18 ديسمبر، 2024 10:45 م

التغيّر والثبات في رواية (المسيح يُصلب من جديدٍ ) للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس

التغيّر والثبات في رواية (المسيح يُصلب من جديدٍ ) للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس

تطغى الصور القاتمة على أجواء رواية (المسيح يُصلب من جديدٍ) للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس (١٨٨٣م ـ ١٩٥٧م)
فمن عنوانها الصادم إلى أحداثها المأساوية يتسلل الحزن إلى النفوس برغم أنَّ الكاتب حاول التخفيف من هذه القتامة بلغته الشاعرية العالية ، وأفكاره الفلسفية الرائعة التي حرص على أن يكون مناخها العام محاكاةً للغة الكتاب المقدس .
من خلال سير الأحداث يقرر الكاتب هذه النتيجة : (لا جدوى  يا يسوع، لا جدوى. مضى على صلبك ألف عام، وما زال الناس يصلبونك من جديدٍ).
لم تكن هذه النتيجة اعتباطيةً، ولا عاطفيةً إنَّما جاءت من تجربةٍ طويلةٍ بالصراع البشري في التاريخ بين قيم المُثل وقيم السفالة !
هناك عبارةٌ تتردد كثيراً لها الكثير من المصداقية تقول : (التاريخ يُعيد نفسه).
من ناحيةٍ فلسفيةٍ اختلف الفلاسفة في  هذه المسألة ، فقد عُرف عن الفيلسوف اليوناني هرقليطس  ( ٥٣٥ ـ٤٧٥ ق.م.) السابق  لسقراط، قوله بالتغيّر الدائم.
يرى هرقليطس أنَّ الوجود في تغيّرٍ دائمٍ  فالتغيّر هو الجوهر الأساسي في الكون كما جاء في قوله : (لا يخطو رجلٌ في النهر نفسه مرتين أبداً)، وبتعبيرٍ آخر:( نحن لا يمكننا النزول في النهر مرتين)  فكل شيءٍ هو في تدفّقٍ مستمرٍ، وقد استخدم هيرقليطس النهر كتشبيهٍ لذلك لكون النهر في تغيّرٍ دائمٍ فماؤه في تغيّرٍ مستمرٍ ، وعندما تنزل فيه مرةً ثانيةً يكون النزول مختلفاً باختلاف الماء .
مثل هذا القول يتقاطع مع مقولةٍ  للفيلسوف بارمينيدس (٥٤٠ ـ ٤٧٠ ق. م.) الذي يقول : (يبقى المرء على ما يكون عليه).
هذه الجدلية يجدها القارىء في رواية (المسيح يُصلب من جديد) فتتناول كلا الاتجاهين الفكريين، فشخصياتها متنوعة فبعضها متغيّر، وبعضها لم يخرج عن طبيعته التي جُبل عليها.
وتنضح الحكمة من خلال الرواية :
(إنَّ الله لا يتعجل ابداً.. يرى المستقبل كأنَّه ماضٍ إذ أنَّه يعمل في نطاق الأبدية .المخلوقات الزائلة التي لا تدري ماذا يحدث غداً هي وحدها التي تتعجل بدافعٍ من الخوف والقلق) .
تجري أحداث هذه الرواية الفذة في قرية ليكوفريسي اليونانية، فقد دأب أهلها على إعادة تمثيل عيد القيامة، وتجسيد حياة السيد المسيح كل سبع سنوات، وهي تشبه إعادة تمثيل واقعة الطف فيما يعرف بـ(التشابيه) في بعض البلدان ومنها العراق ، ويجري  اختيار ممثلي هذه الطقوس بعنايةٍ قبل حلول الأسبوع المقدَّس.
فـينشأ جدلٌ بشأن الشخصيات المختارة للتمثيل فيقع اختيار مجلس أعيان القرية على أرملةٍ تُدعى (كاترينا) لتمثِّل دور (مريم المجدلية)، وكان اختيارها مناسباً لذلك؛ لأنَّها لم تكن امرأةً ملتزمةً بعد وفاة زوجها، أمّا دور (يهوذا) الأسخريوطي، تلميذ السيد المسيح الذي خانه ووشى به إلى الرومان فقد أُختير له شخصٌ يُدعى (بانايوتي) ويلقب بـ(آكل الجبس)
ووقع الاختيار على البائع المتجول (ياناكوس) لتمثيل دور الرسول (بطرس) ، وكان دور تلميذ المسيح الثاني (يعقوب) من نصيب صاحب المقهى (قسطندي)،أما دور (يوحنا) فكان من حصة ابن عمدة القرية(ميشيل)، وأما شخصية (بيلاطس) الحاكم الروماني لمقاطعة “يهودا” -التي تُعرف باسم أيوديا  بين عامي
( ٢٦م  ٣٦ م) الذي تولى محاكمة السيد المسيح، وأصدر الحكم بصلبه في عهد طيباريوس قيصر الأمبراطور الروماني،
فذهبت إلى العمدة نفسه الشيخ (بطرياركاس)، وكانت شخصية (قيافا) الذي شارك في محاكمة المسيح قد عهدت إلى العجوز الثري والبخيل (لاداس).
لكن مَنْ يقبل بتمثيل دور السيد المسيح، ويتحمل الآلام ، وعذاب الصلب ؟
كان هذا هو الاختيارالأصعب، وقد وقع على راعي الأغنام (مانولي).
تتدرب الشخصيات على أدوارها لمدة عامٍ، فتحاكي بسلوكها سلوك مَنْ تمثلها !
يرى الكاتب (إنَّ من يملك أرضاً و أشجاراً تصبح الأرض والأشجار هي ذاته، وتفقد روحه صفته القدسية، ومن يملك الخزائن تصبح الخزائن ذاته).
تبدأ طقوس إعادة الواقعة يوم الأحد ويسمى بـ(أحد السعف) في فناء الكنيسة، وتنتهي بـ(ليلة سبت النور) في حديقة الكنيسة بقيام السيد المسيح.
وبخطٍ موازٍ للأحداث تشهد القرية نزوحاً للاجئين هرباً من قريةٍ يونانيةٍ تجري فيها  عمليات تطهير عرقي عثمانية ، وكان اللاجئون يتوقعون أن يجدوا المأوى عند نظرائهم في الدين عملاً بمبادىء السيد المسيح لكنَّ أعيان القرية تعاملوا معهم بازدراء، ورفضوا تقديم أية مساعدةٍ، وظهر زيف  قسيس القرية (جريجوريس) الذي قام بتحريف بعض آيات الكتاب المقدس لشيطنة اللاجئين !
أما قسيس اللاجئين الأب (فوتيس)، فكان يمثل تعاليم السيد المسيح قولاً، وفعلاً فيجتمع بممثلي أدوار السيد المسيح، والرسل الثلاثة ليزودهم بالمعاني الحقيقية لرسالة السماء، فيدعو إلى إلى الله ، وإلى قيم التسامح والمحبة والرحمة بفهمٍ حقيقيٍّ للوجود.
(الله موجودٌ.. حتى في أصغر حصاةٍ،حتى عند الحيوان الأكثر وضاعةً ، وفي النفوس الأكثر ظلاماً ، فدعنا نقوم بما نستطيع لجعل قريتنا الصغيرة ، خليتنا ، تشعّ إلى ما حولنا بالوجود الإلهي ونكوّن مُجدّين ، ومزدهرين وموحدين ، لأنَّ العمل الصالح حتى في أقصى صحراء ، تتردّد أصداؤه في كُل أرجاء العالم).
يقدم كازانتزاكيس في هذه الرواية تحليلاً عميقاً للنفس البشرية بلغةٍ أدبيةٍ وفلسفيةٍ رشيقةٍ سكب فيها رؤيته للطبيعة البشرية، كما واكب تحولات الشخصيات التي عُهد إليها بتجسيد الأدوار، ومديات تقمصها لها، وكيف أثرت فيها إيجاباً وسلباً، فالراعي مانولي تتأثر شخصيته بشخصية السيد المسيح، فيتمثل تعاليمه وسلوكه فيكون هذا الدور عاملاً أساسياً في التغير الكبير في حياته، كذلك مَن أدوا أدوار الرسل الثلاثة، والحال ينطبق على الشخصيات المختارة للأدوار السلبية فهم يتصرفون في الحياة الواقعية وفقاً لطبيعة أدوارهم !
يتوصل الكاتب إلى حقيقة أنَّ (الإنسان وحشٌ كاسرٌ…إنَّه يفعل ما يختار. إنَّه يسلك الطريق الذي يختاره لنفسه. أمامه بوابة الجحيم ، وبوابة الفردوس متلاصقين، وهو يدخل أيهما يختار.. الشيطان لا يدخل سوى النار، والملاك لا يدخل سوى الفردوس . أمّا الإنسان فإنَّه يدخل أياً منهما حسب اختياره).
وبرغم طابع الحزن الذي يطغى على أجواء الرواية الا أنَّ بصيص الأمل يندفع بقوةٍ من خلال اتساع رقعة صانعي الخير والباحثين عن التعاليم الحقيقية لرسالة السماء.
نقرأ 🙁 ما من أحدٍ يستطيع أن يذهب إلى السماء ما لم يكُن أولاً قد حقق انتصاراً على الأرض ، وما من أحد يستطيع أن يُحقق انتصاراً على الأرض إذا لم يُكافح فوقها بحماسةٍ ، وصبرٍ دون كلل . فالأرض بالنسبة للإنسان مُجرّد منصةٍ للوثب إلى السماء)
بعد أن يفشل الأب فوتيس في اقناع الأب جريجوريس في البقاء بجانب القرية، يقود النازحين إلى جبل ساراكينا ليؤسسوا قريةً جديدةً بجانب القديس (ايلياء) لكنَّ هذا لم يثنِ المتعاطفين  في قرية ليكوفريس عن مد يد العون لإخوانهم.
يحتدم الصراع  بين وجهاء قرية ليكوفريس برمزهم الديني جريجوريس، والنازحين الذين يمثلهم الأب فوتيس ، بعد موت العمدة، وتبرع ابنه (ميشيل) بثروته لفقراء قرية جبل ساراكينا
ويُتهم الراعي مانولي بأنَّه صار اشتراكياً فيحكم عليه بالإعدام ! وتنتهي المعركة بانتصار الشر، ويبدأ سكان قرية جبل ساراكينا بنزوحٍ جديدٍ، لتبدأ مسيرةٌ جديدةٌ، ومعاناةٌ ممهدةٌ لصلبٍ جديدٍ !
يقول الأب فوتيس في أجمل أدعيته  :
( الحياة يا إلهي عبءٌ ثقيلٌ. ولولاك لأمسك كلٌ منا بيد الآخر، رجالاً ونساءً،وذهبنا لنلقي بأنفسنا في هوةٍ سحيقةٍ ما لها من قرارٍ لنتخلص من الحياة. ولكنَّك موجودٌ، وأنت يا ربنا الفرحة و العزاء، وحامي المقهورين).

* (المسيح يصلب من جديد) ، نيكوس كازانتزاكيس، ترجمة: شوقي جلال، دار آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة ، ٢٠١٥. عدد صفحات الرواية  ٥٧٨ صفحة من القطع المتوسط.