“التكلّس النيابي”.. أزمة الأداء السياسي في العراق

“التكلّس النيابي”.. أزمة الأداء السياسي في العراق

منذ أكثر من عقد ونصف، تتكرر الوجوه في البرلمان العراقي، وتُعاد الخطابات ذاتها، حتى غدا المشهد السياسي أسير ما يمكن وصفه بـ”التكلّس النيابي”، وهذا التوصيف لا ينصرف إلى الأشخاص فحسب، بل إلى نمط أداءٍ توقف عند حدودٍ ضيقة ولم يعد قادراً على مواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها العراق.

لقد انشغل عدد غير قليل من النواب بأدوار خدمية محلية، تختزل العمل النيابي في مسألة تقديم الخدمات المستعجلة، ومثل هذه المهام قد تكون ضرورية، لكنها ليست جوهر وظيفة النائب، فالمؤسسة التشريعية يفترض أن تُعنى بصياغة القوانين، ورسم السياسات، ومراقبة التنفيذ، وإذا كان هناك مسعى فالأولى نحو المشاريع الاستراتيجية، لا أن تتحول إلى بديل مصغّر عن المجالس البلدية.

وإذا نظرنا إلى مناطق جنوبي بغداد فهي مثال صارخ لهذا الخلل، برغم أنها مناطق قدّمت تضحيات كبيرة في مواجهة الإرهاب وكانت في لحظات مفصلية الحصن المنيع لبغداد من المجاميع الإرهابية، لكنها لم تضمد جراحها بمكاسب تنموية متوازية مع تلك التضحيات، فشحّ المياه أنهك المزارعين، والمشاريع الصناعية غائبة، بينما يفتقر الشباب إلى المعاهد التدريبية، والبرامج التي تفتح أمامهم أبواب العمل المنتج، ومع ذلك، بقي الأداء النيابي في هذه المناطق محصوراً في الإطار التقليدي، ما عمّق شعوراً عاماً بالمظلومية التنموية.

في المقابل، يشهد العراق إطلاق مشاريع كبرى مثل ميناء الفاو، وطريق التنمية، إلى جانب استثمارات واسعة في مجالات الطاقة والبنى التحتية، وهذه المشاريع تتطلب نواباً يمتلكون وعياً اقتصادياً، وقدرة على سنّ تشريعات تحمي حقوق العاملين وتوفّر بيئة جاذبة للمستثمرين، غير أن الجمود البرلماني سيحول دون مواكبة هذه المتغيرات، ما يبقى الاستفادة من تلك المشروعات محدوداً بالنسبة لمحافظاتهم، بشكل خاص وبلدهم بشكل عام.

في المقابل، يبرز جيل جديد من الناخبين أكثر وعياً وتطلّعاً إلى التغيير، وهذا الجيل، الذي نشأ في زمن الانفتاح الرقمي، لم يعد مقتنعاً بخطابات الانقسام الطائفي أو بالشعارات المستهلكة، بل مطالبه واضحة؛ وهي فرص عمل، وسكن لائق، وخدمات مستدامة، ودولة مؤسسات بعيدة عن التفرد في السلطة.

إن أخطر ما في التكلّس النيابي أنه يُطبع الفشل ويجعله مألوفاً، بحيث يصبح القصور في الأداء أمراً طبيعياً لا يثير الاستغراب، وإذا لم يُكسر هذا الجمود، فإن العراق سيظل يراوح مكانه، فيما تمضي دول الجوار بخطى متسارعة نحو تنمية اقتصادية واجتماعية متقدمة، وهذا يؤكد أن المرحلة المقبلة، بما تحمله من تحديات إقليمية واستحقاقات تنموية، تستدعي مراجعة عميقة لدور النائب العراقي، فالمطلوب هو الانتقال من منطق الخدمات الموضعية إلى منطق التشريع الاستراتيجي، باعتبار أن التغيير لا يُختزل في تبديل الوجوه، بل في تبديل طريقة التفكير وأدوات العمل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات