23 ديسمبر، 2024 5:50 م

التمرد على الطغاة

التمرد على الطغاة

في الماضي القريب كانت أرصفة الموت على حافتي الشوارع المكسوة بأسفلت الخوف، وطرقات الأزقة مكسوة بالرعب، وكانت جدران المدن الصغرى والكبرى في بلدي مطلية بلون الدم، يحذرها ساكنيها خوفاً من أن تسترق السمع من شفاهم بكلمة يذكر فيها علياً أو الحسين (ع) لتوشي بهم إلى كلاب الجلاد المسعورة السائبة في الليل والنهار مدججين بأسلحتهم المتنوعة، لا أحد يستطيع أن ينبس ببنت شفة فكانت لغة الإشارة هي السائدة بين عوائلنا العراقية الكريمة.

في (عام 1980) كان بيتنا في مدينة الثورة قطاع 62 مطلاً على شارع السفارة مقابل جامع (ابو الفضل العباس (ع)) مباشرة، حيث باب الدار يقابل باب الجامع بشكل مستقيم، وفي (غرفة الخطار) أي (الديوانية) يحضر أصدقاء والدي الحاج جاسم الصحن وهم من قيادات المقاومة الإسلامية، يتبادلون أطراف الحديث إلى ساعات متأخرة من الليل ويخرجون متسللين تقية من جلاوزة الطغاة، يحملون راية أهل البيت في الزمن الأموي، يملكون قلوب الثوار، يزدادون صلابة وشدة في المحن، غير مبالين بالمال والبنون، متمردين على الطغاة، قاهرين شهوات انفسهم، مجاهدين قرروا باليقين السير على طريق الآلام والموت، أذكر منهم (حميد لازم، مطشر الشيخ عبد الله، عبد الحسين ابو صادق، الأستاذ موح، اعدموا على يد الطغاة وصاحب الشيخ عبد الله، السيد رحيم النوري الشيخ، جواد لا يزال امام جامع ابو الفضل العباس (ع) الأستاذ عبد الله مدرس لغة عربية، الدكتور علي الخطيب في الوقف الشيعي وآخرون من السادة آل المبرقع)، وجوه قمرية لا ينفصل عنها الضوء تستمد نورها من الشعائر الحسينية التي يتشرفون بها، لا يتعالون عليها أو يتنصلون منها كالذين ينعقون مع كل ناعق.

في هذه الأجواء وفي هذا الوقت بلغت أنا سن التكليف، وكان السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) متصدي للعمل السياسي وشاع اسمه كمجتهد جامع للشرائط، وكان لي الشرف أن اكون من مقلديه في اول تكليفي الشرعي بحسب الفقه الشيعي، كان جامع ابو الفضل يعج (بالمتمردين) الشباب وحلقات الدرس مستمرة وكنت احضر بشغف احدى هذه الحلقات التي يحاضر فيها (عبد الحسين التركماني وهو معاون طبيب (اعدم) وكان معي في الحلقة فوزي دلي وزهير وصادق عبد الواحد (اعدموا الثلاثة) وجمعة وجبوري).

اعتقل النظام السيد محمد باقر الصدر وصدرت الأوامر إلى جميع المساجد التي تنظم فيها حلقات الدرس بالتجمع في مسجد الإمام الباقر (ع) نهاية شارع الداخل قطاع 49، وهو جامع تابع إلى السيد قاسم المبرقع وأخيه السيد علي المبرقع، وبعد حضور الحشود الغفيرة خطب السيد المبرقع بالجمع المهيب، ومن ثم بدأت تظاهرة استنكار سلمية خرجت من المسجد باتجاه مركز المدينة، تتقدم التظاهرة يافطة بيضاء كتب عليها باللون الأزرق (بالروح بالدم نفديك يا إمام) وهو الشعار ذاته الذي يردده المتظاهرون، وكان لي شرف حمل طرف اليافطة في طليعة التظاهرة، وهو أعظم تمرد مارسته بحياتي وانا في الخامسة عشر من عمري، والمثير هنا اني التقيت بوالدي وأخي الأكبر (محمد الصحن) هناك ونحن في دار واحدة ولم يبلغ أحد الآخر بالذهاب اليها من قبل، انتهت التظاهرة بمصادمات دراماتيكية، اطلق جلاوزة الأمن النار على المتظاهرين، وقتل من قتل وجرح من جرح واعتقل آخر وفر آخرون، كما قتل فيها المجرم عبد الرحمن عبيد موسى وهو من جلاوزة النظام.

لا اريد ان اسهب بما كان يجري في تلك الأيام القاسية، جرت الأحداث بسرعة، اعدم السيد الصدر وبنت الهدى، تظاهرات، اعتقالات، إعدامات، الجميع يعلم ظلمات تلك الحقبة فكان لها رجالها الأتقياء الأنقياء في زمن التلوث (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).

خلف الذي قضى نحبه اطفالاً في قبضة البؤس ينتعلون الحر صيفاً، ويرتعش الشتاء على أجسادهم، أرامل تلتصق عيونهن بالسماء لا يجدن قوت يومهن، من طرق بابهم تقطع يده، ومن تكلم معهم يقطع لسانه.

نقل الحاج جاسم الصحن ما يحدث وراء أبواب الجوع والعفة والشرف إلى السيد الخوئي قائلاً (هؤلاء عوائل السجناء والمهاجرين من أبناء المقاومة الإسلامية) وهنا كلف السيد الخوئي الحاج جاسم الصحن شخصياً ووكله بدفع أموال الخمس لهم، واشترط عليه ان يضمن وصولها لهم، وهنا بدأت مغامرة جديدة للحاج جاسم مع صديقه الحاج شياع اللامي والد الزميل باسم اللامي مدير تحرير جريدة بغداد الإخبارية ووكالة انباء بغداد بإيصال مبالغ مالية إلى المحرومين والمظلومين.

لقد ركب الحاج جاسم الصحن متن الريح والعواصف المجنونة بيد بيضاء غنية في زمن ايجار الأيدي وشراء الحناجر والأقلام والذمم، كان لسانه سوط يجلد به المقتاتين على فضلات ابواب السلطة وظهور الجلادين مستمداً قواه من حبه لأهل البيت عليهم السلام فهو يذوب بحبهم حد الإغماء.

بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت عام 1991، انتفض الشعب العراقي وانتفضت المحافظات، ونحن نترقب ما يحدث حتى تفاجأنا بأمر لم نتوقعه، فقد حمل الشهيد الإعلامي سعدي فريح رسالة من السيد محمد باقر الحكيم إلى الحاج جاسم الصحن يكلفه فيها بمتابعة الإنتفاضة وإدارة شؤون بغداد (بعد سقوط النظام). وبعد مرور ليلة واحدة اضرمت النار في بيوت الظالمين، احرقت المنظمات الحزبية ومجالس الشعب، ومقرات الجيش الشعبي، أما أنا فكان يرافقني عبد الرزاق الكناني (كان طالباً بكلية الفنون الجميلة ويعمل حالياً رئيس قسم بقناة الفرات) وباقر جاسم (كان طالباً بكلية الزراعة) واللذين كانا يستمتعان بحرق المنظمات الحزبية ومجالس الشعب وهو تمرد حقيقي أمام طاغوت العصر.

وباتفاقيات معروفة بدأ النظام يسيطر على بغداد والمحافظات وتعامل مع المنتفضين بوحشية وقذارة، وبعد قمع الإنتفاضة الشعبانية وسيطرة النظام على عموم العراق مرة أخرى، رحل إلى ذمة الخلود السيد ابو القاسم الخوئي وخليفته من بعده السيد عبد الأعلى السبزواري (قدس الله اسرارهم)، كان لا بد من صدمة

تعيد الأمور إلى مسارها، وهنا تصدَ السيد محمد محمد صادق الصدر للمشهد الديني والسياسي، ووزع وكلاءه وأقام صلاة الجمعة المعطلة في عموم البلاد، ثورة ثقافية لم يتخلف عنها أبداً (مجلس الصحن) في ديوانية الحاج جاسم الصحن فكانت ملتقى الأدباء والشعراء لا سيما الشعراء الشعبيين المتمردين على النظام منهم (حمزة الحلفي، سمير صبيح، رحيم المالكي، عباس عبد الحسن، طالب الدراجي، محمد الغريب، هاشم العربي، غني محسن. وآخرون)صدحت حناجرهم بأهم القصائد التي أرّخت تلك الحقبة، كان يرافقنا وكلاء السيد الصدر منهم صديقي الحميم الشهيد علي الكعبي، وبقي المجلس مستمراً حتى سقوط النظام بفعالياته الأدبية والمجالس الحسينية التي يرتقي فيها المنبر كبار الخطباء والرواديد والشعراء منهم المرحوم عبد الرسول محيي الدين كاتب قصيدة يحسين بضمايرنه والخطيب السيد الشهيد كمال الدين الغريفي وآخرون.

وبعد سقوط النظام لم يتأخر أبرز قادة المعارضة العراقية والمتصدين للعملية السياسية بزيارة الحاج جاسم الصحن في ديوانيته، أو المشاركة في المجالس الحسينية التي يقيمها في مسجد العقيلة زينب (ع) منهم (السيد عمار الحكيم، الشيخ همام حمودي، احمد الچلبي، وفد من الدكتور علاوي يترأسه د. ليلى عبد اللطيف التميمي وزيرة العمل، باقر جبر الزبيدي، السيد مهدي السيد قاسم المبرقع، د. علي الخطيب، وآخرون..)

استبشرنا خيراً بوجود ثلة من الشرفاء النجباء من القادة، إلا انه سرعان ما تلاشت احلامنا وبدأنا نعيش الواقع المر، كارثة حقيقية حلت بالعراق، استيلاء وتسنم المفسدين على المناصب الإدارية العليا والوسطى، المناصب التنفيذية المهمة، وزراء مفسدون وجبناء ذوي شهوات حيوانية، جبناء حد النخاع وان كانت لديهم سلطة، لصوص يخشون نظرات الشرفاء، مرت سنوات ونحن نعمل على قاعدة (لا تكشفن مغطى فلربما كشفت جيفة)، نأمل بأن تتغير الأمور لا نريد ان ننشر غسيلهم المتسخ بفحم الدعارة والعهر السياسي على حبال حناجرنا الصوتية، ولكن بلغ السيل الزبى ومنسوب الوحل قد ارتفع إلى الخاصرة، مؤسسات مهمة وكبيرة يترأسها زعماء للجنس وبعض من حاشيتهم سماسرة الأجساد والأفكار، ومنهم

الفاعل والمفعول به، مدراء الخسة والقذارة لا يرحبون بالمهنيين والأكاديميين والشرفاء لأنهم صغاراً أمام شامخي الأنوف يسمونهم متمردين.

وهؤلاء الحاشية النجسة يضيفون لأسيادهم هالة كبيرة هم يرونها فقط ينعتونهم بأوصاف تصل إلى حد الإلهية منها (المفكرين، الفلاسفة) يذكر ان احدهم قال لمديره انت اعلم من السيستاني (وربما سيقول له في يوم ما أنت الحجة المنتظر)، والحقيقة من ينظر اليهم يرى وجوه الثعالب الماكرة.

عشيقات وصبايا ذوي الشهوات الحيوانية يتحكمن بهؤلاء ودوائرهم، هن مفتاح الفلاح، الإيفادات، المكافآت، كتب الشكر، هؤلاء السراق لا يخجلون من شيباتهم ولا يملكون ذرة من الحياء، ضعفاء في اتخاذ القرار، إلاّ القرارات الخاصة بالصبايا فيتخذ وهن يقلبن بخصيتي سيدهن بذات اليمين وذات الشمال، يتصورون انفسهم طغاة ومن لم يتملق لهم متمرد، صحيح ان الطغاة جبناء إلاّ ان هؤلاء أجبن من ان يكونوا طغاة، فثورة الإصلاح قادمة، وسنجمعكم وعشيقاتكم بكدس قمامة ثم نتبول عليكم بولاً جماعياً حتى المصاب بعسر التبول لأن الله يحب الجماعة، ومن ثم نطهر اماكنكم وكل ما لمستموه بالماء ونعفره بالتراب.