– استوقف اللحظة الشعرية بأيقونة دلالاتها ورمزيتها على حدود أبياته
– جسد التشابه في توظيف الصورة كواقع مفروض يتداخل مابين الأعماق و الحقائق
يبرز توظيف الإستعارة عند الشاعر “شلال عنوز” بدقة، ويأخذ حيزاً واسعا في أبياته يضفي على معانيها رونقاً محبباً عند القارئ الذي يستمتع باستشهادات عنوز والاتيان بظل حوادث تاريخية واقعية مخلدة ليلقيه على شكل القصيدة التكويني.
قد يكون انتقاء المفردة له وقع عالي لدى القارئ عند الإسقاط والتشبيه أو الدلالة حين تكون تلك المفردة راسخة وبعمق في وجدان المتلقي ، هنا يكون الشاعر قد أبدع بتجسيده حادثة تاريخية راسخة في الوجدان عبر كلمة تشير إلى تماثلها مع واقع المتلقي أو كما يخيل إليه أنها تماثل ما يشعر، هذا التداخل البارع في الفهم والتجسيد يطلق له “شلال عنوز” عنان الخيال فيسرح في سفوح مالها من انتهاء شكلتها كلمات بعينها دون سواها لتكمل إبداع ما كتب الشاعر.
هذا هو شعر شلال عنوز باختصار ، إبداع هائل بكلمات مؤثرة تجسد التماثل بين شعور القارئ وحوادث تاريخية حقيقة راسخة في وجدان المتلقي.
وحين نقتطع وصلة شعرية من ديوان الشاعر شلال عنوز ( وبكى الماء) ونلج في متاهات ما أحتوت ،نجد أن هناك بناءً فنياً قد كرس في أبيات عنوز هاجسه الإبداع الذي صاغه بعناية ودقة من يعمل على زخرفة النقوش على قطعة ذهبية رقيقة كنسمة، أو ربما كقطرة ندى شاء لها القدر أن تكون على ورقة ورد حمراء رطبة بفعل المطر.
فمن يخاطب اللا محسوس ، ومن يرسم لون الماء، ومن يسقيك ماءً بطعم الماء ،سوى (عنوز) الذي كرس تلك المعاني شعراً منح القارئ من خلاله ما أراد له أن يمنح ليستسيغ شعره ويستلذ بمعان لاشبيه لها إلا في شعر “شلال عنوز” الذي يتدفق عذوبة شعرية ممزوجة بحقيقة المعنى.
مَنحُ القصيدة عمق تاريخي يؤطرها بمضامين عدة ، قد تختلف عن الأحساسيس والمشاعر ، قد ترسم صور التاريخ عبر بوابات الشعر، لكن أن تستوقف اللحظة الشعرية عند أيقونة لها دلالاتها ورمزيتها فذاك استيقاف ضمني للزمن على حدود الأبيات ، أي حدود القصيدة بما أحتوت ، وأرى أن الصور التي اكتنزت بها أبيات “عنوز” قد طغت على المعنى الذي يريد، أو لنقل اتخذت مسارات أبعد مما أراد لها.
فكيف للماء أن لايكترث ، ومتى كان يسمع اللغو ( همجي) كان أم لا، واللغو همجية في معظمه لذلك كان الإسقاط أكثر من رائع في تلك الصورة الفذة. وفيها ومنها تجليات التداخل مابين الآتية من الأعماق، وما وشحت به الحقيقة بدم زكي لازالت حرارته بين أضلعنا حتى الساعة، وتلك هي الحقيقة التي شابهها الشاعر من خلال التماثل ب ( تشظيات كلكامش).
أيها الماء
لا تكترث لهذا اللغو
الهمجي
فصوتي هو الحقيقة
الآتية من
أعماق بابل
تشظيات كلكامش
وجع علي
حرارة دم
الحسين
ولأننا لازلنا نستشعر تلك الصور ، رسم لنا (شلال عنوز) خيالات منها، ما غطت على مخيلتنا بظلام غيمة سوداء ماطرة ، لكنها مؤجلة لاتنثر إلا سواداً يوشح الأجواء لتعي من خلال أجواءها تلك عظيم الحدث وهول المأساة ، هنا تجسيد رائع من شلال لواقعة (الطف) بكل ما أحتوت من شعور أليم وفاجعة رسمت تاريخنا باللون الأسود لتغطي الأحزان الدهر كله لهول ما وقع.
كربلاء أي دم سُفك ، أستشعرنا حرارته عبر أبيات شلال عنوز التي أبكتنا وبكى الماء منها ونشف ، وأقسم أني أنتابني شعور بأني كنت هناك ، وبكيت هولاً حين لمست (حرارة دم الحسين)، و(وجع علي) وهذه بحد ذاتها قصيدة بل ديوان ، فعلى أيهما توجع “علي” ، أسئلة لاحدود لها ضمنها (عنوز) ببراعة المتمكن من ادهاش القارئ وتركه يخوض في حيرى السؤال، ، أي توصيف تركته لنا أي خلود ذاك الذي جسدته بكلمتين فقط لتلك الفاجعة المدوية في سماء التاريخ ، والعار الذي تلبس من اقترفها ، شلال عنوز رسم وجسد وأطر وخلد كل التاريخ بكلمتين ، كلمتين فقط ،فكان الإبداع صفة ما جسد في أبياته.
وفي قصيدته (نرجسة الذكرى) برز وبشكل واضح مفهوم الاستبدال وتجسيد التماثل ، واختلف عن ( وبكى الماء) في استبعاد المآسي وصورها وماخلفت، وفيها سعى “شلال عنوز” ليرسم عبر الخيال الموشح بالذكرى سيرة قصيدة انعكست صورتها لتترك ظلها على شفاه صورة غير حقيقية رسمتها ( المرايا)، ربما أراد لها أن تكون غير حقيقية لترتقي إلى مصاف الحلم الذي استودعه بين أبيات قصيدته.
وربما أراد للقارئ أن يحلق بعيداً عن الواقع في عالم الخيال مستنطقا ( المرايا) من خلال ما ترسم من صور، لكن شلال عنوز في هذه “النرجسة” التي اقتصرها على الذكرى ، داعب المتلقي بمفردات طغت عليها صور الاشتياق والحب ، ليقف على دلالات تاريخية يتداخل فيها الطيف مع البعد الذي تمثله تلك المفردات بأطر تحمل التاريخ بعداً وشكلاً ومنطقاً، (فأفروديت) تمثل كل الحب الذي تحتويه قصائد الشعراء ، ومشاعر الوجد التي في قلوب العاشقين ، واللوعة التي تجسد العشق وشاحاً يلفه اصحابه على رقابهم محملاً بأنغام بللها رذاذ المطر ،ليرسم “عنوز” عبرها صورته الشعرية المغمسة بألحان الهيام على صفحات قاموس (أفروديت).
على شفاه المرايا
تكتبنا الظلال أجنحة يمام
مبلّلة بموسيقا المطر
حينما نثمل بالاشتياق
نحلق في سماوات الحلم
على ضفة التوق
أُتوكّأ على عُكّازي
في معبد (افروديت)
أتلفت…
علّني أراك
عند ساقية التيه
لمحتك من بعيد…
الحركة التي رسمها الشاعر في أطراف قصيدته أخذت أبياته من السكون إلى الطواف حول (نرجسته) ،مخاطبا من عناها ب ( تطوفين) وهي مبهمة عند القارئ ، فمن تلك التي تطوف ، ولماذا الطواف، أراد من تلك السمة الحركية التي أضفاها على القصيدة أن يحرك مشاعر القارئ بدلالة الطواف الذي مزج فيه (شلال عنوز) الإيحاء بالحركة ، وأستبدل به السكون الذي قد يلف ذهن القارئ ليقف عند بيت معين من القصيدة،لكنه ومن خلال الاستبدال أوحى لتضمين المعنى نمط مغاير دفع من خلاله القارئ للتصور بأن الربط بين الطواف والشوق قد يصلح في مثل تلك الحالة.
تطوفين حول نرجسة الذكرى
تحت ظلال شجر اللقاء
كنت أنتظر انعتاق الهمس
في أذن المنفى
كي أذوب فيك حدّ التلاشي
وأغرق في سكرة العناق
وفي صورة أخرى من صور “شلال عنوز” الشعرية المتقنة التي سعى من خلالها لتكريس الرمزية الوطنية والدينية على أبياته متناولاً سيرة مدينته ( النجف) بسردية رائعة أحتوت الوصف المتداخل مع الفخر ليخرج بمزيج من الأبيات الوجدانية خلق منها حالة وصف رائعة مكتملة ليصف (النجف) بأوصاف تكتمل معانيها مع تكامل تاريخ المدينة ومأثرها وثرائها وعبق المشاعر الروحانية التي أحتوت ترابها وأمتزجت بأريج عطر بيت النبوة ومدينة العلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والذي تحتضن النجف مرقده الشريف.
أفرد (شلال عنوز) بوصفية رائعة مكتملة الأركان والعناصر كما عهدنا قصائده ، ليترك للقارئ قاموساً من الوصف البهي لسيرة الإمام (علي بن أبي طالب والنجف) حتى يخال للقارئ عند قراءة عنوز لتفسير حروفها بعد إفرادها تفصيلاً إنها مدينة الله في الأرض، بل هي مدينة كل الكون ، وحتى الوجود الأبدي.
وفي قصيدته ( هي النجف) التي ضمنها التأويل الحسي المصحوب بحركة انسياب الأبيات نحو التوصيف والتضمين التصوري للإيقاع الحركي المنفرد من موسيقى القصيدة، والإنتقالات الفكرية للتفسير الوصفي المصاحب للصورة التي وظفها الشاعر لينتج بعداً غير معهود لدى شعراء أخرين حين نقرأ عنهم قصائد الوصف والتخيل.
أبدع شلال عنوز في قصيدته ( هي النجف) والتي اجتزئنا منها أبياتاً معينة لنعرضها في سياق الموضوع ، وليقف القارئ كما وقفنا على الوصفية الشعرية الدقيقة التي استخدمها الشاعر للإرتقاء بما وصف، وأظنه قد نجح فعلاً في تخليد وصف النجف عبر قصيدته، وتصوري أنه أراد الخلود لأبياته بفعل خلود المدينة بما أحتوت من شمائل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فيها ومنها يطلّ الزهو والشرفُ
لله درك مـــــــــا أبهاك يانجفُ
*
مُزدانةٌ بسنا الكرار أغدَقَها
حُبّاً فهامَ بها الأجدادُ والخلفُ
*
في نونِها سِرُّ كافِ الله أودعهُ
فتحاً بباب عليٍّ أينما أزفوا
*
في جيمها من جمال الله سوسنةٌ
فاحت عبيراً ومنها الآن نرتشفُ
*
والفاءُ طافت لها الأفياءُ خاشعةً
على الرؤوس فصلّت وهي ترتجفُ
*
ممهورةٌ بنَدا الإيثار هاطلةٌ
علماً على سفحها الأفكار تُكتشفُ
*
عصيةٌ منذُ كان الحقُّ مغتصباً
حقّاً وكُنّا بذي عليائها نقفُ
*
على عُلاها يغنّي المجد مبتهلاً
وفي ثراها خُطى الفادين تزدلفُ
*
يادوحةً من رياض الله دافقةً
ضوعَ الجنان ويا مجداً به التحفوا
*
وياملاذَ أمانٍ يُستجارُ بها
دوما تطوفُ بها البشرى وتعتكفُ
شلال عباس عنوز ،شاعر وروائي عراقي له حضور فاعل في المشهد الثقافي العراقي والعربي ،ترجمت بعض أعماله الى اللغة الانكليزية و الكردية والفرنسية والايطالية.
ينتمي للعديد من الاتحادات والنقابات العراقية منها :عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقي ،عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، عضو نقابة الصحفيين العراقيين، بالإضافة إلى ترأسه تحرير مجلة الطف ، وصاحب الأمتياز ورئيس تحرير مجلة (ذكوات الأدبية) في النجف.
يكتب القصة والرواية، وحائز على الكثير من الجوائز التقديرية من وزارة الثقافة والإعلام سابقا، وجامعة الكوفة ووزارة الثقافة في العراق عام 2006 .واتحاد الأدباء والكتاب في العراق واتحاد الأدباء الدولي.
منج درع الجواهري للإبداع من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق .كماحصل على جوائز تقديرية ودروع إبداع من منظمات ثقافية عربية وعالمية ومواقع مرموقة.
من أعماله الصادرة:
– مرايا الزهور… مجموعة شعرية صدرت عام١٩٩٩
– الشاعر وسفر الغريب…مجموعة شعرية صدرت عام ٢٠١٣
– وبكى الماء ….مجموعة شعرية صدرت عام ٢٠١٧
– السماء لم تزل زرقاء…مجموعة شعرية صدرت عام ٢٠١٧
– أمنحيني مطر الدفء … مجموعة شعرية صدرت عام ٢٠١٨
وغيرها الكثير، وقد أقيمت حول شعره الكثير من الندوات والحلقات النقاشية، كما نظمت العديد من البحوث والدراسات وأطاريح الماجستير والدكتوراة.
منح في 4 مارس عام 2017 شهادة الدكتوراه الفخرية في اللغة العربية وآدابها من قبل الهيئة العلمية في مركز الحرف للدراسات العربية في جامعة ستراتفورد الأمريكية، لاسهامه في إثراء المكتبة العربية وأبداعه وتميّزه الشعري ولترجمة نصوصه الى اللغات العالمية.