18 نوفمبر، 2024 1:03 ص
Search
Close this search box.

التكنيك السردي في رواية ( نداء قديم ) للروائي احمد خلف

التكنيك السردي في رواية ( نداء قديم ) للروائي احمد خلف

رواية  ( نداء قديم ) للروائي والقاص احمد خلف التي صدرت عن دار الينابيع – دمشق ، من النصوص التي تحمل نمطية  جديدة على السرد العراقي الحديث، لما احتوته من تكنيك وأساليب سردية متنوعة غاية في الأهمية، وكأن احمد خلف  يبتغي من ورائها التأصيل لمنهجية جديدة في كتابة النص الروائي، لا يتبع فيها سياق ثابت يوشح الوجه العام لذلك النص، رافقتها لغة أنيقة حاول الروائي فيها الابتعاد عن التعقيد اللفظي ، مع قدرة استثنائية امتلكها في اختيار المفردة المناسبة ذات دلالات حسية ومادية مؤثرة في المتلقي، وتوظيفها بشكل جيد لخدمة الثيمة الرئيسية للرواية.
تبدأ هذه الرواية القصيرة أو القصة الطويلة بمدخل فلسفي يغوص في أعماق الذات الإنسانية ، ويمهد لأحداث دراماتيكية سوف تطغى على المشهد العام للنص.. ( في أول المساء ، تحرك القطار وغادر بلدتنا النائية كعادته كل يوم، ثمة غيوم تحوم فوق رؤوسنا المشتتة البال، غيوم تتعدانا وتمضي إلى الناحية الأخرى، غيوم سود تخيم على يدي وأطراف جسدي، خفت أن تتساقط أطرافي واحدا اثر الآخر، كل شيء جائز ويمكن أن يكون، سأحتفظ بيدي إلى النهاية).. مشهد يصور لحظة مغيب الشمس بكل ما يحمل هذا المشهد من تأثيرات سيكولوجية تبعث على الإحساس بالغربة والوحدة والوحشة كونها نقطة الشروع للظلمة وتأثيرها على الفطرة البشرية بوجه عام، ليرتبط هذا المشهد المهيب بتحرك القطار مغادرا البلدة إلى أصقاع مجهولة لم يشر إليها الروائي، على الرغم من تكرار هذه الرحلة لعدة مرات في النص، قطار قادم من المجهول يتوقف عند بلدة نائية كما اسماها الروائي ، لا يُعرف مكانها، ويغادر إلى المجهول، نص سردي غاب عنه عنصري الزمان والمكان ، ارض افتراضية انبثقت من العدم يمر بها قطار المساء ويغادر مسرعا ، وكأنها رحلة الحياة وما هذه البلدة إلا محطة موحشة من محطاتها، التي قرر البطل السارد ان يحافظ بها على  يديه حتى النهاية.
ويتكرر هذا الزخم من المفردات في ثنايا الرواية بشكل ملفت للنظر، ينم عن قصدية يكمن ورائها كاتب محترف يعرف ماذا يريد ان يقول، والى اين يسير بالقارئ، فنجد معظم الأشياء في هذه البلدة مسرح أحداث الرواية لها مدلولاتها المادية والنفسية، ( أسماء الأشخاص، القطار، النهر، الغجر).. كلها تمحورت حول حدث محوري استند عليه الروائي في بنائه الهرمي لنصه، وهو مقتل (يونس الغطاس) تلك الميتة الغامضة التي دارت حولها عدة فرضيات تركت مفتوحة دون الجزم بإحداها.
( يونس الغطاس) الذي حمل اسمه رمزية تعيش في حالة من التناقض مع نهايته المأساوية، حين افترض مقتله على يد امراة غجرية تدعى ( الحوت)، ووجد غريقا في نهر البلدة، هذه المقاربة المثيولوجية المستمدة من الدين والتراث نراها تتكرر كثيرا في كتابات احمد خلف ويوظفها بطريقة تخدم البعد الاجتماعي والإنساني والفلسفي ليثمة نصوصه،  تجعل من القارئ في حالة تناغم معها ضمن اطر انتمائه الديني والعقائدي، يونس النبي الذي التقمه الحوت ونبذه في العراء ويونس الغطاس الذي ابتلعته المراة الغجرية (الحوت) وألقته في النهر، كما اخبر العجوز الغجري اهل البلدة.. (عندنا امرأة نسميها الحوت لكثرة ما ابتلعت من عشاق، عاشقها لا يستمر معها طويلا ، اما تراه يهرب من جورها الجنسي او يموت او يقتل).
تتسارع الأحداث بشكل مضطرد بعد هذه الحادثة بطريقة دراماتيكية، يرويها بطل سارد يروي ما دار من أحداث في بلدته في زمن ما .. وهنا يضعنا الروائي أمام جدلية وتساؤل محير يبدو انه تعمد صناعته قسرا في عقولنا.. من هو البطل السارد ؟ وهل تشكل الرواية جزء من سيرة ذاتية لشخص ما ؟ أم إن هذا التكنيك كان الهدف منه إدارة النص عبر بطل سارد متواري مجهول الملامح والصفات والطباع ، يطل بشكل هامشي على أحداث الرواية، وظيفته خلق حالة من التناغم بين تلك المجموعة من الشخصيات المتناقضة التي تحركت ضمن سياق النص، ليكون حلقة وصل توافقية بينهم ، ( أيوب) المثقف الذي يفيض حكمة والمطلع على كل شيء..(كان أيوب أكثرنا اهتماما بقراءة كتب الدين وقصص الأنبياء والشعراء وتاريخ الملوك والسلاطين الغابرين) ، وبين ( مزهر القصاب) المتهور الجامح الأهوج ..( قال أيوب ذات يوم شاهدت مزهر القصاب يشهر خنجرا ملوثا بالدم، لا ادري ان كان دما حقيقيا ام ان الخنجر كان صدئا ، وهو يركض في أزقة البلدة، يصدر منه صوت أشبه بكلب مسعور) .. لكن الروائي لم يبتعد عن النص كثيرا ونجده حاضرا متواريا هو الآخر خلف شخصية ( أيوب) أكثر من حضور في البطل السارد، وهذا تكنيك آخر نجده يتكرر في نصوص احمد خلف، فغالبا ما يجرد أبطاله من السلطة المطلقة على الاحداث ويعمل على تحجيمهم داخل النص لعدم ثقته بهم، ( أيوب) المسلوب الإرادة العاجز على إدارة دفة الأحداث، الذي وظف له الروائي البطل السارد ليكون نافذته التي يطل بها على القارئ، على الرغم من كونه العارف بكل شيء ، والمتواجد في كل أزمنة الرواية وأماكنها والمتواجد أيضا في أعماق النفوس، وهذا ما نلاحظه بشكل جلي في الهوامش التي رافقت النص الروائي والذي يعد تكنيكا جديدا وغريبا عن جنس الرواية بهذا الشكل الذي أوجده الروائي له، هامش يشرح ويحلل ويسلط الضوء على الأحداث بمعزل عن السرد الروائي، يمثل عنصر تكميلي له عبر طرحه لفرضيات وشروحات وتصورات تفيد القارئ في معرفة ما يحدث وإشراكه في خلق تصورات لما سيحدث.
في بلدة نائية يقرر مجموعة من الأصدقاء الانعزال عن سكانها في كوخ صنعوه لهذا الغرض، يقضون فيه أمسياتهم بمعزل عن عيون المتطفلين، فيختارون مكانا أكثر انعزالا ووحشة من بلدتهم ( البطل السارد، مزهر القصاب، زامل أبو الخواتم ، أيوب، حامد النجار، فاروق الأسود) ، هؤلاء الرجال حمل بعضهم رمزية لظواهر اجتماعية متناقضة، جمعهم الشعور بالضجر ، يقرر بعضهم الأخذ بثار صديقهم ( يونس الغطاس) من الغجر بعد أن طفت جثته على سطح النهر ، في مشهد يمثل انتقالة تكنيكية سردية قريبة من مفهوم ( مسرح العبث) عبر حوارات مقتضبة بين أناس معظمهم مجهولي الهوية يتبادلون عبارات ذات مضامين فلسفية مبهمة ، وتساؤلات لا تنتظر الإجابة ، وهم يقفون على ارض مجهولة ، على ضفاف نهر مجهول في زمن غير معلوم ، انه الحوار لأجل الحوار، والتعبير عما يدور في خلجاتهم وانطباعاتهم عن ذلك المشهد المأساوي لجثة  يونس الغطاس  ..( لم تمض الجثة في سيرها البطيء أمام أبصارنا حتى انقلبت على ظهرها ثانية، ليكشف عن انتفاخ واضح وكدمات في جوانب متعددة من الجسد، مما أثار غضب الناس، وحرك هياجهم واستفز عواطفهم تجاه يونس الغطاس:
–        لا خير في نهر لا يحمي أهله.
وصاح صوت يجهش بالبكاء:
   – نحن لا نخجل من أنفسنا.
وهنا يطرح الروائي نظرة مغايرة للمألوف ، ويتقاطع فيها مع بديهيات أنتجتها الذاكرة المعرفية الإنسانية، ويسجل موقفا مختلفا لما عرف عن (النهر) الذي يعد مصدرا أزليا للخير والعطاء ومصدر من مصادر الحياة المهمة، ونشوء الحضارات، وكأنه يبتغي من وراء ذلك إثارة جدلية فكرية حين يصور لنا النهر رمزا للموت والخوف والغدر..( قال أيوب: كان يونس الغطاس يقول لي: أنا لا أحب النهر بل أخشاه إذا أردت الحقيقة.. النهر الساحر الملعون يغري البلهاء من الناس وأنا لست أبلها ).
بعد مقتل يونس الغطاس يقرر مزهر القصاب الأخذ بثأره من الغجر الذين يسكنون الضفة الأخرى من النهر، فيعد العدة لذلك، ويكون البطل السارد جزء من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر على الرغم  من عدم قناعته بالأمر.. لكن هل فعلا إن يونس الغطاس قد قتله الغجر ؟ لماذا جعل احمد خلف نهاية الرواية مفتوحة على هذا القدر من الإبهام والغموض ؟ زامل أبو الخواتم المتهم الآخر بقتل يونس الغطاس يُقتل ويرمى في النهر، والغجر يرحلون عن البلدة، لتنتظر قدومهم مرة أخرى بعد ثلاثون عام ، زيارة تتكرر ضمن دورة تمثل عمر جيل كامل.
هل كان يونس الغطاس رمزا للإنسان بجموحه ورغباته وغرائزه وانقياده الفطري للذة ؟ ..( فاضت بعض أسرار أيوب في لحظة حامية واخبرني إن يونس الغطاس زاد تردده على خيام الغجر).
لقد اختزل لنا الروائي رحلة ازلية تتجدد عبر متوالية زمنية للإنسان وغرائزه في علاقة يونس الغطاس بالغجر ، في رحلة لا تكتمل إلا بعبور نهر الحياة الهائج الغادر الذي لا تعرف أسراره .. ( قال أيوب للنهر أسرار لا يعلمها إلا الخالق) .. لقد تغلب احمد خلف في  نظرته هذه على طبائع وأفكار أبطاله فجعلهم ينقادون مرغمين لها في موقفهم اتجاه ( الإنسان، الحياة، الموت ، القدر، الجنس) وقد بلورها في نهاية فنتازية لرؤية يطل بها البطل السارد على النهر ..( وخيل إلي لبرهة من الوقت أني أرى كما يرى النائم تماما، مع أن دنيا تحدثت معي أكثر من مرة، فأدركت أني لست بنائم، رأيت وجوها شاحبة وأجساد شويت بالنار الحامية، وأفواها مفغورة، وأجسادا تلقت عشرات الطعنات نساء شالحات ثيابهن وأطفال عراة…) وتستمر هذه الرؤية الغرائبية للبطل السارد حتى تضع الرواية أوزارها، بان يرى مزهر القصاب يغوص في عمق المياه لنهر البلدة النائية الهائج.

أحدث المقالات