يقول العرب “خير الكلام ما قل ودل“ ويقول الإنكليز “خير الكلام ما كتب على ظهر طابع“, وهناك الكثير من المأثر والقصص تنسب لهذا وذاك لكن موضوعنا يخص مدلولات مقولة الإنكليز عن خير الكلام.
في الحرب العالمية الثانية كان هناك شخص امريكي يسكن المانيا النازية يعلم اطفالها اللغة الإنكليزية نهارا ويتجسس لصالح بلده أمريكا ليلا. اقتضت الضرورة ذات يوم ان يرسل معلومة خطيرة: معلومة يمكن ان تحسم الحرب المدمرة لصالح بلده، تلك الحرب التي استمرت لست سنوات وحصدت أرواح ملايين البشر في جميع ارجاء المعمورة ولكن، كيف السبيل لإيصالها دون ان تكتشف او يهلك هو.
جلست زوجته ذلك اليوم تتناول قهوة الصباح وتتصفح الجريدة في منزلهما بمدينة نيويورك حتى طرق ساعي البريد الباب وسلمها رسالة ومن خلال الطابع البريدي عرفت في الحال ان الرسالة من زوجها الذي لم تره منذ أكثرمن ثلاثة سنين حيث اعتاد ان يكتب لها بين الحين والأخر. فتحت المظروف بلهفة واشتياق كونها لم تسمع منه منذ حوالي العام ولكنها صدمت من محتوى الرسالة فقد كتب فيها غزلا وأثارة جنسية غير معهودة مما اثار استغرابها ودهشتها.
عادت وقرأت الرسالة مرة أخرى وثانية وثالثة علها تصدق عينيها وتفهم ماذا دهى ذلك الرجل الوديع الهادئ الطباع بان يتفوه بتلك الالفاظ المخجلة على مدى أربع صفحات من المشاعر الجياشة والهوس الجنسي.
تملكتها الحيرة من تصرف زوجها اذ لم تكن تعرف حقيقة كونه في مهمة تجسسية، وما إذا كان هناك امر ما في ثنايا خطاب الغرام هذا فأعادت الكرة وقرأت الرسالة ثانية لكنها لم تجد الا مدى اشتياقه لها واوصاف جسدها بأدق التفاصيل وماذا سيفعله ان التقيا.
تيقنت من ان هناك امرا ما يود ايصاله فقررت مفاتحة صديقهما المشترك وكان زميلهما قبل الزواج عله يتمكن من مساعدتها وفك رموز الرسالة لكنها عدلت عن رأيها بعد ان فكرت بسمعتها وكيف ستنظر بوجه هذا الصديق المقرب مرة أخرى ان تعرف على اسرارهما الزوجية ومفاتن جسدها حينها قررت الاتصال بالسلطات الأمنية وخلال اقل من ساعة حضر رجال المباحث (سي أي أي) ،اخبروها من ان زوجها لابد انه يفتقدها وربما تناول كمية كبيرة من الكحول قبل ان يكتب هذه الرسالة ولا داعي للقلق لكن على سبيل الاحتياط يجب عليهم ابلاغ رئيسهم بمحتوى الرسالة ثم انطلقوا مسرعين.
لم تتمكن السي أي أي من فك رموز الرسالة مما اضطرهم اللجوء الى الطريقة المعهودة في فك الرموز وذلك عن طريق مطابقة حروف وكلمات الرسالة مع ما يعادلها في صفحات كتب ومخطوطات متفق عليها خلال التدريب للوصول الى جملة جديدة بالمعنى المقصود لكنهم لم يتوصلوا لشيء الا ان رئيسهم اصر على الاستمرار وطلب منهم جلب المزيد من المصادر والكتب وبكل تأكيد سيعثرون على الجواب لكنهم اخبروه من انهم استنفذوا جميع الكتب والمخطوطات المتفق عليها مع جواسيسهم ولم يستطيعوا تكوين جملة واحدة مفيدة عندها صرخ رئيسهم (الطابع ,الطابع, فتشو ظهر الطابع) وكان له ما اراد.
كان الطابع في ظاهره عبارة عن صورة الفيوهرر ادولف هتلر، لكن على ظهره كتبت ضالتهم المنشودة: تاريخ الاجتماع السري لقادة الجبهة الغربية مع هتلر وهو التاريخ الذي استغله الحلفاء للهجوم على دنكيرك الفرنسية وتحريرها حيث انهار الجيش الألماني هناك وسقطت برلين في غضون أسابيع من ذلك التاريخ.
عن خير الكلام اتحدث، عن تقوى القلوب الصادقة، وليس عن تقوى سياسيي العراق صغيرهم حتى كبيرهم: إعلامهم وشخوصهم، رموزهم واحزابهم،ومؤسساتهم التنفيذية والبحثية “الفكرية”، لا فكر لديهم عن معنى الأشياء واصلها لكنهم والحق يقال فنانون، تفوقوا على جميع اجناس البشر فياستخدام “فن التقوى السياسية“، كدليل للتمدن والعدالة والانفتاح،يستخدمون كلمة “السيد و الدكتور والاستاذ و جناب و الفاضل و المحترم”،على من هب ودب من نفرات ونكرات المشهد السياسي العراقي وبهذا أضحت “التقوى السياسية” عبارة عن شعار مهين على نطاق واسع، حيث يتصور هؤلاء انهم يكسبون الجمهور في العراق، وربما حتى العالم!
في العالم الحر، يعمل مبدأ التقوى السياسية، إذا استخدم بتواضع،كمصطلح وصفي محايد لتجنب الأقوال والأفعال التي يمكن أن تهمش أو تسيء إلى مجموعات معينة من الناس لكن الناس في العراق يدركون جازمين من ان لا سيد ولا تقي ولا محترم بين هؤلاء القتلة والسراق المتربصين بمستقبل ومصير العراق، ان تقواهم بنبرتها الحتمية تثير الشعور بالغثيان ولا تعدوا كونها كما توصف في الاعلام المتحضر “فن استخدام كيس التقيؤ“ على متن الطائرات.
تشير القوى الظلامية التي تهدف إلى تشويه سمعة شباب ثورة تشرين الى بعض الدلالات الأخلاقية. فهم يؤيدون ضمنيًا الأعراف التقليدية والتسلسل الهرمي الاجتماعي، ويصورون التقوى على أنها معيار مفروض على المجتمع من الأعلى إلى الأسفل كأجندة متحيزة يتم فرضها بشكل تعسفي وانتقائي، ولذلك تراهم يتبنون استراتيجيات خطابية مشتركة في محاولتهم تقويض وتشويه سمعة العراق وانتفاضة تشرين المجيدة.