– مقدمة
لم يبق على موعد الانتخابات العراقية سوى 18 يوما، وقد إنقسم العراقيون في موضوعة الانتخابات كعادتهم إلى فريقين: يرى الفريق الأول وهو الأغلب بضرورة مقاطعتها وعدم إعطاء الفرصة للفاسدين لإعادة إنتاج أنفسهم بعد تجربة مريرة دامت 15 سنة عجاف. فيما ذهب الفريق الثاني ومعهم كثير من أقطاب السلطة وبعض المرشحين الجدد من الأحزاب التي تشكلت لهذه الغاية (الانتخابات) فقط، بضرورة إجراءها والمشاركة فيها، لكونها أفضل وسيلة للتغيير المنشود. ويحتج الفريق الأول بالمقاطعة لمنع بقاء الفاسدين، فيما يرى الثاني إنهم يعيدهم، على الرغم من إنهم لم يخرجوا بعد، ليتسنى إعادتهم.
ويفكر الفريق الأول بطموح عودة العراق إلى ما قبل الاحتلال الأمريكي منذ 2003، والذي كان السبب الرئيسي في جلب هؤلاء الفاسدين والمرضى النفسيين الذين دمروا كل شيء تقريباً في العراق. فيما يشكل القلق من زوال دولة المذهب الشيعي وعودتها إلى حكم الإستعباد السُنِّي لقرون قادمة، هاجس الفريق الثاني.
والواقع، أن الطموحين يصعب، بل يكاد يستحيل تحقيقهما، فلا نظام صدام سيعود، ولا يمكن بقاء حكم الشيعة أكثر من هذا، لأنه حكم طائفي قائم على طائفة واحدة، في حين كان العراق وما زال بلد متعدد الطوائف والأديان والأعراق والقوميات.
وفي سبيل تحقيق غاياتهم وأهدافهم إستخدم كل فريق ومازال، كل الإمكانيات المتاحة تحت يده. إلا أن العنوان الرئيسي لهذه الانتخابات هو الرغبة في تغيير الأوضاع المزرية في العراق، والخروج من نظام المحاصصة الطائفية، وتقديم الخدمات، ونبذ السياسيين الذين فشلوا في إدارة الدولة مع التلميح لمحاسبتهم لاحقا.
وتواجه عملية الانتخابات منذ إعلان موعدها حتى اليوم من جملة صعوبات داخلية تعرقل إجرائها بشكل سليم وشفاف. ومن هذه العراقيل:
يشكل أكراد العراق رسميا 13% من الشعب العراقي، ويلعبون دورا مميزا في التوافق السياسي مما يساعد على إنجاح أو إفشال أي عملية سياسية. وقد كان الكرد في مقدمة الساعين لإسقاط نظام صدام حسين، وفي حَل الجيش العراقي، وفي مساعدة الأحزاب الشيعية على تنفيذ أجنداتهم في إضعاف العراق. ولطالما تباهوا بشراكتهم مع الشيعة منذ 2003، إلاّ إن هذه الشراكة تصدعت إثر إجراء الإستفتاء الكردي على الإستقلال يوم 25 أيلول 2017، حيث استعادت القوات الحكومة العراقية محافظة كركوك في 18 تشرين الأول من ذلك العام، مما أصاب الاكراد بخيبة أمل بعد ثلاثة أسابيع من الاحتفال بالتصويت على استقلال إقليم كردستان.
بعد قرار بول بريمر بحَل الجيش العراقي عام 2003، كان لابد من إيجاد قوة مسلحة بديلة. فلجأت سلطات الاحتلال الأمريكي إلى الإستعاضة بالشركات الأمنية الخاصة لحماية عملاءها فقط، فيما سارعت إيران للزج بأجنحتها العسكرية التي أنشأتها سابقا من العراقيين الفارين اليها مثل فيلق بدر وعصائب أهل الحق، وغيرها، وقد تنامت هذه الميليشيات بسرعة، وبرزت الميلشيات الشيعية، التي تشكل جزءاً من الغطاء للمجموعات الميليشية المتنوعة المعروفة باسم الحشد الشعبي، بسبب انتصاراتها في أرض المعركة ضد داهش بعد انهيار الجيش العراقي في العام 2014. تمت تعبئة أكثر من 100 ألف مقاتل شيعي (وبعض السنة العرب) لملء الفراغ الأمني – كما وساعد آية الله السيستاني عندما أصدر فتوى تدعو جميع العراقيين القادرين جسدياً على الدفاع عن بلادهم. وهناك اليوم أكثر من أربعين فصيلا مسلحا. وفي ظل غياب السلطة لجأت الأقليات إلى إنشاء فصائل مسلحة لحماية مناطقها، فأنشأت سبعة فصائل مسيحية مرتبط بالأحزاب السياسية، وعدد من الفصائل اليزيدية.
وعلى الرغم من إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في 02/11/2017 بمنع مشاركة الأحزاب التي تملك فصائل مسلحة منضوية في ميليشيات الحشد الشعبي في الانتخابات البرلمانية المقبلة، إلاّ إن قادة تلك الفصائل دخلوا الانتخابات. فقد انضوت جميع الفصائل المقربة من إيران في تحالف “الفتح” بزعامة هادي العامري، ويضم (18) تشكيلا سياسيا اتخذ غالبيتها أسماء جديدة مغايرة لما عرفت فيه خلال المعارك ضد الدولة الإسلامية. وعلى سبيل المثال “حركة الصدق والوفاء” هي الواجهة السياسية لفصيل “أنصار الله الأوفياء”، و”الحركة الإسلامية” الواجهة السياسية لـ”كتائب الإمام علي”، وحركة “الصادقون” الواجهة السياسية لـ”عصائب أهل الحق”، وكتلة منتصرون الواجهة السياسية لـ”كتائب سيد الشهداء”، وحزب الطليعة الواجهة السياسية لـ”سرايا الخراساني”، إضافة إلى “حزب الله العراق” التي لم تغير اسمها.
نظرا للأوضاع الأمنية المتردية في العراق منذ 2006، فقد نزح العديد من العراقيين من مناطقهم إثر الصراع الطائفي والمذهبي، وتزايد عدد النازحين بسقوط الموصل في حزيران 2014. وبلغ عدد النازحين أكثر من 4 ملايين عراقي. ورغم إستعادة الموصل أواخر العام الماضي، وعلى الرغم من الجهود الحكومية المبذولة لإعادة النازحين إلى مناطقهم فما زال هناك مليوني نازح يسكنون الخيم. وهؤلاء لا يعيرون أي أهمية للإنتخابات نظرا لإوضاعهم البائسة، لا بل ويعارضونها في كثير من الأحيان.
يعتبر العراق وفقا لمنظمة الشفافية الدولية من أكثر الدول فسادا في العالم، ويقدر حجم الأموال التي ضاعت بسبب الفساد بحدود تريليون دولار. وقد قاد ذلك إلى فقدان الثقة بالطبقة السياسية في مجملها، وإلى عزوف الشعب عن الانتخابات لإنها تؤدي إلى إستمرار حكم الطبقة السياسية الفاسدة، في ظل تدهور الخدمات بشكل كبير. وإزدياد أعداد العاطلين التي فاقت 7 مليون عاطل عن العمل.
عملية تغيير النظام السياسي في العراق عام 2003 قادته جماعات من خارج العراق عاشت وتجنست بجنسيات الدول المختلفة، وفي مقدمتها البريطانية والأمريكية وغيرها. وهذه الطبقة ما زال ينظر اليها على إنها جسم غريب في كيان الدولة العراقية. وقد طرحت عدة مشاريع بصدده في البرلمان، إلاّ إن الكفة رجحت دائما لصالح حاملي الجنسيات الأجنبية، وتعذر منعها من الترشح للإنتخابات، في ظل المادة 18 من الدستور تنص على أنه “يجوز تعدد الجنسية للعراقي، وعلى من يتسلم منصبا سياديا أن يتخلى عن جنسيته الأجنبية”.
كانت الطبقة السياسية المعارضة للنظام السابق لا تحمل أي تحصيل دراسي نظرا لأوضاعهم البائسة كلاجئين، بإستثناء القلة منهم الذين حصلوا على شهاداتهم مسبقا من العراق. لذا فقد لجأت هذه الطبقة السياسية إلى الحصول على شهادات دراسية مزورة لتعزيز موقفها أما الشعب العراقي الذي يعد من الشعوب المحبة للعلم، والتي تطور فيه التعليم نظرا لتطبيق نظام مجانية التعليم في العراق بكافة مراحله منذ عام 1972.
وبعد 15 عاما من العملية السياسية في العراق، أصدر البرلمان قرار يقضي بإستبعاد أكثر من 100 عضو برلماني من الترشح للإنتخابات المقبلة لعدم حصولهم على أي شهادة جامعية. ومن بينهم 2 من المسيحيين وهم عماد يوخنا وجوزيف صليوا ويزيدي واحد هو حجي كندور. ومع ذلك، فقد إستطاعت القوى السياسية من تمرير مقترح بالسماح بترشيح 20 بالمئة من خريجي الدراسة الإعدادية (الثانوية). فعاد الكثير من هؤلاء وفي مقدمتهم مرشحي الأقليات المذكورين في أعلاه.
حيث صوت البرلمان العراقي، الأحد 11 شباط 2018، على التعديل الثاني لقانون انتخابات مجلس النواب، الذي يتيح لحملة شهادة الإعدادية دخول قبة البرلمان. بعد أن صوّت قبل أيام على ضرورة امتلاك المرشح شهادة البكالوريوس، أو ما يعادلها للترشح إلى الانتخابات البرلمانية.
وتضمن التعديل الجديد أن يكون 20 في المئة من أعضاء مجلس النواب المقبل من حاملي شهادة الإعدادية أو ما يعادلها.
في ظل هذه الأوضاع المضطربة، فإن من الطبيعي أن تنقسم المواقف من الانتخابات، وهذا ما سنتناوله هنا سواء على الصعيد المحلي والديني والدولي والشعبي.
أولا. مواقف حكومية
ثانيا. موقفا طهران وواشنطن
كان الإصرار الأمريكي على إجراء الانتخابات في موعدها المحدد مفهوما منذ البداية في إنها لا تريد أن تسقط تجربتها الفاشلة في العراق، وتسعى لتحسين صورتها أمام العالم.
في هذه الأثناء، يشير مراقبون إلى أنه بينما يعمل الجنرال الإيراني قاسم سليماني المستحيل من أجل الإبقاء على «وحدة البيت الشيعي»، فإن السفير الأميركي في العراق دوغلاس سيليمان يواصل – وبنجاح ساحق – خذلانه للأكراد والعرب السنة معا.
هؤلاء يذكرون أنه بعد شعور الأكراد بخيبة أمل مريرة من الموقف الأميركي من أزمة الاستفتاء الكردي – الذي كان قد أجراه إقليم كردستان العراق بشأن حق تقرير المصير يوم 25 سبتمبر (أيلول) عام 2017 -، فإن إعلان موقف أميركي صارم من ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها خلال مايو المقبل سيعني طعنة للعرب السنة الذين يسعون إلى تأجيلها لمدة ستة شهور. وللعلم، في اليوم الذي بدأ البرلمان العراقي (الخميس الماضي) التصويت سراً على إمكانية تأجيل الانتخابات من موعدها المقرر يوم 12 مايو المقبل إلى أول ديسمبر (كانون الأول) المقبل، أصدرت السفارة الأميركية في بغداد بياناً قطعت فيه الشك باليقين لجهة موقف الإدارة الأميركية من مسألة إجراء الانتخابات. السفارة، في بيان لها صدر أول من أمس الخميس بينما كانت جلسة البرلمان العراقي تشهد اصطفافات طائفية غير مسبوقة، أعلنت عن رفضها مطالب العرب السنة الداعية إلى التأجيل. وقال البيان إن «حكومة الولايات المتحدة الأميركية تدعم بشدة إجراء الانتخابات الوطنية العراقية في شهر مايو 2018 تماشيا مع الدستور العراقي»، وإن من شأن تأجيل الانتخابات أن «يشكل سابقة خطيرة، فيقوّض الدستور ويضرّ بالتطور الديمقراطي في العراق على المدى البعيد». (صحيفة الشرق الأوسط).
وعلى الرغم من الإختلافات العديدة بين إيران وأمريكا حول العراق والسعي كل منهما إلى الإستحواذعلى العراق لوحده، إلاّ إنهما متفقان على إبقاء الوضع العراقي على ما هو عليه من تردي وفوضى وتدخل أجنبي وضعف السلطة، وإنتهاك للسيادة.
ثالثا. موقف الأمم المتحدة
رفضت الأمم المتحدة تأجيل الانتخابات في العراق مجاراة للموقف الأميركي، وذلك بعد تحذيرات أطلقتها الولايات المتحدة، مشددة على أن أي تأجيل سيشكل خطرا على الديمقراطية في البلاد. فقد أكد رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق يان كوبيتش، لرئيس الوزراء حيدر العبادي، في 19 يناير 2018 أن موقف الأمم المتحدة داعم لإجراء الانتخابات في موعدها المقرر له.
رابعا. موقف رجال الدين
يمكن القول بأن موقف رجال الدين من مختلف الأديان والمذاهب في العراق إجمالا كان إلى جانب إجراء الانتخابات في موعدها وتشجيع أتباعهم على المشاركة فيها. وقد رصدنا تلك المواقف وكما يلي: –
لم تشهد الانتخابات العراقية الثلاث السابق التي أجريت في 2006، و2010، و2014، معارضة كما تشهده الانتخابات الحالية. فقد تزايدت الأصوات المطالبة بتغيير الوضع السياسي القائم بعد إحتلالالعراق في 2003 وإسقاط مفهوم الدولة. وتنامى الغضب الشعبي من وجوه العملية السياسية المتكررة والتي تعيد إنتاجها نفسها في كل دورة إنتخابية منذ 15 سنة، وهي تفرض نفسها بالقوة بشكل لا يختلف كثيراً عن “الدكتاتورية السابقة” التي ظلَّوا ينتقدونها. ومن أبرز هذه الوجوه نوري المالكي وإبراهيم الجعفري وأياد علاوي، وصالح المطلك، وأسامة النجيفي وسليم الجبوري، وسلمان الجميلي، وظافر العاني، ويونادم كنا، وغيرهم.
أولا. موقف رجال الدين
ثانيا. الموقف الشعبي (مقاطعون)
تلجأ الأحزاب المعارضة في بعض الأحيان إلى مقاطعة الأصوات التي يشعرون إنها غير عادله أو غير شرعية، أو إذا كانت الانتخابات لحكومة تعتبر غير شرعية. فمثلا، أوعز الكرسي الرسولي إلى الكاثوليك الإيطاليين بمقاطعه الانتخابات الوطنية لعده عقود بعد إنشاء دوله إيطاليا.
وفي العراق، تكاد الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات العراقية تشكل رأيا شعبيا واسعا ولم تعد مجرد نقاشات بدأها مثقفون وكتاب وصحافيون على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد ظهرت هذه الرغبة الشعبية في مقاطعة الانتخابات البرلمانية نتيجة الدور البرلماني الضعيف في محاسبة المسؤولين الفاسدين الكبار والتلهي بصغار الفاسدين، إضافة إلى توجه البرلمان لإقرار إمتيازات مالية ضخمة لأعضائه فاقت نظيراتها في أكثر دول العالم تقدما، إضافة لتشريع لقانون تقاعد البرلمانيين الذي يمنحهم راتبا تقاعديا مدى الحياة حتى لو كانت خدمة البرلماني ليوم واحد فقط، مما ولَّد إنطباعاشعبيا عاما بأن البرلمان لا فائدة ترجى منه، وإن وجوده كعدمه، وإن عدد أعضائه (329) هو عدد كبير مقارنة بالدول ذات الكثافة السكانية كالهند وغيرها. كما إن نوعية القوانين التي يشرعها البرلمان لا تلبي طموحات العراقيين، خاصة وانه مثل رئيس الوزراء يتراجع عن أي خطوة إصلاحية يقررها بعد أيام قلائل، كما حدث عن تراجعه عن قراره باستبعاد ترشيح حملة الشهادة الإعدادية، مما يشير إلى نفوذ طبقة الفساد السياسي، ودخول العراق في نفق الدولة العميقة التي تمنع أي تغيير طفيف لصالح الشعب. إضافة إلى الأعداد الكبيرة للنازحين الذين ما زالوا يسكنون الخيام وما زالت مدنهم مدمرة بالكامل، وتبدو الانتخابات بمثابة تخويل للفاسدين للإستمتاع بالإمتيازات المالية والإيفادات وحتى عمليات التجميل مع بقاء المواطن على حاله البائس. حتى أطلق على البرلماني العراق في الإعلام الغربي بأنه أفسد مؤسسة في العراق.
وقد لاحت مظاهر المقاطعة بشكل واضح من خلال ضعف الإقبال على الانتخابات الذي إنعكس على رغبة المواطن في الإنتخاب، فمن أصل 53 ألف بطاقة ناخب في مناطق وسط بابل وجنوبها، لم يتم تحديث سوى 16 ألف بطاقة فقط أي بنسبة تقل عن 30 بالمئة، وهي نسبة ضعيفة جدا مقارنة بنسبة سكان تلك المناطق واستقرارها، إذا ما قورنت بمناطق شمال بابل التي تعاني من ضعف أمني ينعكس ضعفا في الإقبال على تحديث السجلات.
كما تثير مسألة إنفاق الملايين من الدولارات على الدعاية الانتخابية في بلد عانى ويلات الحروب ولجأ إلى الإقتراض الدولي يشكل إشكالية كبيرة، فقد بدا نظامه للإنفاق الانتخابي والدعاية للمرشحين “ارستقراطيا” حيث حددت المفوضية العليا للانتخابات السقف الأعلى للإنفاق للدعاية على المرشح الواحد في بغداد بمليون دولار، وللقائمة بمئة وأربعة وأربعين مليون دولارا، بينما حُدّدت نسب الأنفاقفي محافظة البصرة بثلاثمئة وخمسين ألف دولار وللقائمة الانتخابية بستة عشر مليون دولار. ورغم عدم وجود تقديرات رسمية لحجم الإنفاق الإنتخابي لهذا العام، إلا أن التقديرات غير الرسمية تتجاوز 12 مليار دولار، كان بالإمكان تحسين الخدمات العامة وتحقيق مستوى معيشي لائق بالمواطن العراقي.
إن هذا الموقف الشعبي قد ظهر بعد تجربة الإسلام السياسي في العراق لمدة 15 سنة وما جلبته للبلاد من كوارث وفساد وسرقات، كما أن أغلبية الشعب قد وصلت إلى قناعة مفادها إن الانتخابات محكومة بقانون إنتخابي يضمن للفاسدين بقاءهم في السلطة ضمن نظام إنتخابي يعتمد إسلوب سانت ليغوبنسبة 1،7، بالإضافة إلى مفوضية انتخابات غير مستقلة قائمة على المحاصصة السياسية وممثلة للكتل الكبيرة منها. كما إن التأثيرات الدولية التي تلي إعلان النتائج قد أفقدت المواطن الثقة بالإنتخابات كوسيلة للتغيير الحقيقي. وعلى سبيل المثال، ففي انتخابات عام 2010 فاز أياد علاوي، ولكن التأثيرات الأمريكية والإيرانية منحت السلطة لنوري المالكي، وفي انتخابات 2014 فاز المالكي إلا إن الولايات المتحدة منحتها لحيدر العبادي في طقوس باهتة هزيلة من قبل ثلاثة أشخاص هم فؤاد معصوم وسليم الجبوري وإبراهيم الجعفري داخل السفارة الأمريكية بعد أن أغرتهم بمناصب إشترطوها بأنفسهم. وهذا ما دفع الدكتور سعد ناجي جواد إلى القول: “عتب عليّ بعض الإخوانمطالبتي بمقاطعة الانتخابات القادمة، وقال لي أحدهم كيف تطالب بذلك وأنت الإنسان الذي يُؤْمِن بالديمقراطية وينادي بها منذ زمن بعيد. وفِي الوقت الذي أكرر فيه إيماني بالديمقراطية فاني مؤمن أيضا إن ما يجري في العراق منذ ٢٠٠٣ لا يمت إلى الديمقراطية بصلة، بل هي عملية فرخت الفساد وتسببت في نهب المال العام وأفقرت العراق والعراقيين بصورة غير مسبوقة وجعلت اغلب أبناء البلد أمامهجرين أو أرامل أو يتامى أو سكنة المقابر، ناهيك عن إيصال مزوري الشهادات والفاسدين وسراق المال العام إلى البرلمان والى المناصب الوزارية.” (صحيفة رأي اليوم في March 9, 2018).
إلا أنه يجب التفريق بين عدم المشاركة والمقاطعة. فعدم رغبة الناخب بالذهاب للإداء بصوته وإختيارالشخص المناسب لسبب غير سياسي ودون هدف محدد، مثل الرغبة في استغلال يوم الانتخابات للإسترخاء ولقضاء بعض الأعمال الخاصة، لا يعد موقفا سياسيا من مجمل العملية السياسية، وهو موقف مؤقت بوقت قصير جدا ليوم الإنتخاب فقط، ولا تؤثر عدم المشاركة على نتائج الانتخابات. بينما مقاطعة الانتخابات تنطلق من موقف سياسي يتمثل في الإعتراض على مجمل العملية السياسية، وعدم الرغبة في منح الشرعية لمن لا يستحق، والرغبة الجادة في التغيير. وهو موقف مستمر لحين تحقيق غاياته وقد يطول لفترة أربع سنوات قادمة، هي مدة الدورة البرلمانية.
كتب أحد أنصار فريق المقاطعة على الفيسبوك منتقدا الفريق الآخر قائلا: “بواقعة الطف شوهد أحد المسلمين يسلب بنات الحسين (ع) ويبكي. وعندما سألوه عن سبب بكائه، قال: لأني اسلب بنات الرسول؟ فقالوا له ولماذا تسلبهم إذا؟ فقال: لأني إن لم أسلبهم فسيأتي غيري ليسلبهن واخسر الغنيمة! هذا مثل مرشح البرلمان الذي يدعي التغيير لأن إذا لم يرشح نفسه فسيأتي غيره ليرشح نفسه ويفوز بتلك بالامتيازات.
فالمشكلة بالمنظومة السياسية وليس بالمرشحين ولا أعضاء العملية السياسية، فالمال السائب يعلم على السرقة“.
إن موقف المقاطعون للإنتخابات بحاجة إلى تطوير وتعزيز ليثبت وجهة نظره للعالم أجمع، وهذا يتطلب توحيد جهود أنصاره بشكل مكثف ليتمكن من مقاومة القوى المسيطرة على الساحة السياسية.
وهذا ما سنحاول دراسته بالتفصيل مستندين في ذلك إلى الجانب القانوني للمسألة.
-الانتخاب حق
يجب الإشارة إبتداءا إلى أن قانون الإنتخاب العراقي إعتبر الإنتخاب حق فقط، ومن مفهوم الحق يبدو أنه رخصة للمواطن جاز له استخدامها من عدمها. وهذا ما نصت عليه المادة 4 من تعديل قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم (45) لسنة 2013 الصادر في 4تشرين الثاني 2013 وتعديله في 27نيسان 2017، في الفصل الثاني منه، جاء فيها:
(حق الانتخاب)
مادة (4)
أولا- الانتخاب حق لكل عراقي ممن توافرت فيه الشروط المنصوص عليها في هذا القانون لممارسة هذا الحق دون تمييز بسبب الجنس أو العرق آو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي.
ثانيا- يمارس كل ناخب حقه في التصويت للانتخاب بصورة حرة ومباشرة وسرية وفردية ولا يجوز التصويت بالإنابة.
ومن هذه المادة نفهم بأن الإنتخاب ليس واجب، ولا يمكن إرغام المواطن أو إجباره على الإنتخاب، كما لا يمكن أن يرتب عدم الإدلاء بصوته أية عقوبات أو غرامات أو جزاءات لاحقة، رغم ذهاب بعض السياسيين إلى ذلك، إلا أن هذا الادعاء سقط بحكم القانون.
وأهم تساؤل لم يستطع أي من الطرفين، سواء الذاهبين للإنتخاب أو المقاطعين له، يكمن في نسبة المشاركة المطلوبة لإعتماد نتائج الانتخابات. وقد ذهب البعض إلى أن أي نسبة مشاركة تعد صحيحة، فيما عارض المقاطعون ذلك الرأي مدعين بأن نسبة المشاركة التي تقل عن 40% تعد غير مقبولة وفقا لمقاييس الأمم المتحدة. ولعدم دقة الرأيين المتناقضين فقد أقتضى التوقف عند هذه النقطة وتوضيحها.
وفقا للقواعد القانونية فإن المبدأ العام الذي يحكم في هذه الحالة هو المشاركة الكبيرة للمواطنين فيها، ولكن لا توجد نسبة محددة لذلك. وتعد المشاركة القوية للناخبين أمرا أساسيا لأقامه ديمقراطية سليمة. ونظرا لان الإقبال المنخفض يعزي عادة إلى فك الارتباط السياسي والاعتقاد بان التصويت لصالح مرشح/حزب أو آخر لن يؤدي إلى تغيير السياسة العامة، فان الديمقراطيات “المستقرة” تميل إلى الإقبال بدرجه أكبر من البلدان الأخرى. ويعزي انخفاض الإقبال إلى خيبه الأمل، أو اللامبالاة، أو الشعور بعدم الجدوى (التصور بان صوت المرء لن يحدث أي فرق). وعادة ما يعتبر انخفاض نسبه الإقبال أمرا غير مرغوب فيه. ونتيجة لذلك، بذلت تبذل جهود عديدة لزيادة إقبال الناخبين وتشجيع المشاركة في العملية السياسية.
ولا يعني الدستور بتحديد نسبة المشاركة، بل يشير إلى المبادئ العامة في الإنتخاب. وعادة ما تتضمن قوانين الإنتخاب تحديد نسب معينة للمشاركة، بحيث تتمتع الحكومة أو البرلمان أو الجهة المنتخبة بالشرعية اللازمة التي تؤهلها للعمل بثقة وإستقلالية. ومما يعيب على أي انتخابات قلة المشاركة فيها. وكثيرا ما لفق الدكتاتوريون إقبالا كبيرا في عرض الانتخابات لهذا الغرض.
وإذا كانت قلة نسبة المشاركة لا تلغي نتائج الإنتخابات إلاّ إنها لا تتيح لها البقاء والإستمرار. والمسألة يمكن تشبيهها بالزواج عن رضا وطيب خاطر أو عن غصب وإكراه، فكلاهما زواجان واقعان فعلا، ولكن الثاني مهدد بعدم الإستمرار والديمومة ويجعله أكثر عرضة للخيانة والإنفصال عند زوال أسباب الإكراه. وهكذا الانتخابات فهي في مضمونها عقد إجتماعي يخول فيه الشعب بعض الإشخاصلإدارة شؤونه وتحقيق مصالحه. والشعب صاحب الكلمة العليا في هذا العقد لأنه مصدر جميع السلطات، وهذا العقد هو أشبه بعقد الوكالة الذي يتضمن قيام شخص بتوكيل غيره بإدارة مصالحه على أكمل وجه، فإن أخَلَّ أو قَصَّر فيها جاز عزله وإلغاء توكيله.
إن مسألة سحب الثقة بالحكومة أو حل البرلمان أو حتى الثورة وسحب الشرعية من النظام السياسي القائم غير مقيدة أو محكومة بوقت معين، أو الإنتظار لحين إنتهاء دورة البرلمان أو الحكومة بل يمكن القيام بتلك الإجراءات في أي وقت يرى الشعب فيه أن الحكومة قد أحلت بعقدها الاجتماعي معه.
يمكن رصد بعض الحالات الغريبة في انتخابات العراق لعام 2018 ومنها: –
والى جانب كل هذا التشتت الانقسام الداخلي الواضح فإن هناك عامل دولي مؤثر ينذر بصراع دولي قريب في المنطقة، يتمثل في رغبة إدارة ترامب وبدفع سعودي وتحريض إسرائيلي وتعاون فرنسي وبريطاني على الحد من النفوذ الإيراني المتغلغل في الشرق الأوسط منذ أكثر من ربع قرن من خلال تعديل أو إلغاء الاتفاق النووي لعام 2015.
ما الذي يمكن أن نستنتجه من كثرة المرشحين الطموحين للوصول للبرلمان؟
إن أول إستنتاج يبرز من هذه الترشيحات هو السعي للتمتع بالمزايا المالية الكبيرة والحصانات المقررة لعضو البرلمان في ظل العطالة التي تضرب معظم مفاصل الحياة الاقتصادية في العراق، مما دفع حتى المعارضين والناقمين على الوضع السياسي الحالي إلى دخول حلبة السباق البرلماني بعد إستمرار الحكم الشاذ في العراق الذي جاءت به الولايات المتحدة للعراق. وهكذا دفعتهم الحاجة إلى تكرر مشهد الواقفون على جبل أحد بإنتظار الغنائم التي ربما قادت إلى هلاكهم. ومهما يكن من أمر، فإنه يمكن وصف هذه الانتخابات بما يلي:-
ما زال السؤال الذي يطرحه الجميع، ما هو الحل إذا؟
وقبل الإجابة على السؤال المطروح، نقول: أن التخلف هو المرض الأكثر فتكا بالشعوب ولهذا كان إلغاء التعليم أو تدني مستوياته أولى أهداف الأعداء، والإرتقاء بالتعليم أولى أهداف الوطنيين والحركات الوطنية، وكان العراق يتفوق حتى على الدول العظمى بمجانية التعليم في كل مراحله بعد صدور منذعام 1970، في حين أن هذه الميزة تفتقر لها حتى الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا التي تكلف الطالب الجامعي قرابة 250 ألف دولار، أو أكثر وحسب الجامعة والتخصص، والمرحلة الدراسية.
إن مثل هذه المزايا وغيرها من شأنها أن تجلب نقمة الدول العديدة من التطور المرتقب للعراق في غضون عَقد واحد. كما إن حملة الشهادات الجامعية يعدون ثروة وطنية تسعى الدول لإستقطابهممجانا. يضاف إلى ذلك، أن بلدا مثل العراق كان وما زال يعد من الدول الغنية بثرواتها الطبيعية، لذا فإن كثرة الأعداء أمر طبيعي في هذا المجال. كما إن القانون هو ضمانة الشعوب في الحفاظ على حقوقها وثرواتها، وأول ما تفعله الحكومات غير الوطنية هو تعطيل القانون لضمان سرقة ثروات الشعب دون عقاب.
يضاف إلى ذلك أمر أخر، وهو أن الجيش هو الحارس الفعلي للوطن، ومن عادة اللصوص إبعاد الحارس بأي ثمن أو قتله إن تطلب الأمر، وهذا ما حدث في العراق، عندما أصدر بول بريمر وبدفع من السياسيين الجدد قرارا بحَل الجيش العراقي.
ومن هنا يمكن القول وبكل جرأة ووضوح، إننا أمام مؤامرة كبيرة، وهذه المؤامرة لا تستهدف العراق فحسب بل المنطقة بأسرها. بدأت هذه المؤامرة منذ أكثر من 15 سنة وما زالت. لذا فإن إزالة أثارها السلبية والحفاظ على بعض نتائجها الإيجابية سيستغرق وقتا طويلا. وعلى القوى الوطنية توحيد قواها فيما بينها ووضع برنامجها الوطني في أقرب وقت. وكما قال أحد المرشحين الذي زار أمريكا قبل أيام: حقا إن العراق لم يعد فيه عراقيون، لأن معظم العراقيين هم هنا. ومن بقي هناك، ليسوا سوى مغامرين أو مقاتلين.
لذا نرى أن التغيير هو العنوان الأبرز في الانتخابات البرلمانية العراقية لهذا العام. فبعد موجة إحتجاجات شعبية منذ عام 2011 وتململ شعبي عراقي من تدهور الأوضاع العامة، وإستياء شعبي عارم من الأحزاب الإسلامية التي أستخدمت كمطية لتدمير العراق وإعادته عدة قرون إلى الوراء والقضاء على إنجازاته في التعليم والصحة والصناعة وغيره، ناهيك عن تبديد ثرواته القومية، فإن التغيير نحو الدولة المدنية بات ضرورة حتمية لإنتشال العراق والمنطقة من حالة التداعي المريع الذي بات يهدد الأمن والإستقرار في العالم أجمع.
د. رياض السندي
كاليفورنيا في 25 نيسان 2018