باتت لقضية مؤسفة حقا أن نرى ظاهرة التقليد تأخذ مدى كبيرا بين المجتمعات , حتى أصيبت المنظومة الفكرية بالضحالة والانقياد , لا سيما وإن التقليد والتبعية معناهما فقدان الشخصية وعبودية الفكر , أخذت تلك الظاهرة بالانتشار مع الاضمحلال الذي تعرضت له الحضارات الشرقية وتضائل وجود الحضارة العربية الإسلامية في الآونة الأخيرة مقابل تنامي الحضارات الأوربية الغربية واتساعها الهائل ولد ذلك أشبه ما يسمى الصدمة الحضارية بين الشعوب الشرقية والغربية فراح الشرقي يقلد الغربي قدر استطاعته ليواجه شعوره بالنقص تجاه الحضارة الأوربية , ساعدتها على ذلك حرب الأفكار الإعلامية التي أضحت تمثل المحيط الواسع الذي يعيش فيه الإنسان وتجوب بأنفاسه وتتناغم بمشاعره وتتحكم بأزراره , فهي ترتكز بعملها من خلال السيطرة الفكرية للشباب واستفزاز طاقاته , مستنجين بحجة حق الشعوب المستضعفة تقرير المصير ووجوب التحرر والعيش بالمستوى التكنولوجي الأوربي الحديث الذي يرعى الحقوق والحريات الشخصية , وبذلك فهي تكرس وسائلها الإعلامية بتارة توجيه سياسيا مع اتجاهات رياح التغير بأنظمة المجتمعات العربية , وتارة أخرى اجتماعيا من وساطة إنتاج الآلاف من الأفلام الأمريكية ومثيلاتها الأخريات التي تأخذ بسماتها ومزيد من البرامج والأعمال الفنية الأخرى , متحملين كلف الإنتاج الباهظة لكل هذا في سبيل التسويق لأفكارهم وتوسيع بناء حضارتهم أو إحياء أخرى مندثرة , بدليل ذلك الدور ألتصعيدي للمسلسلات التركية بشكل يفوق المعقول بحيث جذبت جموع غفيرة من أوساط المجتمع العربية . قد لا ننسى فالعنف الذي تعرضت له معظم الشعوب العربية عن طريق الأنظمة الديكتاتورية والسلطة الأبوية الراسخة لها بالغ الأثر في تعزيز ثقافة التقليد بسبب ما يتمخض عنها لزاما الامتثال لأوامر والانقياد الأعمى , نلاحظ التقليد أيضا بشكله الكبير حتى على المستوى الفردي للبيئة الواحدة فسرعان ما ينتقل من شخص إلى آخر,مثلا بين الأصدقاء هناك شدة عالية للتأثر والتقليد فيما بينهم , ( اقتياد نفس: المبايل , موديل الملابس أو لونها …) بين الزملاء في العمل هناك ميل واضح إلى التأثر أما بالأفكار وتقليد التصرفات والأخذ ببعض الآراء حتى ولو لا تمثل المنطوق الشخصي , أو الأخذ باختصاص الشخص الناجح في العائلة حتى وإن كان لا يتفق مع ميوله وقدراته وإنما بدافع التقليد والتماهي , وهكذا تكثر الأمثلة على تلك القضية النابعة من ضعف الأيمان وهزال بالعقيدة الدينية أو الوطنية للشخص المصاب بحيث راح يخدع نفسه بحضارات مادية لم تكن تعرف نفسها لولا أصالة وقيم وجهود الحضارات الشرقية والإسلامية العريقة , وكذا حالة أخرى التي تظهر الضعف في المنظومة القيمية للمصاب بحيث يقتاد بالآخرين للتعويض عما ينقصه , وهكذا يعزى التفسير السيكولوجي للتقليد إلى بعدين , الأول : عدم الثقة والتكامل النفسي لدى الفرد بحيث تقتضي نيته إلى الانقياد وراء الآخرين وتقليد تصرفاتهم والانصياع لأفكارهم بدون الاستعانة ببيات وعيه واستبصاره , والثاني : وجود مشكلة نفسية لدى الفرد بحيث يخل نظام التوازن لديه فيظهر أفعال وسلوكيات خلاف ما يضمره من قيم ومبادئ واتجاهات , وأخيرا يمكنني القول بأن التغير في الإنسان مطلوبا حيث يتم عن طريق الإطلاع على الثقافات الأخرى ومعرفة الغير وما تؤول إليه آخر المستجدات والتطورات وأخذ المفيد منها إلى درجة تعزز مكانته الاجتماعية وتمنحه ثقله النوعي وتغني إرثه الفكري والثقافي و ليس إلى الحد السلبي الذي وصله البعض الذوبان أو الاندماج أو فقدان الشخصية …..