23 ديسمبر، 2024 5:14 ص

التفكيكية : لمن لا يحضره الفقيه

التفكيكية : لمن لا يحضره الفقيه

لو أغمضت عينيك وركزت قليلا ثم تأملت كلمة واحدة فقط، كأن تكون هذه الكلمة:( ثورة) فماذا سوف يريك ذهنك وأنت ما تزال في حالة التأمل؟ فمن المؤكد سترى أماكن مزدحمة تعج بالشباب، ورغم أن ذهنك سوف يبتعد عن كبار السن إلا أنك ستراهم حيث يقفز ذهنك إلى نهاية الثورة لتراهم كيف يستولون عليها، ثم يعود ذهنك إلى مسرح الثورة لترى قليلا من الفتيات وهن يهتفن لرحيل الرئيس، ثم يقفز ذهنك ثانية لترى الذين مولوا الثورة كيف يبتسمون في قصورهم بالرغم من سقوط الضحايا الذين رأيت أنت دماءهم الحمراء التي أحالتك إلى لون الورود التي تحملها الفتيات، فإذا استمر تأملك تجد كل معنى انفكّ عن كلمة الثورة يحيلك إلى كلمات كثيرة، كل واحدة منهن تحيلك إلى كلمات كثيرة أخر. وهكذا تستمر الإحالات إلى ما لا نهاية.
ولنفترض أن السيد الرئيس كان يجلس في صومعته واضعا يديه على عينية ويتأمل كلمة الثورة مثلك، فما الذي سيراه؟ فمن المؤكد أنه سيرى مجموعة من الإرهابيين الحمقى الذين يريدون تخريب البلد واغتصاب الشرعية، وسيبتسم عندما يرى طائراته تدك معاقل الإرهابيين، لكنه لا يرى الورود الحمراء بأيدي الفتيات اللائي يبتسمن للسماء بينما هن يتعرضن للقصف.
ولنفرض بان هناك عشرات من المتأملين المختلفين في الرأي والأمزجة، فمن المؤكد أنهم سيرون عشرات بل آلاف من القصص المشتقة من كلمة واحدة، وهي: الثورة.
فالكلمات التي يمكن أن نشتقها من كلمة ثورة يمكن أن تكون: (شجاعة، تمرد، إرهاب، جبن،  ازدحام، بطالة، غضب، جوع، شارع، خطابة، شعارات، زيف، موت، حياة، سلطة، انتخابات، تزوير، صندوق، أصوات، سرقة، رشاوى، عمائم، عزائم، …) فالكلمة المولـّـدة من الكلمة الأولى هي مرحلة بين كلمتين، ولنطلق عليها مصطلح:(بينية) والبينية هي مرحلة متقدمة على سابقتها لكنها- في نفس الوقت- متخلفة عن لاحقتها. وقد تكون (البينية) مرادفة للكلمة الأولى أو مطابقة لها أو مناقضة لها أو تربطها بها علاقة تحددها أنت، كتلك الاستجابة الشرطية التي ربطت بين الطعام ورنين الجرس عند بافلوف، وقد يكون الترابط بين الكلمتين خاصا بك وحدك كعلاقة الدمعة بالزورق لمن قرأ قصيدة الطفل والنهر في طفولته. وقد يكون لصوت الكلمة اثر بالغ في إحالتك لكلمة أخرى مثلما يحدث في الجناس التام والناقص.
مما تقدم: تستطيع القول بأن الكلمة بلا معنى ثابت، وهي ليست دالا على مدلول ثابت راسخ في الذاكرة الجمعية كما قرأتَ في كتب البلاغة العربية. فأي كلمة ممكن أن تحيلك إلى كل مفردات اللغة وإلى كل معانيها. ومن هذا يتبين بأن اللغة قاصرة عن إيصال المعاني، لأن المعاني الحقيقية الثابتة ليست موجودة إلا في قواعد البلاغة القديمة، أما المعاني التي نتوصل إليها فعلا، فهي موجودة في ذهن المتلقي، والمتلقي هو الوحيد الذي يستطيع إدراك المعنى الذي يخصه. فلكل متلق معناه الخاص المتأتي من إحالاته الخاصة. 
ألا ترى بأنك عندما تقرأ كتابا ما، بأن كلمةً ما لها قابليتها على التفكك والتشقق والإنقسام، تأخذك بعيداً عن موضوع الكتاب، وقد يستمر ابتعادك عن الكتاب لساعة أو أكثر. وأحيانا يحدث لك قبل النوم ما يشبه التأمل، فتفكر في قضية ما ثم تنطلق من كلمة ما في القضية تحيلك إلى كلمة أخرى أو فكرة أخرى ثم تسترسل في الإحالات حتى تصل إلى قصة تراها بعيدة جدا عما كنت تفكر فيه؟ حتى أنك تتساءل أحيانا كيف وصلتَ إلى هذا الموضع؟
كل ذلك يحدث لك-أحيانا- انطلاقا من كلمة واحدة، فماذا يحدث إذا تأملتَ نصا كاملا بنفس الطريقة؟
هذا ببساطة ما أراد ديريدا أن يقوله عندما أسس مبدأ التفكيك.
إذ يرى ديريدا أن في كل نص تناقضات ونواقص وأفكاراً غير مكتوبة، فإذا تمكن الناقد أو القارئ الجيد من اكتشاف التناقضات وإكمال النواقص وقراءة الأفكار غير المكتوبة؛ فسيكتشف بالتالي أن النص يعبر عن أفكار تختلف كليا عما أراده الكاتب، فالنص في رأي ديريدا لا يعبر عن موضوع موحد مثلما ترى البنيوية، وإنما عن أفكار كثيرة، ومن تلك الأفكار ما يخادع الكاتب ويحطم نواياه الواعية أثناء الكتابة. وهذا الرأي يدفعنا للقول بان ديريدا استفاد كثيرا من آراء فرويد في نظرية التحليل النفسي، كما استفاد أيضا من نظرية المادية الديالكتيكية لكارل ماركس، ويمكنني القول بان ديريدا اسقط مفاهيم النظريتين على الأدب.
كما انه عمم رؤية فردناند دو سوسير عن عدم وجود معنى للحرف المنطوق الذي يؤدى إلى عدم وجود معنى للكلمة المنفردة.
فكل تلك النظريات تؤمن بوجود غموض سواء في النفس عند فرويد أو الكون والحياة عند ماركس أو أصل اللغة عند سوسير، فالنص منفصل عن الكاتب، إذ للنص روايته الخاصة التي تختلف عن الرواية التي يتصور الكاتب أنه مبدعها
إن ما ذكرناه يظهر في القراءة الأولى للنص، أما القراءة الثانية فهي تختلف عن القراءة الأولى حيث يظهر لنا نص جديد، أي أن النص الأول مفكوك عن الكاتب، والقراءة الثانية مفكوكة عن القراءة الأولى، وهكذا يستمر التفكيك إلى ما لا نهاية من القراءات. والقراءة الثانية للنص هي:(بينية نصية) أو (بينصية)، فالبينصية مرحلة متقدمة عن النص الأول الأصل، لكنها متخلفة عن القراء الثالثة للنص.ومعنى التخلف والتقدم هنا يفيد الترتيب، إذ ليس المقصود به أن تكون القراءة الثانية أفضل من الأولى.
ومن هذا نخلص إلى أن ديريدا يهزأ بالبنيوية التي ترى أن للنص معنى يمكن اكتشافه وتوضيحه، وأن كل أفكار النص مرتبطة ببعضها كبنية واحدة، ويعد هذه الآراء ساذجة أمام مبادئ التفكيك.
فليس للنص في نظر التفكيكية معنى يمكن اكتشافه، ولا يمكن للنص أن يطرح معناه مرة واحدة، لذلك ركزوا أكثر على ما يمكن أن أسميه: (الطباق المنفرد) أي: محاولة قراءة الطباق بغياب أحد طرفيه، فإذا ذكر الكاتب كلمة (الحق) في نصه فان ذهن قارئ ما، لابد من أن ينصرف إلى (الباطل) أو ينصرف ذهن القارئ ذاته في قراءة ثانية إلى (الظلم) ثم في قراءة ثالثة ينصرف ذهن القارئ ذاته إلى الفقر باعتباره باطلا أو ظلما، فالمعنى الحقيقي لكلمة الحق الواردة في النص موجود في ذهن المتلقي الذي يستمد تفسيراته من الحالة التي يكون فيها ومن تأثير المحيط الثقافي والاجتماعي. وليس (الطباق المنفرد) وحده الذي ركز عليه التفكيكيون، بل عدوا التفكيك بمثابة إعادة تركيب من إزاحة معنى الكلمة عن معناها الموضوع لها، سواء كانت تلك الإزاحة فوقية أم تحتية، إذ يمكن أن يكون معنى (الود) (حبا) والعكس صحيح، وهذا ما يطلق عليه اللغويون مصطلح الترادف. وما ينطبق على(الطباق المنفرد ) وعلى الإزاحة يمكن تعميمه على كل ثنائيات اللغة التي تخص المعنى كالمقابلة والتضاد. وعندما نفك طرف الطباق الغائب عن المكتوب فسوف نخل بالتسلسل الهرمي للنص، ونخرج معناه عما أريد له في أثناء كتابته، والإخلال بالتسلسل الهرمي للنص هو هدم للمبادئ البنيوية التي ترى أن أفكار النص مترابطة ترابطا عضويا. ولم يكتف التفكيكيون بهذا، حيث لعبوا لعبة  اكتشاف العلائق البسيطة بين الكلمات التي تجعل كل كلمة تحيلنا إلى كلمة أخرى، والكلمة الأخرى تحيلنا إلى كلمة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية من الإحالات التسلسلية والتشعبية، حيث يمكن استنباط كل مفردات اللغة من كلمة واحدة بحسب قابلية المتلقي على الإستنباط،فربما يستمر المتلقي في تأمل كلمة واحد لدقائق وتكون تلك الكلمة نصاً كاملاً مفكوكاً عن النص الأم.  ومن هنا يتضح بأن النص الجديد المتأتي من خلال قراءة النص الأول هو من خيال المتلقي، فالكاتب الأول وضع لبنته الأولى، واستمر المتلقون في محاولات بنائه. ويتم هذا البناء من خلال ثقافة المتلقي التي تؤهله لاكتشاف الجزء المفقود من النص، كالسبب والنتيجة، والتقابل والترادف والطباق المنفرد وغيرها من العلاقات المعروفة.  
 ومن هنا نجد أن المعنى والنص يسيران في اتجاهين مختلفين، فما موجود في النص لابد من أن يؤدي إلى سوء فهم، وسوء الفهم هذا يتضاعف بكثرة القراءات، ثم يؤدي بالتالي إلى غياب المعنى، أي أن النص لا يقول شيئا مفهوما. وقد جاء هذا الرأي بأثر مضاد، لأن التفكيكية وقفت بالضد من مدرسة النقد الجديد التي ركزت على النص، فالتفكيكيون يؤمنون بانفصال النص عن المعنى. وهذا الانفصال هو ذاته الذي عبر عنه النقاد العرب القدماء بانفصال اللفظ عن المعنى، والذي أثار جدلا كبيرا عند الجاحظ و قدامة بن جعفر وابن طباطبا وابن قتيبة متأثرين بآراء المعتزلة والأشاعرة في هذه القضية.
فالنص عند التفكيكيين يتحدى المؤلف ويسيطر على معانيه الظاهرة ويشظيها،  كما أن النص يفسد معنى النص! ولا يستطيع المؤلف أن يساير مبادئ التفكيك لأنه مهما فعل فإن فعله يبقى واقعيا واعيا، وهذا يجعل التفكيكية نظرية نقدية، فلا يمكن لأي مؤلف أن يستفيد من مبادئها في الكتابة باعتبار كون نصه ــ من وجهة نظر التفكيكية ــ خارجا عن سلطة المؤلف في كل الأحوال. فالنصوص تتضاعف ذاتيا من خلال انقسامها الطبيعي أثناء القراءات بسبب احتوائها على مقولات غير واعية وتناقضات تختلف عن تلك التي كتبت من اجلها. وتظهر المعاني الجديدة من خارج النص لا من داخله، فالمعاني موجودة خارج النص، وهذا الرأي جعل التفكيكيين يحطمون مركزية الكلمة، فلا معنى واضح للكلمات عندهم مثل الحق والعدل والإيمان والانتماء، فكل تلك المعاني موجودة في العقل الجمعي ولا يمكن لأي كلمة احتواؤها بالرغم من محاولات الكاتب في أن يوجد علائق بين الكلمات لتوضيح المعنى، فالمعنى مستقل خارج النص ولا يمكن أن ينتمي إلى نص ما، ولا تعد محاولة الكاتب إلا محاولة فاشلة يائسة بوعي كامل لاحتواء المعنى.