جرعة تخدير أم صحوة ضمير؟!
منذ مدة من الزمن ونحن نسمع ونشاهد في الاخبار السياسية، ان السيد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ينوي احداث تغييراً للوزراء في بعض الوزارات في تشكيلته الحكومية، وذلك بعد مرور اكثر من نصف عام على التظاهرات الشعبية الحرة التي عمت الشارع العراقي ضد الفساد والمفسدين، وعلى حزمة الاصلاحات التي قدمتها الحكومة والبرلمان، هذه الاصلاحات التي لم تزد الوضع والشأن العراقي الا بؤساً وفقراً وفساداً، فلا اصلاح ولا مصلحين، ولا حساب للمجرمين، ولا تحسن في أحوال الفقراء والمساكين، بل رجوع للوراء، ومزيد من البلاء، ولا رغد في العيش ولا هناء، لأن الفئة السياسية الحاكمة ليس لديها شيء يذكر، ولا ذرة من الاحساس والمشاعر والمسؤولية تجاه الشعب، فهم ليسو بصمٍ ولا بكمٍ ولا عميٍ وهم يعقلون، لكنهم يحتالون على الناس ويمكرون، وهمهم اشباع انفسهم وشهواتهم وبطونهم، ولكنهم لا يشبعون، حتى وأن اعطيتهم الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها، فهم للحق والنعمة والرزق سالبون سارقون، ولا يرتجى منهم اصلاح ولا مصلحون، هيهات ان يكون لهم ذلك ابد الدهر، وما من علاج لهم ولا تعديل واصلاح وتغيير، الا بحرقهم في سلة واحدة.
وكأن السيد العبادي قد كان في غفلةٍ وغفوةٍ من أمره ليأتي معلناً اليوم انه سيقوم بتغيير وزاري، للفاسدين والسراق، ممن سرقوا قوت الشعب العراقي وماله وثرواته، وقتلوا ابنائه وشردوا وهجروا أهله، واستباحوا حرماته، بما فعلوه من ازمات وخلافات وتناحرات وعنف وحروب، في الجسد الاجتماعي والحياتي والسياسي العراقي الراهن، انه لأمر مضحك ومحزن في نفس الوقت، بعد طول غياب للاصلاح والتصحيح والتغيير للوضع المأسوي المنحرف في الواقع الحكومي والسياسي العراقي، يخرج علينا المسؤول على الحكومة بحلول ترقيعية لا تسمن ولا تغني من جوع، وتنطبق الحكمة او القول الشائع (صمت دهراً ونطق كفراً) على مسؤولنا الحكومي الاعلى، وعلى جميع المتنفذين في السلطة، فسياسة كل مسؤول او سياسي في العراق تنبع من هذه الحكمة العظيمة، فهم في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، وواقع الحال هذا مرصود من قبل الشعب ومرفوض بشدة في نفس الوقت، لأن الشعب لم يضع نوابه وحكامه وخدامه، لينظروا اليهم وهم يسرقون ويفسدون، ويهدرون الثروات، ويشعلون فتيل الازمات والخلافات
بين ابناء البلد الواحد، كلا وألف كلا فللشعب كلمته ووقفته وصولته تجاه كل تلك الاخطاء والاخطار الكبرى التي تواجهه وتهدد حياته ووجوده ومستقبله.
الكل يعلم، علم اليقين ان الامر في العراق لا يصُلح بتغيير وزير او نائب او مسؤول، وانما يحتاج الامر الى ثورة تغييرية شاملة، والى سيادة النظام والقانون داخل البلد ومؤسساته واجهزته الحكومية والمدنية، والتغييرات الوزارية التي يريد اجراءها السيد العبادي مؤخراً هل ستؤدي الى سيادة القانون، ومحاربة الفساد، وأرجاع الثروات المنهوبة، واعادة الامن الى البلاد، واحداث تنمية اقتصادية كبرى، وتحسين الاوضاع الخدمية والعمرانية والاجتماعية والسياسية في البلاد؟ هل يستطيع السيد العبادي فعل ذلك حقاً، وهل هي مجرد جرعة تخدير تضاف الى سلسلة الجرعات التخديرية والاصلاحية التي تلقاها الشعب العراقي من لدن القيادة الحكيمة، أم هي صحوة ضمير جادة ينوي سيادته فعلها في الزمن الضائع الذي لا ينفع معه أي تغيير، وهل هذا هو نوع من الضرب بيد من حديد، ووعود وعهود ومواثيق وكلام فارغ ليس له تنفيذ، والحال نفس الحال، بل في زيادة من سوء وبؤس وفقر وعنف ودمار على كافة الاصعدة والمجالات.؟ هذا ما ستثبت حقيقته الايام القادمة.
هل تلك الصيحة الاخيرة التي اطلقها السيد العبادي هي لمرضاة المرجعية الدينية وأعادة كسبها من جديد، والتي بح صوتها من التوجيهات والارشادات والنصح المبين، والتي طلقت مؤخراً الخطب السياسية التي اعتدنا عليها كل يوم جمعة، بسبب عدم الالتفات الجاد للمسؤولين والسياسيين لتلك التوجيهات والخطابات، وكأن الكلام هواء في شبك، وكأن المرجعية والخطباء والشعب ينادون أناس من غير كوكب لم يصل اليهم الكلام، أهي مهزلة أم تغافل أم ضحك على الذقون، وهل المرجعية الدينية والشعب المنتفض والمتظاهر في جميع البلاد اضحوكة الى هذا الحد؟
لقد أدرك السيد العبادي انه لم يبق له من الوقت شيئاً، وأن المرجعية الدينية قد أعلنت موقفها الواضح من العملية السياسية برمتها، في خطابها الاخير ورسالة الصمت والصوم السياسي الذي اتخذته تجاه المسؤولين، وهي رسالة ببعدين :
الاول، للحكومة والسياسيين والمتنفذين والمسؤولين اجمع، أن خسرتم الرهان الاخير، ولم تبق لكم فرصة أخرى ومن شعبية تذكر، وأننا قد استنفدنا وأستنفرنا كل ما بوسعنا من طاقة وامكانات وتوجيهات، في سبيل اصلاح العملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكنكم لم تلتفتوا تماماً لكل ذلك الكلام، ولم تنفذوا منه ولا حتى الشيء البسيط، من اجل ارضاء الشعب المحروم والتوجيهات المتكررة.
الثاني، للشعب العراقي الذي قال كلمته، واعلن موقفه الشديد من الحكومة والسياسيين والمسؤولين الفاسدين، والذي كان يسير صفاً الى صف مع المرجعية الدينية، التي كانت والشعب صوت واحد وموقف موحد، فالمرجعية اليوم قد اعطت الضوء الاخضر للشعب ان قم بدورك وافعل ما يمليه عليك ضميرك وحسك الوطني وموقفك الانساني، تجاه القضية العراقية والشأن السياسي والحياتي السيء، فالله معك والمرجعية معك والحق معك، والقرار كله بيدك.
اعتقد ان الوضع اليوم، وبعد خطاب المرجعية الاخير وموقفها من العملية السياسية برمتها، اصبح اكثر خطورة وتعقيداً، ولم تستثمر الحكومة ولا جميع السياسيين والمسؤولين تلك التوجيهات والرسائل التي ارسلها الشعب والمرجعية الدينية لهم، وقد اضاعوا وضيعوا جميع الفرص الذهبية التي منُحت لهم، وقد طال الامد ونفد صبر الجميع من الانتظار، ومل الوعود والكلام، فلا امل يرجى ولا وعد ينُفذ ولا تصحيح لحال، فالفساد يزداد، واهل الباطل في عناد، وقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى، وليس هناك شجاع من سياسي او وزير او مسؤول يقول هذا انا، ليثبت وجوده ويعلن شرفه وحسن مسؤوليته ونواياه، ليقدم استقالته، او يشهر فضائح الحكومة والبرلمان والقضاء وفسادهم الى الناس، والتي لم ولن تخفى على احد قط.
كم تمنيت ان يكون السيد العبادي بطلاً سياسياً او قيادياً او حزبياً او سينمائياً، ليعلن موقفه المشرف والمشرق، من عدم امكانيته الحقيقية والواقعية من ادارته للحكومة العراقية، لا هو ولا وزرائه، ولا رئيس الجهورية، ولا نواب الدولة العراقية الموقرة، فالشعب على يقين تام ومطلق من ان ذلك الامر مستحيل، وانهم جميعاً يدورون في حلقة مفرغة، ولن يتحمل الشعب ولن يرتضي مزيداً من المصائب والازمات والخلافات التي اثقلته وافقدته الكثير من ثرواته وحقوقه وشبابه، ولن تنطلي تلك الخدعة او التخدير على المواطن العراقي، سواء في حزمة اصلاحاتٍ، او تغييرٍ وزاري، او تقليصٍ حكومي، فطوفان الفساد الحكومي والسياسي أعلى وأكبر من كل اصلاح او تغيير، والعملية السياسية في العراق فاسدة برمتها، ولن يرتجى اصلاح منها او تصحيح، فهل يمنح الميت الحياة للآخرين، او يبُتغى علاج من عليلٍ ومصاب بالسرطان لمن هو عليل ايضاً، كلا وألف كلا، فسفينتنا قد خُرقت وغرقت من قبل الخُرقاء، ولم يعد لنا من استقرار من ذوي القرار، ونحن في وضع لا نحسد عليه، وندعو من الله تعالى ان يأخذ بأيدينا الى بر الأمان وأن يجنبنا كل سوء ومكروه في قادم ايامنا، وأن يدرك الشعب العراقي اننا نمر بأزمة كبرى في حياتنا، ويجب ان نتكاتف جميعاً من اجل تجاوزها، وان لا ندع مجالاً لمن يريد شق صفوفنا، ويعكر حياتنا ومستقبلنا، فنحن من يقرر التغيير، ويُصلح ويُقر القرار، ولا صوت يعلوا فوق صوت الشعب، حين يهتف بالحق للحق والحقيقة، ومطالباً بسيادة العدل النظام والقانون، في وجه الفساد والظلم والظالمين.