23 ديسمبر، 2024 4:05 م

التلفون الأرضي ، في ذمة الخلود

التلفون الأرضي ، في ذمة الخلود

لا يزال التلفون الأرضي (السلكي) سيد الأتصالات في أكثر الدول تقدما رغم التطور الهائل في الأتصالات ، نظرا للميزات التي يتمتع بها ، فهو أرخص وسيلة للأتصال ، وأكثرها اعتمادية ، كما يمكن استخدام خطوطه السلكية لعدة خدمات ، كالفاكس والأنترنيت.
كانت بداية عصر الأنترنيت والموبايل في العراق متعثرة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي ، فمن جهة كانت السلطات آنذاك مهووسة بالهاجس الأمني فيكفي أنها كانت تمنع حتى السفر عند أقل حادث أمني أو حرب أو مناوشة ، وكان (الستلايت) أحد أبرز أعدائها ، ومن جهة انها  أدركت أنها لا تستطيع  الوقوف أمام طوفان هذه الثورة المعلوماتية ، فكانت خطوط الأنترنيت مقتصرة على الجامعات ، وتخضع للمراقبة .
وعند سقوط النظام ، انتشرت شركات الموبايل انتشار النار في الهشيم ، وكأنها كانت محتشدة على الأبواب ، وتحوّل الى بزنس مزدهر ، انبرى الكثير من كبار السياسيين للأستثمار في هذا المجال ، ونتيجة لذلك ، بدأ التلفون الأرضي يختنق ، كيف لا وهو المنافس لهذه الشركات التي انبرت لمحاربته دون هوادة ، حتى أختفى كليا من كثير من المناطق ، وقد اشتقنا لمسكة سمّاعته ولرنينه ، بدلا من مئات النغمات ، وبدلا من (الهزاز) الذي يستفزك في كل وقت ومكان ولا يعطيك عذرا (فالمكالمات الفائتة) لك بالمرصاد ، يقتحم عليك وحدتك وخلوتك وإن كنت في مسجد ، وانت داخل (الكيا) ، أو دورة المياه ! ولا يمهلك خصوصا إن كان المتصل أحد ثقلاء الظل !.
أختفت (الكابينات) المتواضعة في الظل ، وحل محلها الأبراج التي تناطح السماء ، هكذا اختفى ضجيج الشبان والأحداث ونزقهم في الأزقة ، وأنا أراهم يجلسون على قارعة الطريق ، تضيء وجوههم شاشات الموبايل ، وهم يجلسون صامتون على قارعة الطريق ، يتصفحون كل ما هو ممنوع ومرغوب ! ، لدينا مئات الأصدقاء في شبكات التواصل ، لكننا عاجزون عن النظر الى أعينهم ، ونحن نتحدث معهم ، بل لم نعد نميّز بين ما هو حقيقي ، أم إفتراضي !.
عالم متكامل من المواد والمصادر والاراشيف طوع بناني حرفيا على شاشة اللمس (Touch Screen) ، ولا أدري لماذا لا استمتع بأغنية ما من الأنترنيت كاستمتاعي بنفس الأغنية عندما يفاجئني بها المذياع دون ميعاد ! ، ونفس الشيء بالنسبة لمادة علمية ، كنت أتعب من البحث عنها من مكتبة الى أخرى وكأننا نتلذذ بالمكابدة  ، متصفحا أوراق الكتب بروائحها الخاصة التي تذكرني بأيام المذاكرة ، وكأنها تعبق من صرح مقدّس فخم وراقٍ ، رائحة تقودك من محراب الى محراب ، وانت تمر على أضرحة العلماء والعظماء ، وكأنك تستنشق رائحة تاريخهم وكلماتهم ومعادلاتهم ونتاج أذهانهم ، وهم يضعون  كنوزهم بين يديك بلا ثمن ، وكأنك تعبد الله بالنظر الطويل وبتدبّر الى صفحة مصحف بكل خشوع ووجدانية ، بوقت مفتوح لا يسعى حثيثا فيستعجلك كالنظر الى شاشة ، لا أدري لماذا تُشعِرُك بالملل فتميل للتثاؤب اذا بقيت ساكنة  مهما كانت غنيّة ، والأمر مختلف مع كتابٍبدفّتين ، فخمتين ، أم متواضعتين .
هكذا ضاع الهاتف الأرضي الأنيق ، القابع في أهم زوايا المنزل ، ساكنا في مكانه فنحن مَن يهرع اليه بدلا من حمله معنا كالتميمة  مع المفاتيح والمستمسكات الكثيرة التي تطلبها منا الدولة بسبب أزمة الثقة بيننا وبينها .