علماء ومفكرو ومناظرو الفلسفة والاجتماع وعلم النفس أمثال (ماركس) و(ماركيوز) و(ماكس فيبر) و(جورج لوكاتش) و(مارشال ماكلوهان) و(يورجين هابرماس) و(ألبرت إشفيتسر) و(اشبنجلر) و(هوركهايمر) و(أدورنو) وغيرهم، أسهبوا الأحاديث والتحليلات والتفسيرات لما أفرزته الحضارة المعاصرة والتقدم التكنولوجي من حالات خطيرة في اختلال القيم واغتراب الإنسان بفعل سيطرة قوى الإنتاج الرأسمالية وقوانينها على الإنسان؛ بعد إن حاصرت محيطه الاجتماعي وأدخلته مرغما في آلياتها الصناعية التي (شيئته) فيها ليكون مفصلا من مفاصلها وشيئا من الأشياء الآلية مكوكه بتوقيتات محددة وبخطوط معينة سلفا؛ وأصبح كيانه ووجوده وقيمته تقاس بنوعية وكمية إنتاجه، وهذا ما جعل (الإنسان) كل ما يمثل من وجود وذات وكيان مهدد على الدوام، وهنا حدثت أزمة في القيم، ليفقد رويدا.. رويدا جوهره الإنساني وليصبح بلا قيمة ولا وجود؛ وهذا الإحساس بمرور الأيام نمى في ذاته بما أحس بأنه فقد هويته وهو ما أشعره باغتراب ذاته، وهذا التغيير المؤثر في سلوك الإنسان هو ما أثار المفكرين فسلطوا الضوء لما آلة إليه واقع الحضارة الإنسانية وما حدث للإنسانية من أزمة القيم، فكثفوا دراساتهم بهذا الاتجاه؛ ورغم تعدد اتجاهات التحليل والبحوث المقدمة إلا أنها في جوهرها أخذت معنى واحد لحالة (الاغتراب) لما آلت إليه واقع الإنسان المعاصر؛ بعد إن حوطته التكنولوجيا من كل الجهات وتغلغلت في مجرى حياته بشكل كلي ومباشر، لتمتد المعرفة التكنولوجيا إلى حواسه وأصبح كل احتياجاته وطلباته تدار من خلال هذه آلية؛ وهنا تكمن خطورة هذه المعرفة لأنها تكون موجهة من خلال تقنيات التكنولوجيا التي تسيطر إليها جهات لا يخرج محيطها من قوى الصناعية وقوانين الإنتاج الرأسمالي .
وما نشاهده اليوم من ولع الإنسان – سواء أطفالا كانوا أو شبابا أو من فئات متقدمة من العمر – بالالكترونيات واستخدامها ليل .. نهار وبشكل مفرط لدرجة التي أصبحت حياتهم؛ سواء بالمشاهدة أو الرسم أو الاستماع ؛ تشكل وفق آلية التكنولوجيا وتطورها؛ لدرجة الذي بات (الإنسان المعاصر) لا يستطيع تصور وضعه بدون هواتف المحمولة (الموبايل) و(الايباد) و(اللابتوب) المزودة بشبكات (الانترنيت)، فالكل يحمل هاتفه (الموبايل) وهم يمشون.. وهم يأكلون.. وهم ينامون.. وحتى وهم كأصدقاء أو أحباب جالسون معا في المقهى أو المكتبة أو المدرسة أو في الحدائق العامة؛ نراهم كل واحد منهم منهمك مع صفحات التي يتصفح فيها عبر (موبايله)؛ ليأخذ هذا الهاتف لذة المحاورة من بين الأصدقاء وتبادل الآراء والأحاديث ومناقشة المواضيع الخاصة والعامة، وهذا الوسيط الذي هو (الموبايل) – بلا ادني شك – اثر تأثيرا سلبيا على سلوكهم؛ حيث نلاحظ سلبياته حقيقية على بيئة الفرد الاجتماعية وتكوين شخصيته؛ بكونه سبب إلى تفكيك نسيج القيم الإنسانية الاجتماعية بين إفراد الأسرة الواحدة والأصدقاء وبين الجيرة والأقرباء؛ التي كانت تتحلى بها منذ نشوء حضارة الإنسان على هذا الكوكب، لان اليوم في ظل هذه التكنولوجيا أصبح بالإمكان كل إنسان المكوث لوحده في المنزل ولساعات طويلة دون إن يشعر بالملل أو انه بحاجة للتواصل مع الآخرين، لان تكنولوجيا آلية في الهواتف الذكية (الموبايل) و(الايباد) و(اللابتوب) والمزودة بشبكات (الانترنيت) بما تشمل من قدرات وإمكانيات عالية من التكنولوجيا المتطورة؛ حفزت الإنسان لترفيه الرقمي إلى ما لا نهاية سوءا باللعب أو الاتصال أو التعارف أو مشاهدة الأفلام والمسلسلات وأخبار الفنانين والحفلات الخاصة والعامة والتجوال في مدن العالم أو أي شيء يخطر في الذهن .
وهذا الهوس عند الإنسان بالأجهزة (موبايل) و(الايباد) و(اللابتوب) والمزودة بشبكات (الانترنيت) نلاحظ تبعاتها السلبية تظهر في سلوك الإنسان أشبه ما تكون باضطرابات سلوكية نفسية حادة عندهم إن لم تكن هي ذاتها، إضافة على ظاهرة اكتئاب ملحوظة بين فئات الأطفال.. والمراهقون.. والشباب.. وحتى امتد تأثيره إلى فيأت عمرية متقدمة؛ حيث الآثار النفسية أخذت تأخذ مأخذها في سلوك الإنسان؛ بما تفرزه من حالات الاكتئاب والقلق واضطرابات النوم نتيجة السهر وعدم إشباع الجسد بقسط من الراحة نتيجة توالي الجهد الفكري عليه وهم يتواصلون المتابعة بتركيز النظر في (الموبايل) أو (الكومبيوتر) أو (الايباد) وبما يتطلعون لمشاهدته بشكل مفرط وغير معقول؛ وكل ذلك يشكل تحديا لوجود الإنسان السوي الخالي من الإمراض العصر؛ لدرجة التي قوقعت هذه التكنولوجيا حياة الإنسان وجعلته مغتربا عن واقعة؛ والتي بدا تأثير هذا (الاغتراب) يأخذ كيان الفرد الذي لا يشعر بوجوده نتيجة انغماسه بشكل اللاوعي في هذه الآليات التي أخدرته وأوهنت قدراته التفكيرية خارج إطارها السوي، وكل ذلك كان تحديا خطير للقيم الإنسانية نتيجة (تشيؤ الإنسان) في الإنتاج التكنولوجي المدمر لسلوكه، فتشيئه جعلت من الإنسان شيئا لا إنسانيا؛ بعد إن جردته من مقومات الإنسانية والذي أثرت على تفكيك العلاقات الاجتماعية في المجتمع وعلى مستوى التربية.. والتعليم.. والصحة النفسية؛ لان أداة التحكم على هذه التكنولوجيا هي بيد قوى وقوانين الإنتاج الصناعي الرأسمالي؛ والتي تريد بث قيمها في المجتمع بأساليبها الخاصة وبكل الوسائل الممكنة؛ لكي لا يكون أي شيء خارج نطاق سيطرتها، وبهذه التقنية عملت هذه القوى بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى تعطيل ملكات العقل بعد إن أمكنت على (تشيؤ الإنسان) وتعطيل إمكانياته العقلية؛ بعد إن حلت التكنولوجيا الإلية سواء (الموبايل) و(الايباد) و(اللابتوب) والمزودة بشبكات (الانترنيت) محل (عقل الإنسان) ليتم تجريد (عقل الإنسان) من التفكر والإبداع و إمكانياته في التحليل؛ لان هذه التكنولوجيا تقوم مقام (العقل) وتقدم كل ما هو مطلوب بدون جهد البحث والتدقيق والتمعن والمراجعة، بقدر ما أصبح مهام (العقل) هو التلقي والتدريب الاداتي لوظائف تحدد مهامه بانجاز ما يتم أمره؛ ليتم تحويل ملكاته إلى وظائف اداتية – ليس إلا – ليتم تشيؤه وتحويله إلى آلة هو الأخر، هذا التعطيل للعقل الإنسان شل إمكانياته الإبداعية وقدرته التحليلية وهو من دمر الإنسان وجعله أداة تنفيذية غير مبدعة .
نعم إن هذه المنتجات والأجهزة الالكترونية منحت أفضل خدمات للإنسانية لدرجة التي لا يمكن الاستغناء عنها؛ وأمر رفض هذه التقنية أصبح محال على الأقل في هذه المرحلة لكثرة استخداماته ولتغيير الذي أحدثته في معالم الحياة الإنسان، ولكن علينا إن لا نخضع منبهرين بهذه الانجازات التي يقدمها التطور التكنولوجي من دون إن نحلل سلبيات التي تفرزها؛ لدرجة التي تجعل من الإنسان خاضعا لآلياتها وقوانينها فينجر في منزلق الرأسمالية المتوحشة وفي قوانين (العرض) و(الطلب)، وهذا اخطر ما يتعرض إليه الإنسان بكونها آلية لتجريد القيم الإنسانية وربطها بعلاقات اقتصادية خطيرة؛ وهي التي تساهم مساهمة فعلية في (التشيؤ) الإنسان وإبعاده عن حقيقة ماهيته الإنسانية وجوهرها؛ بكونها تجريدا لمفهوم الإنسانية وتحويل كنهه إلى مجرد شيء من الأشياء المادية وإخضاعها لقوانينها؛ وهو أمر يجرد العلاقات الاجتماعية تجريدا كاملا؛ بكون هذه التكنولوجيا هي المسببة لهذه التغيرات الخطيرة في بنية المجتمع؛ فان كانت هذه التكنولوجيا جعلت من عالمنا (قرية صغيرة) في (نظام العولمة) ولكن هذه (القرية) فقد فيها أو بالأحرى لا يوجد فيها (قيم إنسانية)؛ بكونها (قرية) مجردة من الأحاسيس والمشاعر والعلاقات الاجتماعية والقيم الإنسانية، فحين أجاد التطور التقني والتكنولوجي من بناء بنايات سكنية عملاقة – وهذا ما نراه في اغلب بلدان العالم في أوربا وأمريكا – تحتوي على أكثر من خمسين أو ستين شقة سكنية؛ ولا نقول مائتان أو ثلاثمائة شقة بل وأكثر من هذا لعدد من الشقق؛ وتقيم فيها عوائل من شتى دول العالم بعد تزايد موجات الهجرة والنزوح بفعل اختلال التوازن الدولي وتدخل في شوؤن الداخلية وسباق التسلح وإيجاد بؤر التوتر وصناعتها لتكون مصدرا لتهريب السلاح والمتاجرة؛ وكل ذلك جاء نتيجة هيمنة القوى الإنتاج والصناعة الرأسمالية، فما نلاحظه بان استقبال الدول الصناعية لهؤلاء المهجرين والنازحين وقبول طلبات الهجرة من شتى دول العالم في الدول الأوربية وأمريكا؛ نظرا لطلب المتزايد على الأيدي العاملة بغية استغلالهم في معامل الإنتاج العملاقة؛ ومن ثم قيام هذه الدول ببناء هذه البنايات أو العمارات السكنية وتجميع العوائل من شتى إنحاء دول العالم فيها جاء لعدة أسباب منها تطويق تحركاتهم وسحب جزءا ليس بالقليل مما يتم دفعه من الرواتب لهم لتسديد ثمن الإيجار؛ ومن ثم فان هذا النظام من البنايات يقنن خدمات الصرف الصحي والبلدية وما إلى ذلك؛ بكون هذا العدد الهائل من العوائل تسكن في محيط صغير يمكن السيطرة عليهم، وفي المجمل فان كل عائلة من هؤلاء العوائل التي تسكن شقق هذه البنايات تعيش وهي معزولة تماما؛ فكل شقة التي تقطنها واحدة من هذه العوائل لها خصوصية وعالمها الخاص بها؛ بحيث لا احد يعرف الأخر؛ لا الجار يعرف جاره؛ ولا يتم التزاور فيما بينهم؛ ولا يعرف الجار الذي شقته تجاور شقة الأخر شيئًا عنه ولا حتى اسمه؛ لا وبل عن كل من حوله؛ وحتى إذ التقوا في ممرات العمارة أو في المصاعد لا يتم بينهم أي حوار؛ الكل منطوي مع نفسه لا علاقة بالأخر؛ وإذ حدث أي حادث عرضي لا احد يبادر للمساعدة، أليس هذا الواقع الذي تعيشه المدن الصناعية في أوربا وأمريكا وغيرها من مدن العالم الصناعية تجريد للإنسان من القيم الإنسانية التي جاءت نتيجة هذا التطور التكنولوجي؛ ليفرض المجتمع الصناعي أسلوب الحياة وفق عقلية أداتيه تفرضها قوانين الإنتاج والتكنولوجيا والصناعة الرأسمالية على حساب التواصل الاجتماعي العقلاني وعلى كل المستويات وفي جميع مجالات الحياة، وهذا ما افرز في داخل مشاعر الإنسان شعورا بـ(الاغتراب)؛ بعد إن سيطرت وفرضت قوانين الإنتاج والصناعة الرأسمالية هيمنتها وسلطتها المتزايدة على كل أنشطة الحياة الاجتماعية بما فيها (الثقافة)؛ ليتم عبر آلية النظام الرأسمالي؛ صناعة (ثقافة خداعة) تفرض هيمنتها على المجتمع عبر إخضاع وعي الإنسان لثقافة الإنتاج الرأسمالي ليتم غسل وعي الجماهير عبر أدوات التكنولوجيا المقدمة لهم، فسخروا الصحف.. والمجلات.. والسينما.. والإذاعة.. والتلفزه.. وشبكات الانترنيت؛ لتقديم ثقافة استهلاكية صناعية لربط المجتمع برمته بدائرة الاستهلاك لمنتجات القوى الرأسمالية المهيمنة على الأوضاع العامة؛ لتكون هذه (الثقافة) بديل عن ثقافة الأدب.. والفن.. والتربية.. التعليم.. وقيم العقل.. والحرية؛ ليكون هدف قوى الإنتاج الرأسمالي إنتاج (ثقافة) قضاء وقت الفراغ بالتسلية وألهو الفارغ المحتوى؛ ليتم القضاء عن الإبداع الفكري الحر؛ وهذه (الثقافة) هي إيديولوجيا النظم الرأسمالية لإخضاع وعي الجماهير لقوانين وسلطة الإنتاج الصناعي والرأسمالي ليشكل هذا النمط من (الثقافة الجماهيرية) تطلعا حضاريا ليس فيها أي (بعد) سوى البعد العقلاني لتكنولوجيا والصناعة الرأسمالية، ولهذا فان (الحضارة الإنسانية) اليوم تدخل مرحلة التداعي، بعد إن أصبح الإنسان ومؤسساته الاجتماعية تتقوض لتحل مؤسسات التكنولوجيا والصناعة محلها؛ لا وبل تتغلغل في كل مجالات الحياة بما أدى إلى اغتراب الإنسان المعاصر .