخسارة والخذلان، فأما الخسارة فهي من نصيبهم في الدنيا، أمام المواطن وأمام معيتهم من الشرفاء الذين سيكتشفون أمرهم، وأما الخذلان فنصيبهم منه مزدوج، إذ هو في الدنيا حيث لم يفوا بوعدهم للعراقيين وخذلوا الأصابع البنفسجية الشريفة، وفي الآخرة حيث خذلوا قسمهم في أداء واجبهم الوطني والإنساني وابتعدوا عن شريعة السماء والأنبياء والأولياء بوجوب الحسنى بالرعية.
وبذا على ساستنا اليوم إعادة النظر بطرق التنافس وإبراز الكفاءة، كذلك بوسائل تعريف الناس بهم، والاستعانة بما هو أنسب وأنظف وأكثر جدوى، لمن يبتغي الوصول السليم الى المكان السليم والمكانة السليمة.
[email protected]