ترددت في مناسبات مختلفة تصريحات تلمح إلى نية إقليم كردستان إجراء استفتاء بشأن إعلان استقلال الإقليم، وأخيراً جاء تحديد الخامس والعشرين من شهر أيلول (سبتمبر) المقبل موعداً للاستفتاء ليؤكد نية الانفصال عن دولة العراق المعروفة دولياً ، التي تأسست منذ ما يقرب من مئة عام .
وفي وقت يتزايد فيه قلق معظم العراقيين من أن يقود هذا التوجه إلى إقامة دولة كردية في شمال العراق، يهمنا – نحن القانونيين – البحث موضوعياً في مدى شرعية هذا التوجه.
إن بحث هذا الموضوع يدور ضمن مبدأين يتوقف على النظر إليهما سوية القول بجواز استقلال إقليم ما أو أي جزء من دولة ، أو عدم جوازه . وهذان المبدآن :
الأول: حق الدولة في السيادة على إقليمها الوطني الكامل المعترف به دولياً ، وهو الذى نشأ عنه مبدأ آخر هو منع حركات الانفصال عن الوحدات السياسية ، استناداً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ذي الرقم 1514 لسنة 1960 ، الذي نص على أن أي محاولة تهدف إلى المساس بالوحدة القومية والكمال الإقليمي للدولة ، تعتبر مخالفة لأهداف ومبادئ الأمم المتحدة.
الثاني : حق تقرير المصير ، الذى يشمل نوعين من تقرير المصير، هما:
1- تقرير المصير الداخلي.
وهو حق الشعب في اختيار شكل الحكم الذى يلائمه ،وتنظيم شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في إطار الدولة الواحدة ذات السيادة الكاملة .
2. حق تقرير المصير الخارجي:
وهو الحق الذى ينصرف إلى الدولة التي لا تتمتع بالسيادة. وقد ورد هذا الحق أيضاً في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ذي الرقم 1514، المشار إليه ، بشأن إعلان منح الاستقلال للأقاليم المستعمرة .
تحديد مفهوم حق تقرير المصير:
في الوقت الذى نص فيه ميثاق الأمم المتحدة في الفقرة الثانية من مادته الأولى على أن من مقاصد الأمم المتحدة “إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذى يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب ، وبأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها” فإن الميثاق لم يحدد الوسائل التى يمكن من خلالها الحصول على حق تقرير المصير ،ولذلك تباينت الآراء بشأن هذه الوسائل وماهية القيود التى ترد على هذا الحق ،وظلت آلية تقرير المصير مسألة غير سهلة ، وثار سؤال كبير عن حق الأقليات في الانفصال عن الدولة وتشكيل دولة مستقلة ، وتراوحت الإجابات بين رأيين :
الأول: أجاز انفصال الأقلية، لكنه ربط هذا الجواز بشرط مهم هو أن تكون هذه الأقلية مضطهدة وتعاني من الاستعباد والتفرقة العنصرية.
الثاني: قال بعدم جواز انفصال الأقلية، وجعل حق تقرير المصير مقصوراً على الدول المستعمرة ( بفتح الميم الأخيرة).
وبين أنصار الرأي الثاني من أضاف إلى الدول المستعمرة حالة تمنح الحق في تقرير المصير ، هي حالة عدم وجود التصاق جغرافي ، ومثالها الجزر البعيدة عن إقليم الدولة كجزر كالدونيا الجديدة Nouvelle Caledonie التي تعد جزء من فرنسا رغم وقوعها في المحيط الهادي على بعد 16130 كيلو متراً عن السواحل الفرنسية في أوروبا ، والتي جرى فيها استفتاء سابق اختار فيه سكانها البقاء جزءً من فرنسا ، وأرخبيل جزر فوكلاند (مالوين ) التابعة لبريطانيا رغم وقوعها قرب سواحل أمريكا الجنوبية (لا يفصلها عن سواحل الأرجنتين سوي 480 كيلو متراً، ما جعلها محل نزاع بين الدولتين) .
ومن المهم بشكل عام القول أن حق تقرير المصير- كغيره من الحقوق – يخضع لقيود، سعى فقه القانون الدولي إلى إجمالها في قيدين :
القيد الأول: أن لا يؤدي إلى تحطيم الوحدة الوطنية . ولذلك فهو لا يطبق على الأقليات داخل الدولة الواحدة على أساس الرغبة المجردة ،وإلا لأدى إلى تفكك الدولة وانهيار النظام الدولي .
القيد الثاني: عدم اللجوء إليه إذا لم تكن الأقلية مضطهدة.
وقد شهدت السنوات الماضية من القرن الحالي حالتي استفتاء شهيرتين:
الأولى: حالة الاستفتاء على استقلال مونتنيغرو ( الجبل الأسود ) عن صربيا في العام 2006 ،الذى انتهى بإعلانها دولة مستقلة .
الثانية: حالة الاستفتاء على استقلال جنوب السودان في العام 2011 وإعلان الجنوب دولة مستقلة بعد التنسيق مع جمهورية السودان وحضور رئيسها مراسم إعلان الاستقلال.
وبسبب غياب الوضوح الكافي لمفهومي سيادة الدولة ، وحق تقرير المصير، فقد تعرض واقع تطبيق حق المصير لمواقف دولية متباينة ، ففي وقت وقف فيه المجتمع الدولي موقف الرفض للانفصال، وبدا ذلك واضحاً في رفض الاعتراف بجمهورية شمال قبرص على أساس أن هذا الانفصال تم بفعل عمل عسكري تركي غير مشروع، فإننا من جانب أخر نرى أن قوى دولية دعمت انفصال جنوب السودان بشتى وسائل الضغط، بما فيها المساعدة العسكرية، حتى هيأت ظروف قبول السودان بإجراء الاستفتاء على الاستقلال، كما قامت دول حلف الناتو بدعم استقلال البوسنة والهرسك عن يوغسلافيا السابقة حين هاجمت قوات الحلف القوات الصربية التي شنت الحرب على البوسنة والهرسك في أعقاب الاستفتاء الذى انتهى بإعلان الاستقلال في العام 1992 .
وفي الحالة العراقية ، إي مدى شرعية أو عدم شرعية إعلان استقلال إقليم كردستان، وبعيداً عن مواقف الدول الكبرى التي تحكمها المصالح التي يقوم عليها تفسيرها لحق تقرير المصير الوارد في ميثاق الأمم المتحدة ، فإن ثمة خصوصية تميز هذه الحالة تتمثل في أن الإقليم قد شكل بناء على أحكام دستورية تم إقرارها بموافقة قيادة الإقليم التى تقود الحكومة المحلية فيه الآن .
ورغم المآخذ المسجلة على هذا الدستور الذى صدر في العام 2005 ، فإن فيه نصوصاً أكدت وحدة العراق ، من أهمها:
المادة (1) منه التي نصت على أن “جمهورية العراق دولة اتحادية كاملة ذات سيادة.. وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق”.
والمادة (109 ) منه التي نصت على أن ” تحافظ السلطات الاتحادية على وحدة العراق وسلامة استقلاله وسيادته ونظامه الديمقراطي الاتحادي”.
فأولى المادتين تؤكد وحدة العراق وكون نظامه الاتحادي (الفيدرالي) نظاماً يرمي إلى تحقيق اللامركزية دون إخلال بوحدة الدولة، وثانيتهما تضع على عاتق سلطة الإقليم واجب العمل من أجل الحفاظ على سيادة الدولة العراقية على كامل إقليم الدولة الوطني المعترف به دولياً.
وعند العودة الى الشرط الجوهري الذي وضعه القانون الدولي ليكون مدخلاً للقول بتحقق حق تقرير المصير أو عدمه، وهو شرط أن تكون الأقلية مضطهدة ، فلا أحد يمكن أن ينازع في أن هذا الشرط لا يتوفر في حالة إقليم كردستان، إذ أن الإقليم، بمحافظاته الثلاث، يخضع لحكومة محلية تمارس سلطات واسعة تتعدى ما هو مقرر ومألوف في النظم الفيدرالية ، ومن مظاهر التوسع في السلطات احتفاظها بجيش إقليمي لا يخضع لسلطة الحكومة الاتحادية، بخلاف ماجرى العمل به في الدول الفيدرالية من خضوع الجيش في كل أجزاء الدولة للحكومة المركزية الاتحادية يضاف إلى هذا ما جرى العمل به منذ العام 2003 من اختيار رئيس الجمهورية من أحد الأحزاب الكردية المشاركة في العملية السياسية – رغم عدم النص على هذا المبدأ دستورياً – ، وتخصيص نسبة للإقليم من التخصيصات المالية في الميزانية السنوية ( 17 % ) على أساس نسبة عدد المواطنين فيه إلى مجموع مواطني العراق، كما أن الأمر تعدى ذلك إلى قيام سلطات الإقليم بإجراءات لا تمارسها إلا دولة مستقلة ،ومنها تقييد دخول المواطنين العراقيين القادمين من محافظات أخرى إلى الإقليم وإخضاع هذا الدخول لموافقة أو رفض سلطات الإقليم .
وعلى هذا يبدو جلياً- من وجهة قانونية – أن خطوة الانفصال وإعلان الدولة الكردية، لو وقعت ستكون خروجاً على الشرعية الوطنية والدولية، ولعلها تعتمد واقعياً على حسابات موازين القوى ومصالح الإقليم والمصالح الأجنبية التى لا يربطها في عالم اليوم بالضرورة رابط ثابت .
6