23 ديسمبر، 2024 5:35 ص

التقليد بين الوجوب الشرعي والانغلاق الفكري

التقليد بين الوجوب الشرعي والانغلاق الفكري

من الموضوعات المهمة التي تحتل مساحة واسعة وتُعد العصب الأساسي في رسم مفهوم الدين للفرد المسلم هي مسألة التقليد وإتباع المرجعية الدينية والتي تسيطر على ثقافة المجتمع الشيعي بصورة عامة.

ونحن هنا لا نُريد الحديث عن مشروعية التقليد واثبات حجيته لأننا نقطع بصحته وقد ثبتت مشروعيته في محله من خلال الأدلة النقلية والعقلية.

ولكن نُريد الحديث عن الفهم الديني الصحيح لمشروعية التقليد والتي أكدت عليه الشريعة الإسلامية وفي المقابل بيان الفهم الخاطئ للتقليد والتي ذمته آيات وروايات كثيرة, وبيان الانسجام الطبيعي بين ما تتيحه الشريعة الإسلامية من حرية الفكر وممارسة الفكر بكل أشكاله وألوانه وبين الحفاظ على المرتكزات الأساسية في مسألة التقليد التي ربما يقع الكثير منا في الخلط بين مفهوم التقليد ووجوبه وبين حرية الفكر وإبداء الرأي ومناقشة المواقف والآراء الصادرة عن المؤسسة الدينية ولكي نميز بين كل ذلك نقول.

إننا لا نحتاج في فهم التقليد المطلوب شرعا للرجوع إلى الأدلة الشرعية الأولى” الآيات والروايات” لأننا لسنا بصدد إثبات حجية التقليد كما وضحا سابقا, ولا بين مشروعية او عدم مشروعية التقليد في العقائد وإنما نريد الحديث عن التقليد الشرعي في الفقه الجعفري الامامي. فنقول ان التقليد المطلوب شرعا هو ما اتفق على تعريفه كل الفقهاء حيث قالوا في تعريفهم للتقليد (التقليد هو عمل العامي بفتوى المجتمع للجامع للشرائط سوى التزم المكلف في ذلك بنفسه أم لم يلتزم) مع الاختلاف في عبائر البعض منهم, ولكن المهم هو ان التعريف كاشف عن مرادهم الجدي والشرعي لحقيقة التقليد فعرفوه بأنه العمل ولم يقولوا الفكر أي ان الفرد إذا أراد ان يعمل عمل عبادي فعليه أولا قبل ان ينسبه إلى الشريعة الرجوع إلى أهل الاختصاص من الفقهاء المجتهدين لأنهم أصحاب القول الفصل في ذلك ولا يحق للفرد بان يُعمل عقله أو فكره فيه إذا لم يكن حاصل على درجة الاجتهاد التي تؤهله إلى فهم النصوص الشرعية, وإلا فسوف يقع في القياس والاستحسان الباطلان شرعاً وفق المذهب الجعفري.

وأما مسألة مناقشة الآراء والنتاج العلمي فهو محل ترحيب وقبول متسالم عليه لدى العلماء ففي مراحل الدراسة الدينية وتحديداً المرحلة النهائية والتي يطلق عليها البحث الخارج يقوم الأستاذ بطرح مسألة فقهية معينة ومن ثم يناقشها الأستاذ ويطرح رأيه في تلك المسالة وبعد ذلك يقوم الطلبة بمناقشة الأستاذ وإبداء الاعتراض على الأدلة التي ساقها, وهذا النقاش والاعتراض لا يخرج الطالب عن دائرة التقليد الشرعي لان التقليد محله العمل

وليس الفكر, وأما دعوى بان المرجعية الدينية تأمُرونا بان لا نقول قولاً ولا نفعل فعلاً إلا بعد الرجوع إليها فهي ناظرة إلى القول والتصريح باسم الإسلام وهذا ليس متاحاً لكل احد بان يرى أمراً أو فكرة معينة ثم يطرحها على إنها مراد الشريعة فمن هذا الباب منعت المرجعية من القول إلا بعد الرجوع إليها لكي تحدد المصلحة في ذلك ولا يعني ذلك بأنها تحرم وتمنع التفكير وتجرم كل من يقوم بعملية التفكير والاستنتاج العلمي لان الشريعة الإسلامية لا تدعو إلى التحجر والصنمية بقدر ما تدعو الفرد إلى التدبر والتفكر والاعتماد على العقل في وصول الإنسان إلى الإيمان الحقيقي، وخير دليل على ذلك ما ورد من آيات وأحاديث تؤكد على أهمية دور العقل عند البشرية حتى عُبر عنه بأنه النبي الباطني وان الله به يثيب وبه يعاقب والعقل هو مدار التكليف والحساب في الشريعة الإسلامية والقانونية والإنسانية.

ولكن مع كل ما للعقل من دور مهم في صناعة التفكير لدى الناس إلا إن التقليد هو جزء أساسي من الثنائية المتكاملة في فهم الشريعة الإسلامية من حيث الاجتهاد والتقليد هما الطريقان الموصلان الإنسان إلى الكشف عن الحكم الواقعي والظاهري والخلاص من الذنب فالمجتهد يكشف عن الحكم الشرعي بنفسه والتقليد كاشف أيضا عن الحكم الشرعي ولكن بغيره أي بواسطة المجتهد وهذا هو التقليد الشرعي المطلوب من الفرد الالتزام به.

ويوجد هنالك فهم خاطئ للتقليد قد ذمه القران الكريم ومنع منه الشارع المقدس وصرح برفضه في آيات عديدة ومواطن متعددة إلا وهو الإتباع الأعمى للجهل والهوى وإتباع التعصب القبلي أو التعصب العشائري أو القومي مما لا محل للفكر والتحري فيه وهو خارج عن إطار كلامنا وموضوعنا.

إذن يجب علينا ان نوازن في عملية التقليد بين العمل وفق فتاوى المرجعية الدينية وبين ان يكون لك فكر خاص وفهم وذوق علمي وتحليلي في فهم ومعرفة بعض القضايا والمسائل وعلى مختلف أشكالها كالدينية والسياسية والاجتماعية مما هو قابل للاختلاف والتفكر والنقد والتحليل فهو اذا متاح لكل من له ذوق ومعرفة في ذلك من دون ان يطبق ذلك على أفعاله وأعماله في المجالات العبادية والدينية, لان العمل والتطبيق يحتاج في الأمور التي تكون داخلة في المجال الشرعي إلى رأي مجتهد جامع للشرائط كما مر توضيحه سابقاً.

ومن هنا نكون قد وازنا في مسالة التقليد وحرية الفكر ولم نقم بإغلاق نافذة العقل التي منَّ بها الله تعالى علينا وميزنا بها عن باقي مخلوقاته.

وأخيراً أود التأكيد على ان مسالة المناقشة والتفكير تختلف عن مسألة التقليد والإتباع فان أبحاث العلماء تختلف عن فتواهم فالبحث نتاج وصراع عقلي وعلمي لا يقف إلى على الدليل وإما الفتوى فهي ناظرة إلى المواضيع الخارجية وطبيعة التعاطي معها في المجتمع وكيفية تطبيقها داخل المجتمع, ومن هنا تجد الاختلاف واضحاً في ما بين ما يتوصل إليه الفقيه من خلال بحثه وتحليله وفيما يفتي به للناس ويأمرهم بالعمل والالتزام به

ففي كثير من الأحيان يتوصل الفقيه إلى نتيجة معينة ولكن يفتي خلافها إما من باب الاحتياط أو من باب موافقة المشهور أو غيرها من الاحتمالات التي يستعملها الفقيه للاحتياط في باب العمل.

والهدف من وراء كل ما ذكرناه هو لرفع اللبس والخلط الحاصل لدى اغلب الإسلاميين في عدم التمييز بين التقليد والفكر فهم لا يفرقون بين إن هذا أمر قابل للمناقشة والجدل العلمي وبين ان ذلك عمل لابد من

تطبيقه فربما نناقش في مسألة معينة ونرد عليها بعض الإشكالات ولكن في نهاية المطاف نخضع للعمل بها باعتبارها مسألة تقليدية، وأما فائدة المناقشة فلكي نحافظ على عقولنا من الانغلاق والتحجر الفكري.