22 نوفمبر، 2024 3:16 م
Search
Close this search box.

التغيير الفوقي والبديل المشوه!

التغيير الفوقي والبديل المشوه!

ربما كانت إيران وبعدها العراق الدولتان اللتان شملهما التغيير الفوقي أو الربيع السياسي المصنع الذي استبدل نظامين شموليين في دولتين مركزيتين صارمتين بأنظمة اشبه ما تكون بماكنة تفريخ دويلات تحكمها عقليات شمولية تنافس ما سبقها في الصرامة والعنف وما حصل في إيران والعراق من تعدد مراكز القرار وتشتت مؤسسات الدولة خير دليل على أن البديل لم يكن الا وليداً مشوها صنعته عقود طويلة من الحكم الشمولي المستبد، حيث عانت ولا تزال معظم دول الشرق الأوسط ومن دكتاتور أوحد أو حزب قائد، يفرض ثقافة أحادية لا تقبل الآخر إلا قطيعاً مطيعاً مستكيناً، رغم أن كل عمليات التجميل التي صاحبت هذه الأنظمة بإضافة مؤسسات كارتونية كالبرلمان والمنظمات الجماهيرية وغير الحكومية والأحزاب المستنسخة تحت شعارات سطحية كالديمقراطية والاشتراكية المفرغة تماماً من محتواها كما حصل في العراق وسوريا وإيران وغيرهم منذ عقود.
وإزاء هذا النمط من محاربة واحتواء قوى المعارضة الحقيقية وإفراغها من مضمونها سواء باستنساخها أو تصفية عناصرها في ظل نظام بوليسي مخابراتي محكم، أدركت أنها غير قادرة تماماً على إحداث تغيير نوعي في طبيعة تلك الأنظمة من خلال العمل المتاح لها في مساحات ضيقة جداً وربما مهيمن عليها، فاختارت واحداً من خيارين إما حمل السلاح وبدء حرب عصابات أو الهروب الى الخارج والعمل من خلال الصحافة والإعلام، وللأسف ومع بعض التأييد لتلك المحاولات إلا أنها هي الأخرى لم تنجح في تغيير تلك الأنظمة حتى تدخل الطرف الثالث (الدولي) كما حصل في كل من إيران وأفغانستان وبعدهما العراق وما تلا ذلك في ليبيا وتونس واليمن وأفغانستان ثانية وغيرها.
إن ما حصل بعد التغيير الذي أزاح هيكل إدارة تلك الأنظمة لم يتجاوز الفوضى لأنه فشل في تغيير ثقافة المجتمعات التي أدمنت الشمولية في نظاميها الاجتماعي والسياسي، وتم غسل أدمغتها بشعارات وأفكار وسلوكيات طيلة عقود من الزمن، حيث ترسبت فيها أفكار وسلوكيات تلك الأنظمة، وبدأت بعد سنوات قليلة من التغيير استخدام آليات الديمقراطية المفترضة لإيصال مجموعات وكتل طارئة الى مواقع السلطة دونما اختيار حقيقي حر من قبل الشعب، وبتأثير بالغ وهيمنة قبلية ومذهبية بل ومناطقية، ناهيك عن الدور الكبير للمال السياسي وثقافة المحسوبية والمنسوبية التي حولت معظم مؤسسات الدولة ووزاراتها الى إمارات قبلية او مذهبية واجتماعيه من ذات انتماء مسؤوليها، حتى غدا كثير من السلوكيات في تلك المؤسسات أقرب الى صبينة سياسية وإدارية أطاحت بهيبة الدولة ومؤسساتها ورموزها.
إزاء هذا النمط من الحكم فقد المواطن الكثير من آماله وتطلعاته في نظام بديل مختلف عن الأنظمة السابقة، خاصة وانه واجه بعد التغيير الفوقي صراعا على السلطة بين مجموعات متناحرة تمتلك أذرعا مسلحة مهيمنة وتمتلك أسلحة وتمويلاً خارجياً وداخلياً مما أهلها لتسلق سلالم المؤسسة التشريعية والتنفيذية من خلال هيمنتها على صناديق الاقتراع وإرهاب الأهالي او تخديرهم بشعارات دينية ومذهبية وقبلية أدى إلى إرباك عملية تأسيس نظام جديد حتى وصل الأمر الى أن تحولت تلك المجموعات الى دولة داخل الدولة، تمتلك سجوناً ومحاكم واستثمارات مالية وفرض ضرائب وأتاوات جعلت المواطن المجروح من دكتاتوريات الأنظمة السابقة، يحن اليها بل يتمنى للأسف عودتها الى الحكم الشمولي وقوة الدولة والقانون على حكم مهجن تتقاسمه الأديان والمذاهب والعشائر ومجموعات مسلحة لا هوية لها ولا انتماء الا إرهاب الأهالي والهيمنة على مقدراتهم تحت شعارات مخدِرة، مستغلة العمليات الإرهابية لمنظمة داعش التي أصبحت تمنح هذه المجموعات شرعيتها بغياب الدولة وضعف مؤسساتها العسكرية والأمنية.
إن المشكلة الحقيقية تكمن في التراكم الهائل لثقافة أحادية وتربية تلقينية ومنظومة اجتماعية تكلست فيها عادات وتقاليد وأعراف تتقاطع كليا مع أي توجه مدني ديمقراطي حقيقي، ولذلك فنحن إزاء تحدٍّ لا علاقة له بطبيعة النظام السياسي بل في النظامين الاجتماعي والتربوي اللذين ينتجان هذه الأنظمة، ويدعمانها بأدوات قبلية ومذهبية وعنصرية.

أحدث المقالات