في الساعة السادسة مساء بدأت رحلتي بالطائرة من مدينة تروندهايم عائدا الى اوسلو بعد أن قدمت محاضرة تتعلق بسلوكيات الاجئين و النازحين بعد تعرضهم للعنف و الارهاب المبرمج، كما يحدث في العراق، سوريا، السودان و اليمن و بقية دولنا التي أصبحت مفردات الحياة فيها تتسم بالارهاب، و بمجرد جلوسي في مقعدي بجانب الشباك جلس شخص آخر في المقعد البعيد، و اغلق بعد ذلك باب الطائرة فعلمت أن المقعد الوسطي سيبقى فارغا. اتصلت بزوجتي لأبلغها ببداية الرحلة التي تأخرت لأكثر من ساعة بسبب سوء الاحوال الجوية حيث كانت الطائرة تستحم بسائل مانع الصقيع. و بمجرد أن أغلقت التلفون سألني هذا النرويجي الاشقر ذو العيون الزرقاء.
هل تحدثت بالعربية؟ ابتسمت و أجبت بنعم . ابتسم لأنه أصاب بتوقعه.
قال لي أنه يحب العراق و كردستان، و أن والده يعمل في قطاع النفط و قد عمل في العراق سابقا و في السنوات الاخيرة، قاطعته فرحا ” أنا من العراق” و اسهب بعد ذلك في شرح تاريخ ” مهد الحضارات “، كلمة ذكرها في كل مرة ذكر فيها اسم العراق. كنت معجب بمعلوماته الواسعة عن عراقنا، معلومات لا يعرفها الكثيرين من ابناء العراق. سألته عن سبب اهتمامه بالعراق؟
اجابني مؤكدا على كل كلمة في جملته ” هذا ارثنا الثقافي و تاريخ حضارة العالم” ثم سألني
و أنت، من اي مدينة العراق؟
من الموصل.
فتح عينيه على وسعها وقال
نينوى ، التي غزتها الدولة الاسلامية، أمر مؤسف.
فعلا مؤسف، و قد كنت في العراق في فترة تحريرها، و مع الاسف الخسائر فادحة بالارواح و البنية التحتية.
ثم بدأ يشرح لي من أين جاءت كلمة نينوى، و كيف أنها مذكورة في الكتب القديمة. شرحت له بعضا من جوانب محاضرتي الاخيرة التي القيتها في محافظة Buskerud و بحضور الكادر العامل مع اللاجئين من 18 بلدية، و كان معي الحاسوب ففتحته. في البداية تناولت محاضرتي التأثير النفسي و الطرق التي استخدمتها داعش في السيطرة على الناس و كيفية تركيعهم و البطش المسرف من اجل الحصول على الطاعة المطلقة. لم يكن السيد توماس الذي يعمل في النفط على خطى ابيه مهتما بهذا الموضوع فاستعجلني بالسؤال
هل تحدثت عن آثار نينوى و الموصل؟
نعم كانت هذه هي الفقرة الرابعة من المحاضرة.
ارجو أن تنتقل اليها.
سألني عن الحضر فقدمت له بعض الصور عنها و عن النمرود، بدأ وجهه يحمر و يحتقن، فقال لي ” حقا وحوش” في نفس هذه اللحظة ظهرت صورة الداعشي الذي يقطع الثور المجنح بـ ( الكوسرة). هنا صرح بحزن شديد
يا الهي ، ما أكبر خسارة العالم. هل تعلم أن كل من يجلس في الطائرة هو خاسر كبير. لقد خسر كل شخص في هذا العالم تاريخه.
أخذ منشفة و وضعها على عينيه. ثم رفعها و سألني عن الحضر؟ شرحت له أنها تفجرت و اجزاء كثيرة من آثار المنطقة أصبحت نسيا منسيا، احتقن وجهه من جديد.
اريد أن اسألك سؤلا مهما، ماذا حدث بالآثار الاسلامية في المتحف.
و ترقب اجابتي بشغف شديد.
كان لي صديق مهتم جدا بالآثار مثلك، لذلك ذهب الى متحف الموصل الذي استخدمته داعش لفترة من الزمن كديوان للحسبة مع صديق له معاملة ليعاين المتحف بنفسه، و شاهد الآثار السومرية و الآشورية المحطمة بالقرب من المدخل، فسأل أحد الدواعش. هل حطمتم كذلك الآثار الاسلامية. أجابه الداعشي بصوت أجش. ” هذه تماثيل يا عبد الله” و نظر اليه بريبة . أجابه هذا الصديق ” دولة الاسلام باقية و تتمدد”. و بكى بعد خروجه من هناك. أعلن الطيار عن موعد هبوطنا القريب.
احتقن وجه توماس وقال بأسى
قاتلهم الله ، يا لقلوبهم القاسية، يقطعون التماثيل بالكوسرة و يحطمونها بالمطارق الثقيلة.
تحرك خطوتين الى الأمام ناديته
توماس الثماثيل بلا لحم و دم.
نظر توماس مستغربا من طرحي، فشرحت له.
هناك أناس شاهدوا ابائهم و ابنائهم يقطعون و يسحقون بطريقة أسؤا من التماثيل بألف مرة.
أجابني و كان على يقين من أن إجابته ستقنعني.
الآثار لا يمكن بنائها من جديد.
كذلك الانسان لا يعوض، أنت حزين لما تعرض له التمثال، و هناك آلاف من البشر تعرضوا لما تعرض له التمثال و ببشاعة أكبر. التمثال لا يحتاج لعلاج نفسي بينما الانسان بحاجة الى الحب و التأهيل و التعويض، و لم يفكر به أحد.
سار خطوتين و التفت الي قائلا بنبرة ندم واضحة ” آسف الانسان قبل التمثال، لكن الحكومات و الصحافة و الاعلام جعلونا ننسى قيمة الانسان” أجبته ” و كذلك أنا اشعر بالحسرة عندما أرى المنظمات العالمية و الحكومات تهتم بحطام الآثار أكثر مما تهتم بحطام البشر من ابناء الشعوب التي قهرها و نخرها الارهاب و الفساد.
هز رأسه موافقا ” نعم .. نعم الحكومات و الصحافة و الاعلام” و هز رأسه ثانية و قال الجميع ضحايا، إسأل المستفيد ، و لا تبحث عن شماعة أخطاء” و سار ليتركني مع هذا السؤال الكبير . من هو المستفيد، الفاسدين؟ السياسيين؟ مصادر صنع القرار؟ سمعت رجلا يحدثني بصوت خجل.. ” عفوا” التفت اليه فأشار الى الامام وسألني مبتسماً ” ألا تنوي الهبوط من الطائرة؟ نظرت الى طابور الناس المحصور خلفي و الطائرة خالية تماما أمامي .. سحبت حقيبتي و حملت افكاري المتضاربة، و قلت في نفسي ” مسكين أنت أيها العراقي ضائع في كل مكان” التفت ثانية فوجدت الطابور يضحك فضحكت معهم…….