23 ديسمبر، 2024 1:49 م

التفكير المستقيم والتفكير الأعوج (1-2)

التفكير المستقيم والتفكير الأعوج (1-2)

المنهج الشكلي

كل فعل بالحياة يتم وفق منهج , وحين يستيقظ الإنسان صباحا يضع لنفسه برنامجا لما سيفعله وينجزه بذلك اليوم , ومثلما كل فعل حتى يحقق هدفه يحتاج إلى منهاج ،برنامج ، ورؤية واضحة ….كذلك التفكير لحل المعضلات و الإجابة على الاستفسارات ….يحتاج إلى منهاج وطريقة تفكير للوصول إلى أفضل النتائج . ولكن ما هو المنهاج السليم الذي يمكن من خلال إتباعه ان يوصلنا الى الحقيقة ؟

لقد حاولت ولا زالت تحاول البشرية وضع أسس هذا المنهاج وكان الفلاسفة اليونان وعلى رأسهم أرسطو أول من وضع مجموعة من القواعد الشاملة التي يجب على الفكر إتباعها حتى يصل إلى الحقيقة و لا يقع بالخطأ في التفكير وسميت هذه القواعد بالمنطق الأرسطي نسبة إليه (وقد كان في حينها عملا جبارا من عقليه جبارة يندر ان تتكرر في التاريخ) .

اعتمد منطق أرسطو على ثلاث مبادئ أساسية……

الأول مبدأ التماثل ، كل شي يماثل نفسه , النبات نبات والحيوان حيوان , والجميل جميل والقبيح قبيح …..وهكذا.

الثاني مبدأ عدم التناقض , لا يمكن ان يكون الشيء نباتا وحيوانا بذات الوقت ، أو ان يكون حسنا وقبيحا ……

الثالث مبدأ الثالث المستحيل , لا وجود لإمكانية بين إمكانيتين ، يا اسود يا ابيض……

(لقد كان هذا المنطق بزمانه ثورة لعبت دورا كبيرا في تطور البشرية من خلال تنظيم طريقة التفكير ولكنه انقلب حاله حال أي نظرية عظيمة إلى مجموعة من القيود التي تعيق التفكير.)

ولكن هل ظل هذا المنطق صالحا وصحيحا ؟

حقا هذا المنطق صحيح طالما الموضوع يخص الخيال والتفكير المجرد البعيد عن الواقع ولكن بتطور العلوم الطبيعية واعتمادها على التجربة لاستدلال الحقائق تعرض هذا المنطق إلى كثير من الاعتراضات حيث تبين انه لا يمكن ان يفيدنا بتحليل الأمور ودراسة الواقع المتغير ولكنه ممكن يفيدنا في الاستخدام اليومي حيث يعننا على التصنيف والتميز.

اليوم مع تطور العلم هناك الكثير من الأمثلة والمعطيات التي يمكن نوردها لنبين عدم صلاحية هذا المنطق للتعامل مع مستجدات الحياة حيث لا يمكننا الجزم ان الحيوان حيوان والنبات نبات ، فهناك كائنات حية لا يمكن تصنيفها ضمن النبات أو الحيوان لان بعض صفاتها نباتيه والأخرى حيوانية فهي كلى الاثنان معا.

ليس هناك موت مطلق أو حياة مطلقة ، أنت كائن حي ولكن في كل لحظة تموت وتولد ملايين الخلايا بجسدك ، نحمل الحياة والموت سوية ، يتصارعان بداخلنا ، حياتنا هي نتيجة نضال بين قوى الحياة والموت .

قبل أسبوع اشتريت قميصا اصفرا اليوم ليس صحيحا ان نقول ان القميص اصفر لا بد ان حصل تغيرا بلونه.

لا شيء ثابت الكل متغير قبل قراءة المقالة شي وبعد قراءتها أنت شئ أخر لا بد ان أحدثت تغيرا ما بالرفض أو القبول.

أنت جالس على الكرسي بعد ثانية يتغير مكانك بالكون لان الأرض تدور حول الشمس والشمس تدور في المجرة….لم يعد مكانك كما كنت قبل ثانية.

هذا النمط من التفكير كان صحيحا حينها ، لقد كان على البشرية ان تتعلم رسم الصور الثابتة قبل ان تتعلم رسم الأشياء المتحركة ،ولكن لا زال هذا المنطق سائد بطرق تفكيرنا، فالأصفر اصفر والأحمر احمر إلى يوم الدين ، والصالح صالح ،السيئ سيئ ،والصديق صديق والعدو عدو ، والصحيح صحيح والخطأ خطأ …….وابن الحمال عليه ان يظل ابن حمال حتى لو اجتهد وصار طبيبا يظل يشار إليه وينتقص منه بان أبوه كان حمال. قوالب جاهزة ومتحجرة بأدمغتنا نسقطها على الأشياء ولا نكلف نفسنا العناء بمراجعة طرق تفكيرنا على ضوء متغيرات ومستجدات الحياة.

الميزة الأخرى التي تميز بها المنطق الأرسطي هي القياس أو الاستنباط ، غالبا يردد المناطقة المثال التالي….

كل إنسان فان ……مقدمة كبرى

سقراط إنسان ……مقدمة صغرى

إذا سقراط فان ….. النتيجة

ان المقدمة الكبرى من البديهيات التي لا يجوز مناقشتها والتي من عندها تستنبط النتائج , كل إنسان فان بديهية ، ولان سقراط إنسان ، إذا هو فان.

على هذا الصعيد أصبح كل من يريد ان يبرهن على صحة مذهب أو رأي معين ما عليه إلا ان يبحث عن مقدمة كبرى تصلح لاستنباط رأيه منها ، ومن السهل الحصول على هذه المقدمة من الحكماء أو الأمثال الشائعة أو المأثورات الدينية و يبني عليها ما يريد من نتائج.

(هذا ما حصل ويحصل بين الفرق الإسلامية وما يحصل بين الناس عند الخوض بالنقاشات الدينية حيث تختار كل فرقة أية أو حديث نبوي وتجعله مقدمة لتستنبط منه النتائج المرجوة).

(لقد أصبح القياس ألعوبة بيد الخطباء والسياسيين يوجهونه حيثما شاءوا حسب مصالحهم وما تهوى أنفسهم وأصبحوا بارعين بتأيد أي رأي أو نقيضه بنفس الوقت).

ان هذا القياس تفكير مجرد ونتائجه صحيحة فقط بالفكر أما على مستوى الواقع فالوضع مختلف….

الحديد لا يطير ….مقدمة كبرى

الطيارة مصنوعة من حديد….مقدمة صغرى

إذا الطيارة لا تطير ….النتيجة.

ولكننا نرى يوميا عشرات الطائرات المحلقة بالسماء ،وما يبدو استنباطا فكريا صحيحا فهو خاطئ على مستوى الواقع المعاش .

عادة ما يوصف المنطق الأرسطي بأنه منطق شكلي ، يهتم بالشيء ويترك

مادته ، وخير تطبيق له كان بعلوم الهندسة ، تهتم هذه العلوم بالشكل الذي تبدو عليه المادة ، مثلث، دائرة ، ولا تهتم بالمادة المكونة لهذه الأشياء.

(ولما رأوا أهل المنطق نجاحه بمجال الهندسة قاموا بتعميمه عل مجالات الحياة الأخرى الأخلاقية و الاجتماعية فإذا أرادوا مناقشة مسألة الحق ، تصوره شيء قائم بذاته حاله حال المثلث ، ويناقشونه بشكله المجرد دون الالتفات إلى محتواه الاجتماعي و تغير نظرة الناس الى الحق بتغير ظروفهم المعاشية والاجتماعية).

أو يناقشون مسألة الخلافة ، ومن كان أولى بالحكم من دون النظر بالظروف الاقتصادية والاجتماعية ومفاهيم العشائرية والقبلية التي كانت سائدة حينها والتي نتيجة لها أعطيت الخلافة لفلان ولم تعطى لغيره. يناقشون المسألة بشكلها المجرد من باب كان على فلان ان يتخلى عن الخلافة متناسين النزاع الشديد القائم على المصالح والجاه والمال والسلطان….

ان هذا التفكير المجرد والتعالي لا زال سائدا لدى الكثير ، خصوصا النخب المثقفة ،التي بنت لنفسها أبراجا عاجية ،يحكى بالقرون الوسطى كان جماعة من المفكرين منخرطين يتناقشون حول أسنان الحصان وقد ذهب بهم الجدل كل مذهب ولم يكلفوا أنفسهم الذهاب إلى الحصان الموجود قربهم لفحص أسنانه ، لان هذا العمل لا يليق بالمفكرين .

الاهتمام بالأمور الشكلية شمل حتى الأحكام الدينية والشرعية ، يأخذون الأمر الشرعي ويحاولون تنفيذه بحيث يحافظون على شكله من دون النظر ان كان عملا ضارا أو نافعا للمجتمع ….هم يروجون ان عمل المصارف حرام ولكنهم يلتفون على هذا وينفذون العمل بطريقة أخرى طريقة الرهن أو غيرها المهم ان تبقى الصورة الشرعية الشكلية للحكم صحيحة أما تأثير وأضرار العمل على المجتمع لا تهم .

ما ترتب على التمسك بالشكليات ان بعض الناس صاروا متدينون بتفكيرهم ولكنهم زنادقة بسلوكهم ، فالقيمة هنا لشكليات الفكر وليس للعمل والسلوك . فمن يخرج في سلوكه قد يغفر له المجتمع ويتقبله وينصبه حاكما طالما هو متمسك بالشكليات ولهذا تجد الكثير من مجتمعاتنا محكومة باللصوص والمرتشين والسراق والطغاة والجاهلين .ولكن من يخرج بتفكيره عن المألوف يصير زنديقا بنظر الناس مهما كان سلوكه صالحا.

ان تأثير المنطق الصوري وتمسكه بشكليات الأمور هو الذي قادنا الى احترام ذوي الخطب الرنانة وأداخلهم الجنة من أوسع أبوابها رغم سلوكياتهم ، هكذا كان بإمكان الشرير ان يكون فاضلا وذلك بان يبالغ بالكذب والصراخ والعويل بخطبه وان يزينها بكلمات تداعب عواطف وأحاسيس الناس .

ان مواكبة التطور وبناء مجتمع حضاري يتطلب تغير طريقة تفكيرنا ونظرتنا وحكمنا على الأمور وإعادة النظر إلى تاريخنا وتقبله كبناء ساهم الكل ببناءة والكف عن محاكمة التاريخ واجتراره والانطلاق نحو المستقبل وهذا يتطلب التفكير بالحياة بطريقة مختلفة ومنطق مختلف…… وللحديث بقية.

* المقالة محاولة لتجديد مشروع الدكتور علي الوردي والذي خذلته النخب المثقفة