23 ديسمبر، 2024 5:25 ص

التفكير المنهجي، ادباً وتأدباً

التفكير المنهجي، ادباً وتأدباً

المنهج ان يكون لك طريق له خط شروع، واتجاه، وهدف. هذا لا يكفي بل يحتاج لكي يكفي الى محتوى، وحين نكون منهجيين، نكون منضبطين من الداخل ادباً وتأدباً امام متطلبات الخارج.
في داخل منضبط سلحفاة بطيئة، فهو يخاف، واذا لم يخف، فهو يتحرز، واذا لم يتحرز، فهو يتوقف هنا وهناك، الآن وغير الآن.
من لا منهج له لا استقرار له، ولكن من ليس له غير المنهج فليس له غير الاستقرار الى حد من حدود التحنيط والسبات، هذا هو واحد من صراع الجامعي مع نفسه. فالجامعة مناهج وصاحبها منهجي، ملتزم بالمقرر.
والمنهج في الجامعة لا يصدر من فراغ بل من جهد عقل ابدع نظرية واختط طريقاً في المعرفة. لكن هذا لا يكفي، فتلك جامعة الذين سبقوا، فأين جامعة الذين لحقوا؟
ومن نتائج الاخذ بالمنهج، وجود الكتاب المنهجي، وهو كتاب يعيد قارئه الى حالة من الجمود والرتابة. كما ان من نتائج الاخذ به، الانضباط بالزمن، والزمن قيد من قيود العقل في التفكير. هناك فرق بين المعلم الجامعي والجامعي، مثل الفرق بين معلم الفلسفة والفيلسوف، ومثل الفرق بين معلم الكيمياء والكيميائي، ومثل الفرق بين معلم الشعر والشاعر.
يقولون عن الذي يتوالد تفكيراً انه يشتط ولا يقولون عنه انه يبدع. لقد صار للفلسفة اقسام، مثل الفلسفة اليونانية، والفلسفة البوذية، وفلسفة الدين، ولم ينشأ قسم للتفلسف. وصار في اللغة قسم للشعر وقسم للنثر ولم ينشأ قسم لا (لا جنس) في الادب.
ترتبط الجامعة المنهجية بالتاريخ ولا ترتبط بالمستقبل الذي لم يخضع لتاريخ بعد. يصحح المعلم الجامعي دفاتر طلابه في ضوء افكاره وليس في ضوء افكار الطالب، لانه طالب لديه وليس عنصراً متغيراً مغايراً له.
الجامعة نوع من انواع المدارس التي لا تزال تتغذى بمعرفة المجالس. لا وجود للطفرة في سلسلة السنوات الجامعية للطالب الجامعي. لا وجود للاختصار ومحاربة مفاصل الزمن، لا وجود لمعهد يسجل ابداعات المبدعين للطلبة، حيث تمر الافكار مرور مياه المجاري في مستودعات التصريف.
خير كلية، هي الكلية التي توظف لا التي تثقف. هذه هي اضرار المنهجية، هذه هي بقايا منهجية الحياة التي درج على تعلمها الطالب. فالفلسفة ثقافة، وعلم النفس ثقافة، وقسم الاثار ثقافة، وعلم الاجتماع ثقافة، لذلك فهي مرفوضة. لكن الطب وظيفة، والهندسة وظيفة، وعلوم الحياة وظيفة.
لنرى مدى قبولها في التفكير المنهجي، الى متى تستمر الوظيفة وعداً، والثقافة وعيداً؟ ان هناك ضرراً ألحقته المنهجية بجسد المجتمع، هو العزوف عن شركة المعرفة. فالطبيب لا يستطيع ان يصف مشاعره واحاسيسه بلغة سليمة لانه لا يعرف اللغة، الاداة الاولى في الوصف، واستاذ اللغة لا يستطيع ان يفرق بين انواع الألم الذي يعتريه ولا يجد لها كلمات في قاموسه، لانه لم يتعلم الذهاب باللغة ابعد من حاجات العروض
والصرف والاعراب. وكلما سألت واحداً منهم عن شيء لم يدرسه، اعتذر بخصوصية الاختصاص وألجمه ذلك عن الانتشار المعرفي، وظل كثير من الاطباء بارعاً في تشخيص المرض وعاجزاً عن الوصول الى المريض لافتقاره الى لغة الخطاب.
هذه سيئة من سيئات المنهج، تمر على الجامعي سنتان يهيء فيها نفسه لدراسة الماجستير في موضوع واحد. وسنتان من عمر الانسان كافيتان لقتله معرفياً في الكل المعرفي لصالح حياته في الجزء المعرفي.
وبعد سنتي الماجستير تجيء سنتان للدكتوراه، تزيدانه بعداً عن التكامل وقرباً من التناقص، ولو عددنا الذين رفضوا المنهجية لصرنا على علم بحقيقة الشراكة المعرفية. فاحمد شوقي الحقوقي، كسر طوق منهجية حياته القانونية وصار شاعراً. وعلي محمود طه المهندس صار شاعراً، وسومرست الطبيب صار روائياً وقاصاً. لقد كان احمد شوقي قادراً على اخذ الماجستير والدكتوراه في القانون في الجامعة ولكنه اخذها في الشعر في بيته.
انني هنا لا اتحدث عن الانحراف بخط المعرفة، بل اتحدث عن شركة المعرفة، فلو لم تتوفر ذائقة مبكرة للشعر عند شوقي لما انحاز اليه لا حقاً، ولو لم يحدث مثل ذلك لمحمود طه ولسومرست لما صارا على ما صارا عليه.
لقد صار للمنهجية دعاة ظلموها من دون ان يعلموا، فكلمة الاداب تحمل هذا الاسم وتضم بين ظهرانيها فروعاً ليست في الاداب، كعلم النفس والآثار، حيث يقع الاول في قسم علوم الحياة ويقع الثاني في قسم علوم (الجيولوجي). وفي يوم تأسيس الكلية العلمية تحتفل الكلية به ولكنها في ذلك اليوم تسمح للشعراء ان ينشدوا قصائدهم الغزلية على ايدي شعراء منها وبألسنتهم، كانوا يعدون ذلك ترفاً وهواية ثانوية لطالب العلم ولا يعدونه شركة معرفية للادب والعلم فيه. الآن، عندما يدخل المنهج النفسي رحاب النقد الادبي، يستنكرون على الادب علاقة العلم به ويجهلون حقيقة النفس التي ابدعت الادب وصار لها حق ان تدرس دراسة نقدية.
اين هو المنهج النفسي في دروس النقد الادبي في كلية الاداب؟
لا وجود له، لان وجوده يقتضي وجود استاذ درس اربع سنوات اولية في اللغة وحصل على ماجستير الادب ودكتوراه الادب، وهو، كذلك، لا يستطيع ان يدرس المنهج النفسي، لانه غريب الجذور على شجرة النقد الادبي.
هذا هو ضرر المنهجية، بل سيد الاضرار فيها. لماذا لا يسمح لبكالوريوس علم النفس ان يختص بالمنهج النقدي النفسي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه لكي يرضي غرور المنهجية قبل ان يرضي نفسه. الى الآن وكليات الطب تعلم الطلبة الفسلجة ولكنها لم تعلمهم فسلجة العواطف والمشاعر والهويات التي كثيراً ما طوحت بالاتجاه وحرفته عن جادته. انه النقص الثقافي في المنهجية التي رسمت وظلت على ما هي عليه جاهدة.
آه لو يعرف المنهجيون كيف نشأت المنهجية ؟
انها نشأت افتراضاً عند مبدع وجد له في وقتها اعداء لا يقلون عن عدد الاصدقاء، فأكسبها اشباعاً بالاثبات والبرهان حتى صار الافتراض نظرية ما لبثت ان اكتسبت الثبات حتى اصبحت منهجاً. فلماذا لا يثور المنهجيون
على أنفسهم؟ اما سئموا من لوك تراث غيرهم؟ اما شبعوا من كلمة معلمين؟ هل كفر سقراط وارسطو وفرويد وماركس حين ابدعوا مناهج ليتوقف التاريخ عندهم؟ اين سقراط جامعة العرب، واين فرويد العراقي؟
ان المنهجية جمود لا يتحطم الا بالانقلاب الثقافي على الذات اولاً وعلى المألوف ثانياً. يقول احد الغربيين، كلود سيمون: ( اننا لو اردنا ان نقول ما لم يقله غيرنا لسكتنا ) اننا نرفض هذا القول، لاننا لا نريد ان نكون غيرنا باختلاف ثوب او التواء لسان، اننا نريد ان نكون نحن مثلما صار غيرنا هو. انه لمجد للمتنبي ومجد للجواهري ومجد للسياب ولا مجد لخليفة المتنبي ولا مجد لخليفة الجواهري ولا مجد لخليفة السياب.
ان استمرار متنبي العباسيين دليل موت متنبي القرن العشرين او عدم ولادته الى الآن. واذا كنا لا نملك ما نقول فيجب ان نسكت لا ننا صرنا عباد منهج لا غير .
ان التراكم معرفة لكن الثورة على التراكم معرفة المعرفة. من هنا نقف من التاريخ في الثقافة موقف الخروج عليه لا الخروج منه. يدرسون حسب المنهج، دارون في العلوم، وانشتاين في الرياضيات، والمتنبي في قسم العربية وما علموا ان دارون فيلسوف علمي له حصة في قسم الفلسفة، وانشتاين فيلسوف فيها، والمتنبي مثلهما. ولو جمعنا المعطيات الفلسفية في شعر المعري وجميل صدقي الزهاوي وايليا ابي ماضي وابن عربي.. لتوفرنا على فسلفة عربية.
هذا هو التداخل القائم ضد المنهجية، كلنا يقول ان ابن خلدون عالم اجتماع ولكن احداً منا لم يقل به اديبا ، لماذا؟ هل قام عندنا فرع لدراسة علم الجمال في كلية الزراعة يختص بالطيور والزهور؟ هل كتب طبيب بيطري يوماً كتاباً عن سر الفلسفة في تقديس الحيوانات..؟ لم يقل لنا باحث مختبري شيئاً ادبياً عن الام الفأر وحيوان التجربة تحت مبضع التشريح..؟
ان الوقت قد حان للتداخل، فهل من مبادر!!
[email protected]