لعل عنوان هذه المقالة غريباً نوعاً ما ولكن وكما يعبرون إذا ذكر السبب بطل العجب… وهذا هو الذي حدا بي إلى كتابة هذه الحروف، هل سألت نفسك ما هو التكليف قبل التقليد؟ يعني إنك حينما تقوم بعملية التدقيق عن مرجع التقليد الذي يجب تقليده خلال هذه الفترة (أي فترة الفحص) وقبلها ما هو التكليف؟ مع أننا نعلم خلال فترة الفحص التكليف هو العمل بطريق الاحتياط كما نصّت عليه المسألة رقم (10) من منهج الصالحين ولكن السؤال هو عن التكليف قبل فترة الفحص وبعبارة أدقْ كيف يتسنى لك معرفة الشرائط وثبوتها عليك مع إنك لم تقلد بعد بل ما زلت تفحص عن الذي يجب عليك تقليده…
ومن المؤكد أن الشرائط المذكورة في الرسائل العملية هي أحكام شرعية وهذا الأمر يؤدي إلى إنك حينما تدقق في هذه الشرائط وتبحث عن من يتصف بها هذا يعني إنك عملت بها وطبقتها وهذا هو التقليد بعينه وكأنما إنك قلدت قبل التقليد مع إنك لازلت لم تدخل طريق التقليد بعد… وهذا إشكال قد يخطر في البال فيا ترى ما حله وجوابه….
وإن هذه المقالة الغاية منها التعرض إلى حل هذا الإشكال والجواب عليها بعونه تعالى، قلنا قبل قليل إن الشرائط هي أحكام شرعية بل هي من الأحكام الوضعية… وبالحقيقة وبصورة عامة أن الأحكام الشرعية على قسمين:-
القسم الأول:- الأحكام الشرعية الضرورية وهذه الأحكام لا تحتاج إلى اجتهاد واستدلال وبرهان ويتساوى فيها المجتهد والعامي وهي خارجة عن موضوع التقليد والاجتهاد ونسبة هذه الأحكام قليلة بالنسبة لجميع الأحكام الشرعية قد لا تتجاوز 5%ولا شك إن بعض الشرائط المذكورة في الرسائل العملية هي من الأحكام الشرعية الضرورية كاشتراط الإسلام وغيره….. يعني إن هذا الفرد وجبت عليه الشرائط من دون تقليد لأنها لا تحتاج إلى تقليد… لأنها معلومة بالضرورة التي تحتاج إلى النظر والاستدلال.
القسم الثاني:- الأحكام النظرية الاجتهادية وهي الأحكام التي تحتاج إلى اجتهاد واستدلال ونظر بحيث لا يتسنى للفرد العامي معرفتها بل هي من مختصات المجتهد… ويطلق على هذه الأحكام النظرية مصطلح الفتوى، والفتوى هي بيان الأحكام الكلية المستنبطة من الأدلة التفصيلية… إن الفتوى هي حكم شرعي نظري اجتهادي… إن الأحكام الشرعية النظرية (الفتوى ) تقسم إلى قسمين:-
الأول:- الفتاوى الاجماعية يعني التي تكون محل أتفاق جميع الفقهاء المجتهدين بحيث لا يشذ عن هذه الفتوى أي مجتهد…
وفي الفتاوى الاجماعية لا يجب على المكلف الرجوع إلى الأعلم كما هو مفهوم من مسألة ( ) التي تنص على: ((إذا اختلف المجتهدون في الفتوى وجب الرجوع إلى الأعلم)) هذا منطوق المسألة ومفهومها هو في حال عدم اختلاف المجتهدون في الفتوى وهو الإجماع لا يجب الرجوع إلى الأعلم أما لكون المكلف أحرز فتوى الأعلم ولو عن طريق غير الأعلم لأن الفتوى واحدة لدى الجميع… وأما لكونها سالبة بانتفاء الموضوع أي إن موضوع الرجوع للأعلم هو الاختلاف بالفتوى وليس الإجماع…
وبعض الشرائط هي من الفتاوى الاجماعية أي لا تحتاج إلى تشخيص الأعلم والفحص عنه وهي حجة قبل التقليد وبعد التقليد… ومن هذه الشرائط التي محل الإجماع هي العدالة والاجتهاد وطهارة المولد…الخ والخلاصة إن الإشكال يرتفع بالنسبة للشرائط التي تعتبر من الأحكام الضرورية والفتاوى الاجماعية.
الثاني:- الفتاوى الخلافية وهي أحكام شرعية نظرية اجتهادية اختلف الفقهاء فيها وفتوى المشهور هو من الفتاوى الخلافية، وبالحقيقة إن بعض شرائط مرجع التقليد هي من هذا القسم يعني خلافية كشرط الأعلمية وشرط الحياة للتقليد الابتدائي وفي هذه الحالة يتأكد الإشكال لأن المكلف على أي مبرر يختار المجتهد الحي في التقليد الابتدائي ولم يختار الميت وكذلك بالنسبة لشرط الأعلمية فهناك من الفقهاء من لا يشترط الأعلمية…
والمكلف قبل التقليد كأنما يعمل بفتوى واحدة فتراه يبحث عن الأعلم ويبحث عن الحي ألا يعتبر هذا العمل تقليد قبل التقليد؟
لأنه في اختياره لشرط الأعلمية كأنما قلد من يفتي بذلك وكذلك بالنسبة لاختياره المجتهد الحي فهو كأنما قلد الذي يفتي بشرطية الحياة في التقليد الابتدائي…. مع إن المكلف لا يحق له العمل بطريق التقليد إلى بعد تشخيص المجتهد الجامع للشرائط وهو لم يشخص بعد… وهذا يعتبر من الإشكالات المهمة التي يُعتبر مجرد الالتفات إليها تمثل فهم فقهي معتدٍ به…
فهل لهذا الإشكال جواب؟
للجواب عن هذا الإشكال فإن التكليف هو العمل بطريق الاحتياط بالنسبة للشروط التي هي محل خلاف بين الفقهاء… وإذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فإن الاحتياط يقتضي التعيين، يعني بالنسبة لشرطية الأعلمية فهي من الفتاوى الخلافية، فالذي يشترط الأعلمية فهو بمثابة التعيين، والذي لا يشترط الأعلمية فهو بمثابة التخيير وبالتالي إن طريق الاحتياط يقتضي التعيين يعني شرطية الأعلمية وكذلك شرطية الحياة بالنسبة للتقليد الابتدائي… يتضح إن المكلف حينما يبحث عن الأعلم ويدقق عنه وعن سائر الشرائط الخلافية فإن المبرر الشرعي هو الاحتياط وليس التقليد وحتى لو كانت الشرائط الأخرى ليست اجماعية ولا ضرورية فإن الاحتياط يقتضي مراعاتها بناءاً على دوران الأمر بين التخيير والتعيين والاشتراط هو التعيين… وقد يخطر في البال إشكال وهو أن مشروعية طريق الاحتياط محل خلاف فالمشهور يفتي بجواز العمل بطريق الاحتياط ولكن السيد الشهيد محمد الصدر (قدس) يخالف المشهور لأنه يفتي بعدم جواز طريق الاحتياط… وبالتالي كيف يتسنى للمكلف العمل بطريق الاحتياط في فترة ما قبل التقليد مع إنه من الفتاوى الخلافية…؟
والجواب هو أن طريق الاحتياط في عموم المسائل هو محل خلاف وليس طريق الاحتياط في بعض المسائل، بل محل إجماع… لأن فتوى الشهيد الصدر (قدس) تستثني بعض المسائل يعني الفتوى بجواز الاحتياط في بعض المسائل وفترة الفحص هو من هذا البعض…
لأن السيد الشهيد يقول (( لكن الاحتياط في بعض المسائل جائز)) والمشهور يفتي بمشروعية جواز الاحتياط في جميع المسائل ومن ضمنها هذا البعض والنتيجة هو الإجماع في جواز العمل بالاحتياط في بعض المسائل… والخلاصة أن البحث عن المجتهد الجامع للشرائط بما فيها الحياة هو من مقتضيات العمل بطريق الاحتياط حتى على تقدير أن جميع الشرائط من الفتاوى الخلافية فإن العمل بالاحتياط يقتضي إشتراطها وهنا يمكن القول بجواز تقليد الميت ابتداءاً إذا كان أعلم الأحياء يفتي بجواز ذلك، وذلك بمرحلتين :-
المرحلة الأولى: إن الاحتياط يقتضي الرجوع إلى المجتهد الحي الجامع للشرائط.
المرحلة الثانية: إن فتوى الحي الجامع للشرائط حجة على المكلف وبالتالي يلزمه تقليد أعلم الأحياء والأموات يعني مشروعية تقليده للميت ابتداءاً مستند إلى فتوى الحي الجامع للشرائط…
بقي السؤال عن كيف أصبح الاحتياط في التكليف قبل التقليد وفي فترة الفحص؟
والجواب وببساطة إن المكلف أمامه ثلاث طرق إما طريق الاجتهاد وإما طريق الاحتياط وإما طريق التقليد
والعامي أمامه طريقان الاحتياط والتقليد… وحيث إنه لا يجوز له العمل بطريق التقليد قبل تحديد المجتهد الجامع للشرائط يبقى أمامه طريق واحد لا غير وهو العمل بطريق الاحتياط مؤقتاً إلى أن يتشخص له المجتهد الجامع للشرائط لكي يدخل طريق التقليد ويترك طريق الاحتياط ونكرر ما قلناه إن التكليف قبل التقليد هو العمل بالاحتياط وهو احتياط في بعض المسائل ليس إلا.