5 نوفمبر، 2024 5:53 م
Search
Close this search box.

التمركز الأمريكي في التنف السوري … وما وراءه

التمركز الأمريكي في التنف السوري … وما وراءه

مقدمة
تصاعدت وتائر الأخبار عن “التنف السوري”، بشكل مفاجئ منذ شهر حزيران/2017 المنصرم، حيث أنشأ الأمريكيون بعجالة مشهودة قاعدة عسكرية برية واسعة نشروا فيها دبابات خفيفة ومدرعات ومدافع على مبعدة (30) كلم عن مثلث الحدود السورية-العراقية-الأردنية، ناقلين إليها أسلحة أرضية ثقيلة ومقاومة طائرات ومنظومات راجمات حديثة من طراز (HIMARS) متعددة السبطانات (المواسير) لمديات قصيرة ولكنها تتميز بقابلية إستثنائية لإطلاق صواريخ أرض-أرض لغاية (300) كلم تبلغ حتى العاصمة “دمشق”، فارضين حولها نطاقاً أمنياً بواقع (55) كلم وسط صحراء قاحلة جرداء لا تبدو في واقعها ذات أهمية تُذكَر، ولكنها تحوّلت بين عشية وضحاها إلى بقعة إستراتيجية يكمن وراءها العديد من الأهداف والغايات السياسية، وقد دافع الأمريكيون عن بقاع إنتشارهم بقوة بقصف طائراتهم قوات سورية ومن بصحبتها كانت تتقدم نحوهم، وإسقطت طائرة هجوم أرضي سورية طراز (سوخوي-22) وأخرى مسيّرة من دون طيار.
ما أهمية “التنف” إستراتيجياً
الذي يحلّق في أجواء “التنف” القاحل أو يفرش خريطته أمام ناظريه، لا يجده سوى بقعة تافهة لا قيمة لها، ولا يعدو غير مبانٍ بسيطة لمكاتب صغيرة لشرطة الحدود وموظفي الجوازات والكمارك السورية، تتقابل معها مبانٍ مشابهة في “معبر الوليد” الحدودي العراقي … ولكن ينبغي الإستذكار كم من بقاع بسيطة متواضعة في أقصى شمالي “ليبيا، الجزائر، وتونس” والعشرات من الجزر النائية غير المسكونة وسط البحار والمحيطات قد تحوّلت إلى مواقع ذات أهمية إستراتيجية عظيمة في معظم سنوات الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945) فسالت في جبالها ووهادها سيول من الدماء وتناثرت فيها أجساد عشرات الآلاف من عساكر الدول المتحاربة في سبيل الإحتفاظ بها أو إنشاء معسكرات أو مطارات في ربوعها.
ولا أبتغي تشبيه “التنف” بتلك المناطق، إلاّ أنه يتميّز بكونه:-
• ملتقى حدود (3) دول، إثنتان منها (عدا الأردن) تشوبها أوضاع أمنية خطيرة منذ أعوام عديدة.
• أحد أهم (4) من المعابر الحدودية الرسمية بين العراق وسوريا، والوحيد الذي أصبح (شبه خالٍ) من سيطرة (داعش) مؤخراً.
• يقع تقريباً في منتصف الطريق الدولي الأهم الرابط بين “بغداد” إلى المدن الساخنة “الفلوجة- الرمادي- البادية الغربية- الرطبة” نفاذاً إلى بقاع أعظم سخونة في “جنوب شرقي سوريا” ثم نحو “تدمر، حمص، ودمشق” فـ”لبنان”.
• قريب للغاية من تخوم أرض المملكة الأردنية -المتحالفة مع “واشنطن”- والمستقرة نسبياً من القلاقل، والتي تخطط جهات عديدة بالنفاذ إليها والتأثير السلبي على أوضاعها.
• تشوب جميع أطرافه صراعات وأوضاع أمنية هشّة منذ أعوام، وبالأخص وقتما إستحوذ (داعش) على جانبيه العراقي والسوري.
• يقع على مبعدة عشرات الكيلومترات فقط عن قاعدتين جويتين ضخمتين يتحكّم فيها الأمريكيون، وهما (الأزرق) الأردنية و(H-3/الوليد) العراقية، وبحدود (300) كلم عن قاعدة “عين الأسد/القادسية/البغدادي” الجوية العراقية العملاقة التي غدت بيد الأمريكيون منذ إحتلالهم “العراق” (2003) بشكل عام وعادوا إليها بقوة منذ (آب-آغسطس/2014) على وجه الخصوص.
• تتحرك قريباً منه فصائل “الحشد الشعبي العراقي” المدعومة إيرانياً من جهة الشرق، فيما تتقرب أخريات تحت قيادة ميدانية إيرانية في الجانب السوري للسيطرة عليه، ولربما لتحقيق حلم “طهران” بربط بلدها بسوريا ولبنان وسواحل البحر المتوسط بأقصر مسلك عبر طرق سير سريع ممتازة.
لماذا “التنف” بالذات؟؟؟
ربما لم يهتمّ أحد بشأن “التنف” طيلة القرن العشرين غير المسافرين براً بين العراق وسوريا، ولا نجد له ذكراً في الإهتمامات الإستراتيجية… فلماذا تحوّل فجأة إلى موقع لم تَخلُ نشرة أخبار عن ذكره طيلة أسابيع.
تساؤل في محلّه قد نجيب عليه بما يأتي:-
• الصراع الأمريكي-الروسي غير الـمُعلَن للإستحواذ المباشر وغير المباشر على الشرق الأوسط، وبالأخص بعد التدخل الروسي الجوي العنيف مطلع (ت1-أكتوبر/2015) تحت ذريعة درء الأخطار عن قاعدتهم البحرية في “طرطوس” والجوية في “حميميم” اللتان تعدّان موطئ قدمهم الوحيد المتبقي في البحر الأبيض المتوسط، ناهيك عن رؤية “موسكو” في ضرورات الحفاظ على النظام السوري الحليف المضمون معهم منذ نصف قرن مضى، وما زال، بالمشاركة في إبعاد فصائل المعارضة التي كانت تتقدم سراعاً نحو “قرداحة، اللاذقية، ودمشق” مع منتصف ذلك العام.
• محاولة قوات نظامية سورية بصحبة فصائل مسلحة تتعاون معها تحت قيادة إيرانية من التقرّب إلى “التنف”، يقابله تقرّب فصائل عراقية مشابهة من إتجاه منفذ “الوليد” الحدودي العراقي.
• الخطر الذي يشكّله إعادة سيطرة تلك القوات والفصائل على “الأردن” بشكل مباشر، وربما على “السعودية” التي لا تبعد أرضها سوى (170) حيث مثلّث حدودها مع “العراق والأردن”.
• تعويق المخطط الإيراني للسيطرة السياسية والميدانية على مسلك عبر “العراق وسوريا” نحو “لبنان” والبحر المتوسط.
• الإستحواذ الأمريكي الضرورة على موطئ قدم عملياتي مُدافَع عنه وسط الصحراء تمهيداً لإنشاء موطئ ثانٍ في المعبر الحدودي بين بلدتَي “القائم” العراقية و”ألبو كمال” السورية المتوقع إستخلاصه من (داعش) في مرحلة لاحقة بالمستقبل المنظور.
• بعث رسالة أمريكية إلى “روسيا الإتحادية” بأن عملياتها الجوية ينبغي أن لا تشتمل النصف الشرقي من البلاد السورية، والإكتفاء بتحريك طائراتها إلى الغرب من خط الطول (38) النازل من بلدة “جرابلس” ذات الإطلالة على مدخل نهر “الفرات” وصولاً إلى الجنوب نحو بلدة “تدمر”.
إحتمالات ما بعد “التنف”
ذلك ما أوجزناه عن أهمية “التنف” إستراتيجياً وأسباب الإنتشار العسكري الأمريكي فيه… ولكن ماذا بعد أن تمترس الأمريكيين فيه:-
• الغضب الروسي-السوري-الإيراني المشترك حيال هذا التمركز الأمريكي، ولكن من دون إقتدار أحداها على التحرّك الميداني لإفشاله.
• أوامر “روسيا” بمتابعة أي طائرة مأهولة أو سواها وأي هدف جوي لقوات التحالف الدولي يحلّق في الأجواء السورية، ولكن في حالة إختراقها غربي نهر الفرات فقط.
• تعليق “موسكو” لتنسيقها القائم مع “واشنطن” منذ تدخلها العسكري في “سوريا”، قبل أن تتراجع عن هذا القرار بعد أيام.
• وبدا على سطح الأحداث أن الدولتين العظميين تتخندقان إحداهما تجاه الأخرى بشكل بائن في تصعيد غير مسبوق منذ وضعت الحرب الباردة أوزارها مع إنهيار الإتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات، والتوتّر التالي بين القطبين وبالأخص بعد ظهور (د.ا.ع.ش) على سلّم الوقائع في هذه المنطقة الحساسة في أواسط عام (2014).
• تكاثر بؤر الإنفلاقات والإنفلاتات المحتملة جراء تدخل قوى متطفلة في شؤون المنطقة إثر تشكيل “واشنطن” تحالفاً مضاداً لـ(د.ا.ع.ش) متقابلاً مع تدخل “روسي-إيراني” في ربوع “سوريا” وشؤونها، بحيث سُلِبَت إرادات جميع الدول القائمة وسلطاتها وأصبحت -بحكم ثرواتها الهائلة وخصائصها- ساحات صراع مرعبة ومسارح عمليات غاية في الشدة والسعة تفوق طاقاتها وإمكاناتها، ولم يعُد بإمكان القائمين على أمورها إتخاذ قرارات لصالح شعوبهم وتحريك ساكن يٌذكَر إلاّ تحت ظلال هذا وذاك حتى في المؤتمرات والمفاوضات، فإختلط الحابل بالنابل وأضحت أقطارها -شاء زعماؤها أم أبوا- تابعة بشكل مشهود لقرارات هذه الدولة المتنفذة في أمورها أو تلك، ولكنها غدت بمثابة (صواعق) قد تحشر ذواتها -من حيث لا تدري أو تدري- في أمور أصبحت فوق طاقتها فتُفجر براميل البارود المتأهبة للإنفلاق.
• وأكبر الظن أن “واشنطن” -بعد جلوس “دونالد ترامب” على عرشها- أقدمت على خطوات متلاحقة لفرض حزام عريض إبتغاء خنق “إيران”، ولذلك يرى الأمريكيون في الشرق الأوسط هدفاً إستراتيجياً أعظم في هذه المرحلة أضافوه إلى قائمة إهتماماتهم الأساس وإنتشارهم في هذه المنطقة منذ أواسط القرن/20.
• الصراع القائم في “سوريا” منذ (آذار-مارس/2011) كان عند إندلاعه سورياً فحسب، ولكنه تحوّل بإنقضاء الأيام إلى قتال عنيف تديره “روسيا وإيران” من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من جهة ثانية، ولم يعد هناك قرار أو دور سوري مؤثر، وهذا ما إنعكس على “العراق” إن لم يكن قد سبق “دمشق” في هذا الشأن الخطير، فكل إنتكاسة تبادلتها الدولتان الجارتان كالطاعون، ولربما تنتقل إلى “بلاد فارس” وشرقي “تركيا” وتتسلّق إلى تخوم “روسيا الإتحادية” التي تعتبر “إيران وتركيا” وأقاصي شمالي العراق جزءاً من حزام أمنها القومي… ولذلك تتصرف “موسكو” بكل ما أوتيت من قدرات أزاء المنطقة.
• وهناك حقائق فرضت أوزاها خلال العقد الراهن من القرن/21، فمُجريات الأحداث الساخنة في كل من “العراق، سوريا، ليبيا، اليمن، شبه الجزيرة العربية، كوريا، القرم، أوكرايينا” ربما تصاعدت جراء غضب رؤساء وقادة أعقبته إستعراضات لقوى عظمى وكبرى وإقليمية غايتها الأعظم إستطلاع المقابل للكشف عن مكامن قوته ونقاط ضعفه، وقد تتمخّض عنه إستدراجات مخطط لها أو لربما تتخذ قرارات إستراتيجية آنيّة وعاجلة لإيقاع الخصم بكل براعة وإتقان في المكيدة، ولكن قد تكون في المكان الخطأ والزمان غير المناسب، فيحدث ما لا يُحمَد عقباه بمستوى مصير العالم برمّته مثلما حصل في العديد من وقائع الصراعات بين الدول.
• “روسيا الإتحادية” اليوم في موقف سياسي وإستراتيجي لا يُحسَدُ عليهما، فبعد أن نهضت بعض الشيء وتماسكت خلال عقدَين من الزمان وإستعادت الكثير من سطوتها المفقودة، ولكنها وجدت ذاتها مضطرة للإقدام على إستعراضات قوة وخطوات إستراتيجية في كل من “القرم، أوكرايينا” قبل “سوريا” أعادت شيئاً من هيبتها الضائعة، حتى تلمّس الشعب الروسي بأن حكماً أشبه بـ”الدكتاتورية الستالينية” وقد جثم على صدره منذ أواسط التسعينيات مُنتِجاً فساداً مالياً وإدارياً هائلاً في كل مناحي الدولة، ما أحدث غلياناً معمّقاً في النفوس جراء تكرار الوجوه القائمة وتبادل الأدوار في أعلى هرم الدولة نزولاً إلى سفوحه، فتمخّضت عنه إنبثاق مظاهرات معارضة عارمة يوم (17/حزيران/2017) إخترقت شوارع (150) مدينة روسية وساحاتها بأوقات متعاقبة في وضح النهار، وهذا ما جعل الرئيس “فلاديمير بوتين” في مأزق داخلي خطير أضيف إلى الخارجي الأخطر بسبب ضغوط المقاطعات والعقوبات الغربية القاسية والمتواصلة على بلاده والإمعان في عزلها، إذْ لم تُبقِ أمامه فسحة للمناورة الدبلوماسية… ولكن مثل هذه المواقف قد يجعل من شخصيته الصارمة جانحاً لقرارات خطيرة تفتقر إلى الحكمة فتستفز الأعداء والخصوم المتربصين ببلاده.
• وفي هذا الصدد، ينبغي أن لا ننسى مواقف -بدت تافهة في حينها وظاهرها- إتخذها البعض من قادة دول عظمى إنبثقت عنها -بإنقضاء بضعة أشهر فحسب- حربان عُظمَيان إشتملتا العشرات من الدول القائمة، وكان من نتائجها دمار النصف المتمدن من بقاع الكرة الأرضية خلال النصف الأول من القرن/20 ومصرع عشرات الملايين من جنودها ومدنييها، في وقت لم يكن للأسلحة القذرة المتاحة في يومنا الراهن وجود في أعوامهما.
• وفي هذه المناسبة، لا أنسى نصيحة قرأتها عن لسان الزعيم السوفييتي “نيكيتا خروتشوف” وجهها نحو الرئيس “جمال عبدالناصر” عام (1955):-
((إسمعني جيداً سيادة الرئيس، نحن السوفييت يسعدنا كسب دولة صديقة بمستوى “مصر” وسنزوّدكم بالسلاح والعتاد مقابل ثمن ليغدو لنا موطئ قدم طالما تمنيناه على البحر الأبيض المتوسط… ولكن عليكم أن تعرفوا أننا لسنا على إستعداد للتضحية ولو بجندي سوفييتي واحد في سبيل الشرق الأوسط، أما الغرب برمّته فهو جاهز لخوض حرب عالمية ثالثة لأجله)).

* عميد ركن متقاعد… دكتوراه في التأريخ

أحدث المقالات

أحدث المقالات